منذ عدة أيام تجدّد الحديث حول التبرع بالأعضاء، بعدما أقدمت المواطنة المصرية دينا رضا على خطوة غير مسبوقة، حيث سجّلت توكيلاً رسميًا تُعلن فيه تنازلها عن أعضائها بعد وفاتها. دينا لم تكتفِ بذلك، وإنما دعت لتنفيذ مشروع قومي يُنظم التبرّع بالأعضاء في عموم مصر.
الأستاذة دينا رضا: بدأت التفكير في التبرع بأعضائي بعد الوفاة منذ 45 عامًا#مصر_جديدة#etc pic.twitter.com/zsIelnla9v
— etc tv (@etctvchannel) September 27, 2022
هذا الجدل سبق أن تكرّر منذ فترة قصيرة، بعدما صرّحت الفنانة إلهام شاهين بأنها ستتبرّع بكافة أعضاء جسدها بعد وفاتها.
وبسبب التباين الكبير الذي زامل ذلك الإعلان، خاصةً من الناحية الفقهية والسياسية، فإن أي خطوة في اتجاه التبرع بالأعضاء عادةً ما تكون مصحوبة بلغط كبير حول مدى "حُرمة" هذه الخطوة أو "حليتها"، وحول مدى مشروعية القيام بها من عدمه.
جدل فقهي لا ينتهي
قد تكون المعضلة الأكبر في هذا الأمر هو أنه نازلة مستجدة. فلم يتوقّع رجال الدين الأقدمون حدوث مثل هذه الخطوة إطلاقًا، وبالتالي لم يهتمّوا بتأصيل حكم شرعي لها، وهو ما ترك الباب واسعًا أمام اجتهادات شتّى في الوقت المعاصر.
رغم ذلك، يُمكننا التطرُّق إلى بعض المسائل الهامشية التي تعرّضت لها كُتب الفقه قديمًا في مسائل مُشابهة، مثلما فعل الفقيه الحنبلي أبو الحسن برهان الدين (المتوفى عام 593هـ)، حين حرّم بيع شعر الإنسان أو الانتفاع به لأن "الآدمي مكرم لا مبتذل"، وكذا فعل الفقيه علاء الدين الكاساني (المتوفى 587هـ) حين حرّم بيع العظام أو الشعر أو لبن المرأة باعتباره "جزءا من الآدمي، والآدمي بجميع أجزائه محترم، وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع والشراء".
وعلى ذلك سار شيوخ كُثر كالشربيني الخطيب وابن قدامة والنووي، معتبرين أن الأصل هو تحريم الانتفاع بأجزاء الإنسان بشكلٍ تجاري. أما ظاهرة زرع الأعضاء فلم يناقشها أحد، حتى لو من الافتراض.
الملفت أن هذا التعليل (تكريم جسد الإنسان) هو ما سيعتمده الكثير من الفقهاء المعاصرين كسبب للقول بتحريم التبرع بالأعضاء.
أيضًا، يعتبر الفقهاء أن هناك نوعين من "الحقوق" بخصوص جسد الإنسان؛ الأول هو "حق الإنسان على نفسه"، والثاني هو "حق الله في جسد الإنسان". ومن منطلق هذا التقسيم، حرّم الفقهاء قديمًا إتلاف الإنسان لأيٍّ من أعضاء جسده باعتباره اعتداء على حق الله، مثلما قال العز بن عبد السلام: "ليس لأحدٍ أن يُتلف أعضاء جسده من نفسه؛ لأن الحقَّ في ذلك كله مشتركٌ بينه وبين ربِّه".
ويعد هذا الرأي هو المنطلق الأساسي الثاني التي اعتمد عليه الفقهاء المعاصرون القائلون بحرمة التبرع بالأعضاء.
من بين هؤلاء، عالم الدين السعودي المعروف ابن باز الذي اعتبر أن التبرع بالأعضاء هو أحد أشكال التمثيل بالجسد، وكذلك الشيخ ابن العثيمين، الذي حرّم التبرع بالأعضاء تمامًا، وأفتى بعدم جواز نقل العضو من إنسانٍ لآخر، حتى لو أوصى الميت بذلك قبل الموت. في تلك الفتوى، أكد ابن العثيمين على ذات التبرير الفقهي القديم بأن الإنسان "لا يملك نفسه وإنما هو مملوك".
ظل هذا الفريق مُخلصًا للرأي الفقهي القديم بحظر أي استعمال لأعضاء الجسد، والذي لم يتخيّل مؤسسوه أن هذه الأعضاء قد تُستخدم في التداوي يومًا ما.
لم يتوقف هذا النهج على شيوخ السلفية السعودية، وإنما شاركهم فيه الشيخ محمد الشعراوي والفقيه حسن الشاذلي من مصر. وأضفى الأول بحُكم شهرته الكبيرة في أنحاء العالم الإسلامي ثِقلاً كبيرًا على اتجاه التحريم لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم.
حكم التبرع بالاعضاء الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه pic.twitter.com/p1cDOQRPQo
— 🍫🇦🇹HEBA mohamed 🏹🤍 (@HEBA_1911) September 27, 2022
على الطرف الآخر، أباح عددٌ من شيوخ الأزهر المعاصرين، مثل جاد الحق علي جاد الحق، ومحمد سيد طنطاوي، وأحمد هاشم، وعلي جمعة، نقل الأعضاء بشرط ألا يترتب على التبرع أي ضرر للإنسان المُتبرِّع.
هنا، مثلاً يعتبر علي جمعة، مفتى مصر السابق، أن نقل أعضاء حيوية من جسد إنسان وتعرّضه للوفاة، بسبب غياب الكفاءة الطبية، يعدُّ جريمة قتل تستحق المحاكمة، حتى لو تم النقل بموافقة صاحب العضو.
وعلى ذات النهج، تقريبًا سار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في فتواه التي أجاز فيها التبرع بالأعضاء بشرط ألا يكون هذا التبرع مصحوبًا بمقابل مالي. وكذلك أفتى يوسف القرضاوي بمشروعية أن يُوصي الميت قبل وفاته بنقل عضوٍ من أعضائه لأي شخص.
وبدورها تفتي دار الإفتاء المصرية بجواز التبرع بالأعضاء وفق الضوابط القانونية والطبية.
— دار الإفتاء المصرية 🇪🇬 (@EgyptDarAlIfta) September 25, 2022
وخلال تعليق أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، خالد عمران، على حالة الجدل المثارة مؤخرًا، ثمّن عمران خطوة التبرع بالأعضاء بشدة، بل اعتبرها من الصدقات التي يُجازى عليها الإنسان.
ماذا تقول القوانين العربية؟
في مصر، يخضع التبرع بالأعضاء للقانون رقم 5 الصادر عام 2010 والذي سمح للبشر بالتبرع بأعضائهم بشرط أن يكونوا أقارب حتى الدرجة الرابعة، كما وضع القانون عقوبة مغلّظة بحقِّ أي شخص يحاول استئصال أعضاء جسد الميت بدون موافقة طبية حكومية. وتصل هذه العقوبة إلى السجن المؤبد وغرامة مالية بـ300 ألف جنيه.
ونصّت المادة 61 من الدستور المصري على أن "التبرع بالأنسجة والأعضاء هبة للحياة، ولكل إنسان الحق فى التبرع بأعضاء جسده، أثناء حياته أو بعد مماته بموجب موافقة أو وصية موثقة".
وصرّح الدكتور محمد عوض تاج الدين، المستشار الصحي لرئيس الجمهورية، أن مصر تدرس إضافة اختيار التبرع بالأعضاء في بطاقة الرقم القومي على غرار ما هو معمول به في كثير من بلاد العالم.
أما في الإمارات، فإن القانون رقم 5 لسنة 2016 نظّم عملية نقل وزراعة الأعضاء وسمح للمواطنين بالتبرع بأعضائهم، وكان من نتائجه تأسيس المركز الوطني لتنظيم نقل وزراعة الأعضاء.
وهو نفس النهج الذي سار عليه العراق بعدما أقرَّ القانون رقم 11 لسنة 2016، الذي سمح للأفراد بالتبرع بأعضائهم بعد وفاتهم بموجب وصية أو بعد موافقة الورثة.
وفي المغرب، ينص القانون الصادر عام 1998، بشأن إباحة التبرع، على أنه "يمكن لكل راشد يتمتع بأهليته أن يعبر وهو قيد الحياة ووفق الأشكال والشروط المنصوص عليها في هذا الفصل الثاني عن إرادته ترخيص أو منع وأخذ أعضائه أو أعضاء معينة بعد مماته".
ومنذ عدة أشهر، أعلن خالد آيت الطالب، وزير الصحة والحماية الاجتماعية في المغرب، أن الحكومة تعمل على إعداد قانون جديد يخفّف من شروط التبرع بالأعضاء ويسمح بتوسيع قاعدة المشاركة.
أما السعودية فقد تبنّت مبادرة تحثُّ فيها الموطنين على التبرع بالأعضاء حظيت برعاية الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وأعلنت برنامجًا لتسجيل التبرع بالأعضاء. وهي الخطوة التي أيدتها هيئة كبار العلماء معتبرةً أن "التبرع بالأعضاء بعد الوفاة ليستفيد منها الآخرون، داخل في مشمول استبقاء الحياة والمحافظة عليها".
ماذا تعرف عن التبرع بالأعضاء؟#هم_بحاجتك pic.twitter.com/9MD0xhUGPA
— وزارة الصحة السعودية (@SaudiMOH) July 20, 2018