التبرع بالأعضاء

منذ عدة أيام تجدّد الحديث حول التبرع بالأعضاء، بعدما أقدمت المواطنة المصرية دينا رضا على خطوة غير مسبوقة، حيث سجّلت توكيلاً رسميًا تُعلن فيه تنازلها عن أعضائها بعد وفاتها. دينا لم تكتفِ بذلك، وإنما دعت لتنفيذ مشروع قومي يُنظم التبرّع بالأعضاء في عموم مصر.

هذا الجدل سبق أن تكرّر منذ فترة قصيرة، بعدما صرّحت الفنانة إلهام شاهين بأنها ستتبرّع بكافة أعضاء جسدها بعد وفاتها.

وبسبب التباين الكبير الذي زامل ذلك الإعلان، خاصةً من الناحية الفقهية والسياسية، فإن أي خطوة في اتجاه التبرع بالأعضاء عادةً ما تكون مصحوبة بلغط كبير حول مدى "حُرمة" هذه الخطوة أو "حليتها"، وحول مدى مشروعية القيام بها من عدمه.

 

جدل فقهي لا ينتهي

 

قد تكون المعضلة الأكبر في هذا الأمر هو أنه نازلة مستجدة. فلم يتوقّع رجال الدين الأقدمون حدوث مثل هذه الخطوة إطلاقًا، وبالتالي لم يهتمّوا بتأصيل حكم شرعي لها، وهو ما ترك الباب واسعًا أمام اجتهادات  شتّى في الوقت المعاصر.

رغم ذلك، يُمكننا التطرُّق إلى بعض المسائل الهامشية التي تعرّضت لها كُتب الفقه قديمًا في مسائل مُشابهة، مثلما فعل الفقيه الحنبلي أبو الحسن برهان الدين (المتوفى عام 593هـ)، حين حرّم بيع شعر الإنسان أو الانتفاع به لأن "الآدمي مكرم لا مبتذل"، وكذا فعل الفقيه علاء الدين الكاساني (المتوفى 587هـ) حين حرّم بيع العظام أو الشعر أو لبن المرأة باعتباره "جزءا من الآدمي، والآدمي بجميع أجزائه محترم، وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع والشراء".

وعلى ذلك سار شيوخ كُثر كالشربيني الخطيب وابن قدامة والنووي، معتبرين أن الأصل هو تحريم الانتفاع بأجزاء الإنسان بشكلٍ تجاري. أما ظاهرة زرع الأعضاء فلم يناقشها أحد، حتى لو من الافتراض.

الملفت أن هذا التعليل (تكريم جسد الإنسان) هو ما سيعتمده الكثير من الفقهاء المعاصرين كسبب للقول بتحريم التبرع بالأعضاء.

أيضًا، يعتبر الفقهاء أن هناك نوعين من "الحقوق" بخصوص جسد الإنسان؛ الأول هو "حق الإنسان على نفسه"، والثاني هو "حق الله في جسد الإنسان". ومن منطلق هذا التقسيم، حرّم الفقهاء قديمًا إتلاف الإنسان لأيٍّ من أعضاء جسده باعتباره اعتداء على حق الله، مثلما قال العز بن عبد السلام: "ليس لأحدٍ أن يُتلف أعضاء جسده من نفسه؛ لأن الحقَّ في ذلك كله مشتركٌ بينه وبين ربِّه".

ويعد هذا الرأي هو المنطلق الأساسي الثاني التي اعتمد عليه الفقهاء المعاصرون القائلون بحرمة التبرع بالأعضاء.

من بين هؤلاء، عالم الدين السعودي المعروف ابن باز الذي اعتبر أن التبرع بالأعضاء هو أحد أشكال التمثيل بالجسد، وكذلك الشيخ ابن العثيمين، الذي حرّم التبرع بالأعضاء تمامًا، وأفتى بعدم جواز نقل العضو من إنسانٍ لآخر، حتى لو أوصى الميت بذلك قبل الموت. في تلك الفتوى، أكد ابن العثيمين على ذات التبرير الفقهي القديم بأن الإنسان "لا يملك نفسه وإنما هو مملوك".

ظل هذا الفريق مُخلصًا للرأي الفقهي القديم بحظر أي استعمال لأعضاء الجسد، والذي لم يتخيّل مؤسسوه أن هذه الأعضاء قد تُستخدم في التداوي يومًا ما.

لم يتوقف هذا النهج على شيوخ السلفية السعودية، وإنما شاركهم فيه الشيخ محمد الشعراوي والفقيه حسن الشاذلي من مصر. وأضفى الأول بحُكم شهرته الكبيرة في أنحاء العالم الإسلامي ثِقلاً كبيرًا على اتجاه التحريم لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم.

على الطرف الآخر، أباح عددٌ من شيوخ الأزهر المعاصرين، مثل جاد الحق علي جاد الحق، ومحمد سيد طنطاوي، وأحمد هاشم، وعلي جمعة، نقل الأعضاء بشرط ألا يترتب على التبرع أي ضرر للإنسان المُتبرِّع.

هنا، مثلاً يعتبر علي جمعة، مفتى مصر السابق، أن نقل أعضاء حيوية من جسد إنسان وتعرّضه للوفاة، بسبب غياب الكفاءة الطبية، يعدُّ جريمة قتل تستحق المحاكمة، حتى لو تم النقل بموافقة صاحب العضو.

وعلى ذات النهج، تقريبًا سار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في فتواه التي أجاز فيها التبرع بالأعضاء بشرط ألا يكون هذا التبرع مصحوبًا بمقابل مالي. وكذلك أفتى يوسف القرضاوي بمشروعية أن يُوصي الميت قبل وفاته بنقل عضوٍ من أعضائه لأي شخص.

وبدورها تفتي دار الإفتاء المصرية بجواز التبرع بالأعضاء وفق الضوابط القانونية والطبية.

وخلال تعليق أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، خالد عمران، على حالة الجدل المثارة مؤخرًا، ثمّن عمران خطوة التبرع بالأعضاء بشدة، بل اعتبرها من الصدقات التي يُجازى عليها الإنسان.

 

ماذا تقول القوانين العربية؟

 

في مصر، يخضع التبرع بالأعضاء للقانون رقم 5 الصادر عام 2010 والذي سمح للبشر بالتبرع بأعضائهم بشرط أن يكونوا أقارب حتى الدرجة الرابعة، كما وضع القانون عقوبة مغلّظة بحقِّ أي شخص يحاول استئصال أعضاء جسد الميت بدون موافقة طبية حكومية. وتصل هذه العقوبة إلى السجن المؤبد وغرامة مالية بـ300 ألف جنيه.

ونصّت المادة 61 من الدستور المصري على أن "التبرع بالأنسجة والأعضاء هبة للحياة، ولكل إنسان الحق فى التبرع بأعضاء جسده، أثناء حياته أو بعد مماته بموجب موافقة أو وصية موثقة".

وصرّح الدكتور محمد عوض تاج الدين، المستشار الصحي لرئيس الجمهورية، أن مصر تدرس إضافة اختيار التبرع بالأعضاء في بطاقة الرقم القومي على غرار ما هو معمول به في كثير من بلاد العالم.

أما في الإمارات، فإن القانون رقم 5 لسنة 2016 نظّم عملية نقل وزراعة الأعضاء وسمح للمواطنين بالتبرع بأعضائهم، وكان من نتائجه تأسيس المركز الوطني لتنظيم نقل وزراعة الأعضاء.

وهو نفس النهج الذي سار عليه العراق بعدما أقرَّ القانون رقم 11 لسنة 2016، الذي سمح للأفراد بالتبرع بأعضائهم بعد وفاتهم بموجب وصية أو بعد موافقة الورثة.

وفي المغرب، ينص القانون الصادر عام 1998، بشأن إباحة التبرع، على أنه "يمكن لكل راشد يتمتع بأهليته أن يعبر وهو قيد الحياة ووفق الأشكال والشروط المنصوص عليها في هذا الفصل الثاني عن إرادته ترخيص أو منع وأخذ أعضائه أو أعضاء معينة بعد مماته".

ومنذ عدة أشهر، أعلن خالد آيت الطالب، وزير الصحة والحماية الاجتماعية في المغرب، أن الحكومة تعمل على إعداد قانون جديد يخفّف من شروط التبرع بالأعضاء ويسمح بتوسيع قاعدة المشاركة.

أما السعودية فقد تبنّت مبادرة تحثُّ فيها الموطنين على التبرع بالأعضاء حظيت برعاية الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وأعلنت برنامجًا لتسجيل التبرع بالأعضاء. وهي الخطوة التي أيدتها هيئة كبار العلماء معتبرةً أن "التبرع بالأعضاء بعد الوفاة ليستفيد منها الآخرون، داخل في مشمول استبقاء الحياة والمحافظة عليها".

مواضيع ذات صلة:

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
عراقية تتظاهر أمام مبنى محكمة الأحول الشخصية في بغداد ضد زواج القاصرات في العراق

تحظى التعديلات المقترحة على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959 بدعم كبير من رجال الدين الشيعة والسنة في العراق. لكن بعض رجال الدين من الطائفتين سجّلوا مواقف معارضة لهذه التعديلات.

المرجع الشيعي العراقي المعروف كمال الحيدري، وهو أحد المراجع الكبار في حوزة قم في إيران، ظل طوال السنوات الماضية معارضا  للتعديلات التي طرحت أكثر من مرة حول قانون الأحوال الشخصية.

أتباع الحيدري ومؤيدوه سارعوا إلى نشر مقاطعه وفيديوهاته القديمة، والتي تضمنت مقابلات وخطبا أجراها في الأعوام السابقة يشرح فيها الأسباب التي تدفعه إلى معارضة تعديل القانون.

ينطلق الحيدري في مواقفه الرافضة من اعتقاده أن القوانين العراقية، في بلد بمكونات دينية وإثنية مختلفة، يجب أن تغطي جميع الفئات وأن يحتكم إليها الجميع، لا أن يكون لكل فئة قانونها الخاص بها.

ويعتبر الحيدري أن على "المرجع الديني توجيه مقلديه إلى اتباع القانون، حتى لو خالف ذلك رسالته العملية وفتاويه".

وتمنح التعديلات المطروحة الحق للعراقيين في اختيار اللجوء إلى إحدى مدونتين، شيعية وسنية، يتم إعدادهما من قبل المجلسين السنّي والشيعي بهدف تقديمهما إلى البرلمان.

وتتخوف المنظمات النسائية من أن يؤدي اللجوء إلى هاتين المدونتين الباب أمام تشريع زواج القاصرات، وكذلك إجراء تعديلات جوهرية على إجراءات حضانة الأطفال بشكل يضر حقوق المرأة.

Iraqis Shiite Muslim worshippers gather outside the of Imam Moussa al-Kadhim shrine, who died at the end of the eighth century,…
كان "سابقاً لعصره".. خلفيات إقرار قانون الأحوال الشخصية العراقي 1959
أعاد النقاش حول قانون الأحوال الشخصية في العراق إلى الواجهة، الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صدور القانون المعمول به حالياً في عام 1959، خصوصاً بعد المطالبة بتعديله من قبل نوّاب من كتل سنيّة وشيعية في البرلمان.

رجل دين شيعي آخر، هو حسين الموسوي، أعلن بشكل مباشر معارضته للتعديلات المطروحة على القانون.

أكد الموسوي في أكثر من منشور له على موقع "أكس"‏ رفضه المستمر "لتعديل قانون الأحوال في ‎العراق، رفضًا تامًا لا نقاش فيه!".

وقال الموسوي، مستخدما وسم #لا_لتعديل_قانون_الأحوال_الشخصية: "أقول لبناتنا وشبابنا بضرورة التحرك بكل الطرق الممكنة لمنع الفئة الضالة من الهيمنة على المستقبل بعد سرقتهم الماضي".

في الجانب السنّي، يبرز موقف رئيس رابطة أئمة الأعظمية الشيخ مصطفى البياتي المعارض للتعديلات على القانون. 

وطالب البياتي في حديث صحافي الجهات التي طرحت التعديلات بسحبها "حفاظاً على وحدة العراق وحفاظاً على كرامة المرأة العراقية من هدرها على يد أناس لا يرقبون في حفظ كرامتها أي ذمة".

البياتي رأى في النقاشات التي تخاض في مجلس النواب وخارجه "ترسيخًا للطائفية بعد أن غادرها العراقيون، ومخالفة للأعراف المعتمدة في البلد".

رجل دين سنّي آخر، هو عبد الستار عبد الجبار، سجّل مواقف معارضة للتعديل. وقال في إحدى خطب الجمعة التي ألقاها في المجمع الفقهي العراقي إن "زواج القاصرات موضوع عالمي، العالم كله يرفضه، وهو ليس ديناً".

وتابع: "لا يوجد نص يقول إنه يجب أو مستحب زواج القاصرات. هو موضوع كان شائعاً في الجاهلية وسكت الإسلام عنه، والعالم الآن لا يحبه، وهذا لا يتعارض مع الإسلام لأن زواج القاصرات ليس من أصول الإسلام". 

وسأل عبد الجبار: "لماذا هذا الإصرار على هذه القضية؟ هل الإسلام جوهره زواج القاصرات مثلاً؟ إلى متى نبقى هكذا؟". ودعا إلى التفكير بعقلية "أريد أن أبني بلدي، وليس أن أنصر طائفتي على حساب الطوائف الأخرى".

ولم تعلن المرجعية الدينية الشيعية في النجف موقفاً حاسماً من التعديلات المطروحة حاليا، وإن كان مكتب المرجع الأعلى علي السيستاني قال في رد على سؤال ورد إليه عام 2019 إنه "ليس لولي الفتاة تزويجها إلا وفقاً لمصلحتها، ولا مصلحة لها غالباً في الزواج إلا بعد بلوغها النضج الجسمي والاستعداد النفسي للممارسة الجنسية". 

وأضاف المكتب أنه "لا مصلحة للفتاة في الزواج خلافاً للقانون بحيث يعرّضها لتبعات ومشاكل هي في غنى عنها".