عرف الألباني برفضه الشديد ومعارضته للسياسة. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)
عرف الألباني برفضه الشديد ومعارضته للسياسة. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

يحظى الفقيه ورجل الدين المعروف، ناصر الدين الألباني، بمكانة خاصة في الأوساط الإسلامية المحافظة. يعدّه الكثيرون واحداً من أهم الآباء الروحيين للسلفية المعاصرة. فقهيا، عُرف الألباني بأبحاثه في مجالي السنة والحديث. واشتهر بكتابيه ذائعي الصيت "سلسلة الأحاديث الصحيحة" و"سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة". من هو الألباني؟ ولماذا رفض المشاركة في العمل السياسي؟ وكيف نظر لأهم الجماعات الدينية - السياسية التي عاصرها؟

 

من هو الألباني؟

 

هو ناصر الدين محمد بن الحاج نوح بن نجاتي. ولد في سنة 1914م في مدينة أشقودرة، العاصمة القديمة لألبانيا. درس أبوه علوم الدين في إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية حينذاك. ورجع بعدها إلى ألبانيا ليصبح واحداً من كبار فقهاء المذهب الحنفي. اضطرت أسرة الألباني للهجرة إلى سوريا، بعدما تم التضيق على رجال الدين بسبب توسع الدولة الألبانية في سياستها التحديثية ورفضها المظاهر الإسلامية ولا سيما الأزياء الدينية للنسائية ومنها النقاب والحجاب.

التحق الألباني في دمشق بالمدارس الرسمية. وتمكن من الحصول على الشهادة الابتدائية. بعدها أخرجه أبوه من سلك التعليم النظامي ووضع له منهجاً دراسياً في العلوم الدينية. حفظ الألباني القرآن ودرس الحديث وعلم النحو والتجويد وكتب الفقه على المذهب الحنفي، كما أخذ عن والده مهنة إصلاح الساعات لتصبح مصدر قوته. درس الألباني كذلك على يد عدد من علماء الشام المعروفين في تلك الفترة، مثل محمد سعيد البرهاني، ومحمد بهجة البيطار.

في خمسينات القرن العشرين، اختارته كلية الشريعة في جامعة دمشق ليشارك في تخريج بعض الأحاديث الواردة في موسوعة الفقه الإسلامي. وبعدها، عمل في تدريس علوم الحديث في الجامعة الإسلامية بالمدينة لعدة سنوات. في سنة 1999، مُنح الألباني جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية. وفي الثاني من شهر أكتوبر من السنة نفسها توفى الألباني في العاصمة الأردنية عمان.

 

من السياسة ترك السياسة

 

اشتهر ناصر الدين الألباني بموقفه الرافض للمشاركة في العمل السياسي بشكل عام. وعُرف بمقولته الشهيرة "من السياسة ترك السياسة".  بحسب ما جاء في كتاب "سُؤالات الحلبيِّ لشَيخِه الألبانيِّ" فإن ناصر الدين اعتقد بأن الهدف الأهم للجماعات السلفية يتمثل -بالمقام الأول- في الدعوة الدينية. يقول الألباني موضحاً هذا الرأي: "لا ننصحُ إخوانَنا السلفيِّين في أرضِ الله الواسعةِ في كلِّ بلدٍ إسلاميٍّ أن يعملوا عملًا سياسياً، ولو كان هذا العمل نابعًا من أنفسِهم فضلاً عن أن يكونوا في العمل تبعًا لغيرِهم". في السياق نفسه، أكد الألباني مراراً على عدم الانضمام للأحزاب السياسية الحديثة التي عرفتها الكثير من الدول العربية والإسلامية، باعتبارها نوعا من التفرقة بدل التجمع على كلمة واحدة.

تسببت أفكار الألباني الرافضة للمشاركة في العمل السياسي في إعلانه عن بعض الآراء الغريبة إلى حد بعيد. على سبيل المثال، جاء في فتاويه أن أحد الطلبة سأله عن أهل فلسطين، وهل يجب عليهم أن يهاجروا من بلدهم الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي. فأجاب الألباني بأنه يجب عليهم الخروج منها أسوة بهجرة النبي إلى المدينة. يقول: "يجب أن يخضع عقلك ورأيك لشرعك، لا تخضع شرعك لعقلك. لأنه -لا تؤاخذني- مهما كان عقلك جباراً وكبيراً جدًا فأنت لا تساوي شيئاً بالنسبة لعقل الرسول الذي نزل عليه الوحي أولاً ثم طبقه كما أنزل عليه ثانياً، فهو الذي هاجر من مكة إلى المدينة". تعرضت تلك الفتوى لسهام الانتقاد من جانب العديد من رجال الدين المعاصرين للألباني. على سبيل المثال رد عليها الشيخ السوري محمد سعيد رمضان البوطي منتقداً الفتوى ووصف الألباني بـ“الشّيخ المشبوه”.

على الرغم من حرصه الشديد على البعد عن العمل السياسي فقد تعرض الألباني للحبس والاعتقال أكثر من مرة. وقع ذلك في سنة 1967م عندما قبضت عليه الشرطة السورية وسجنته في قلعة دمشق لمدة شهر قبل أن تفرج عنه عقب اندلاع الحرب مع إسرائيل. قُبض على الألباني مرة أخرى بعد شهور معدودة وحُبس في سجن الحسكة شمال شرق سوريا لمدة تقترب من ثمانية أشهر. كذلك ذكر الألباني في كتابه مختصر صحيح البخاري أنه خضع للإقامة الجبرية في الكثير من الأحيان. وأنه مُنع من إلقاء دروسه وحيل بينه وبين طلابه ومريديه في بعض الفترات.

 

موقفه من الإخوان وجماعة التبليغ

 

عُرف الألباني بانتقاده الشديد لبعض الجماعات الإسلامية التي مارست العمل السياسي المنظم في الكثير من الدول العربية. على سبيل المثال وجه الألباني سهام نقده لجماعة "الإخوان المسلمين" التي تأسست في مصر في ثلاثينات القرن العشرين. لمّا سُئل الألباني عن موقفه من مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا أجاب: "حسن البنا أولاً ليس رجل علم إنما هو رجل دعوة، ونفع الله به الشباب المسلم حيث أنقذهم من القهاوي والسينمات...إلى آخره، هذا لا شك ولا ريب فيه؛ لكن وين كتب حسن البنا الذي تدل على علمه؟ أبوه الذي اسمه عبد الرحمن له بعض الكتب تدل على علمه، لكن ابنه حسن البنا ما له إلا بعض الرسائل الصغيرة، هذه الرسائل الصغيرة كمنهج لدعوته يعني، لكن لا تدل على أن الرجل كان عالماً؛ فالذي يقول أنا على الكتاب والسنة وعلى منهج حسن البنا، هذا دليل على أنه مغمض عيونه ومستسلم لهوى الحزبية العمياء".

لم يكتف الألباني باتهام الإخوان بممارسة العمل الحزبي "المكروه" بل انتقد منهجهم ودعوتهم كذلك. ينقل عبد الرحمن الحارثي في كتابه "جهود الشيخ الألباني في الدعوة إلى الله" عن شيخه قوله: "أما جماعة الإخوان المسلمين فهم يقولون إن دعوتهم قائمة على الكتاب والسنةَّ. ولكون هذا مجرد كلام، فهم لا عقيدة تجمعهم، فهذا ماتريدي، وهذا أشعري، وهذا صوفي، وهذا لا مذهب له. ذلك لأن دعوتهم قائمة على مبدأ: كتّل جمّع ثمّ ثقّف، والحقيقة أنه لا ثقافة عندهم، فقد مرّ عليهم أكثر من نصف قرن من الزمان ما نبغ فيهم عالم. وأما نحن فنقول: ثقّف ثمّ جمّع، حتى يكون التجميع على أساس مبدأ لا خلاف فيه".

تحالف مع المماليك وحارب المغول: كيف نفهم علاقة ابن تيمية بالسياسة؟
عاش الفقيه ابن تيمية الحراني المتوفى 728 للهجرة، في فترة تاريخية حرجة، شهد هزيمة الخلافة العباسية على يد المغول، وانتصار المماليك على المغول، تنوعت مواقفه السياسية والدينية وأثارت الكثير من الجدل حتى بعد وفاته.

اتهم الألباني أيضاً قيادات الإخوان بالجهل. قال في أحد الدروس: "كثير من أفراد الإخوان المسلمون يهرفون بما لا يعرفون، ويتلفظون بما لا يعلمون، لقد سئلت أكثر من مرة أن زعيم الإخوان المسلمين في الجزائر يقول: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام اليوم في هذا العصر للبس (الجاكت) و(البنطلون) وعقد (الكفتة). الإنسان إذا تكلم بجهل فلا يقف أمام جهله شيء، وهذا الكلام من هذا القبيل".

على الجانب الآخر، لم تسلم جماعة "التبليغ والدعوة" أيضاً من سهام الألباني الناقدة. ظهرت جماعة التبليغ والدعوة للمرة الأولى في الهند في عشرينات القرن العشرين على يد الداعية محمد إلياس الكاندهلوي. وانتشرت فيما بعد في العديد من البلدان الإسلامية. وكان من تقاليدهم الخروج إلى "دعوة الناس" إلى الإسلام بشكل جماعي.

قامت الكثير من الدول بحظر أنشطة جماعة التبليغ، ومنها كل من إيران وروسيا وطاجيكستان. في السنوات الأخيرة انضمت المملكة العربية السعودية لقائمة الدول التي حظرت أنشطة جماعة التبليغ. وفي ديسمبر سنة 2021م وجّهت وزارة الشؤون الدينية السعودية خطباء الجوامع والمساجد بتخصيص خطبة الجمعة لـ "بيان ضلال هذه الجماعة وانحرافها وخطرها، وأنها بوابة من بوابات الإرهاب، وإن زعموا أنهم خلاف ذلك".

جاء في فتاوى الألباني: "جماعة التبليغ لا تقوم على منهج كتاب الله وسنَّة رسوله عليه السلام وما كان عليه سلفنا الصالح. وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا يجوز الخروج معهم؛ لأنه ينافي منهجنا في تبليغنا لمنهج السلف الصالح. ففي سبيل الدعوة إلى الله يخرج العالِم، أما الذين يخرجون معهم فهؤلاء واجبهم أن يلزموا بلادهم وأن يتدارسوا العلم في مساجدهم، حتى يتخرج منهم علماء يقومون بدورهم في الدعوة إلى الله. وما دام الأمر كذلك فعلى طالب العلم إذن أن يدعو هؤلاء في عقر دارهم، إلى تعلم الكتاب والسنَّة ودعوة الناس إليها. وهم - أي جماعة التبليغ - لا يعنون بالدعوة إلى الكتاب والسنَّة كمبدأ عام؛ بل إنهم يعتبرون هذه الدعوة مُفَرِّقة".

 

علاقته بجهيمان وحادثة الحرم

 

في سنة 1979، قام جهيمان العتيبي زعيم ما يعرف باسم "جماعة السلفية المحتسبة" بالسيطرة على الحرم المكي. تمكن العتيبي من حشد الكثير من أتباعه، ووضع أسس دعوته في رسالته "الإمارة والبيعة والطاعة". بحسب ما يذكره ناصر الحزيمي -وهو أحد الأنصار السابقين للعتيبي- في كتابه "أيام مع جهيمان: كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة"، فإن جهيمان أذاع بين مريديه أن صهره محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر. لاقت دعوة جهيمان قبولاً بين العديد من الأتباع. وفي نوفمبر سنة 1979، تمكنت الجماعة السلفية المحتسبة من الدخول إلى الحرم المكي واحتلته، قبل أن تقتحمه القوات الأمنية وتقضي على الحركة.

ربط الكثير من الباحثين بين أفكار الألباني والسلفية المحتسبة. واعتبروا أن حركة جهيمان إنما قامت -بالأساس- على أفكار الألباني السلفية. في يونيو سنة 2021م أُثير الجدل من جديد في السعودية حول علاقة الشيخ الألباني بجماعة السلفية المحتسبة وبزعيمها جهيمان العتيبي وذلك بعد أن قامت قناة الإخبارية السعودية ببث تقرير يتحدث عن "الجماعات الإرهابية". جاء في التقرير أن ناصر الدين الألباني هو مؤسس جماعة أهل الحديث، التي "انبثقت منها جماعات أخرى أبرزها الجماعة السلفية المحتسبة، والتي ساهم أفرادها بالتعدي على مهام الدولة والقيام بأعمال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

هذه الاتهامات في الواقع غير جديدة، بل ظهر في حياة الألباني. وقد رد عليها في بعض التسجيلات الصوتية القديمة. ذكر الألباني في واحد من تلك التسجيلات أنه كان على علاقة مع بعض المتورطين في حادثة احتلال الحرم المكي. لكنه في الوقت ذاته رفض أن يكون مسؤولاً عما وقع في تلك الأحداث.

قال الألباني: "حادثة المسجد الحرام هي وقعت بلا شك من جماعة معروفون أنهم سلفيون، ينتمون للدعوة السلفية، هَيْ من جهة، ومن جهة أخرى محسوبين عليَّ أنُّو تلامذتي أنا؛ علمًا أن هؤلاء لو كانوا من الجيل هاللي تلقَّوا العلم على يديَّ يوم كنت أستاذ مادة الحديث وفقه الحديث في الجامعة الإسلامية من قبل خمسة عشر سنة كنَّا نقول والله محتمل هدول ربَّاهم الشيخ الألباني وهَيْ أثر تربيته، لكن هؤلاء ما أدركوني هناك، وإنما هم يتثقَّفون ببعض هذه الآثار التي لنا من المطبوعات، هذا هو الثقافة الأوسع، ثقافة نادرة جدّاً كان لي رحلتين إلى تلك البلاد عمرة في رمضان والحج إلى بيت الله الحرام، فكانوا يلتقون معي يوم يومين، في كل يوم ساعة وساعتين وبس، فحُسِبوا هدول علينا".

مواضيع ذات صلة:

قَتل داعش خلال الأيام الأولى من الهجوم، بحسب الأرقام التي وثقتها مديرية شؤون الأيزيديين، 1293 أيزيديا.
في أقل من ثلاثة أيام، استعبد داعش أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال

يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين": "المُلك والدين توأمان. فالدين أصل والسلطان حارس. وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع". تشير تلك العبارة إلى العلاقة الوثيقة بين الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي. استعان السلطان بالفقيه ليشركه معه في قضايا الدولة والحكم. وبالمقابل، كثيرا ما عبّرت الفتاوى الدينية التي أصدرها الشيوخ والعلماء عن الإرادة السياسية للدول وأصحاب السلطة. 

في هذا المقال نلقي الضوء على مجموعة من الفتاوى المتعصبة في التاريخ الإسلامي التي بررت لأصحاب السلطة القتل والعنف، كما لعبت دورا مؤثراً في تأجيج الفتن والصراعات الطائفية والاجتماعية عبر القرون.

 

فتوى الغزالي ضد الإسماعيلية

 

عاش أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري. وحظي بمكانة مرموقة في الدولة السلجوقية التي فرضت سيطرتها على مساحات واسعة في كل من إيران والعراق وآسيا الوسطى. في هذا السياق، كتب الغزالي كتابه الشهير "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، والذي هاجم فيه الشيعة الإسماعيلية، والذين كانوا الأعداء اللدودين للسلاجقة في هذا الوقت.
 في هذا الكتاب، هاجم الغزالي جميع طوائف الشيعة قبل أن يفتي بتكفير الإسماعيلية منهم على وجه التحديد بسبب موقفهم من تأويل بعض الآيات القرآنية. فقال: "والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير مَن يعتقد شيئاً من ذلك، لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها". 

الآغا خان الرابع كريم الحسيني الزعيم الروحي للإسماعيلية النزارية.
"الأقلية الأكثر علمانية".. كيف عاش الإسماعيليون الثورة السورية؟
الإسماعيلية هي الجماعة الشيعية الأكبر بعد الاثني عشرية، ويمتد وجودها إلى أكثر من 25 دولة، كما يقدر أتباعها بحوالي 12 مليونا، ينتشرون في آسيا الوسطى وجنوب آسيا والصين وإيران وكينيا وسوريا واليمن، وبعض دول القارة الأوروبية، كما يوجدون في أميركا أيضا.

بعدها، حكم الغزالي بردة الإسماعيلية: "والقول الوجيز فيهم أنه يُسلك لهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة... ولا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم، ولا إلى المن والفداء، وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم". 

اُستخدمت تلك الفتوى على نحو سيء من قِبل السلطة السلجوقية. بموجبها، قُتل المئات من الشيعة في شتى أنحاء إيران، كما اُضطهد الآلاف منهم بسبب انتمائهم المذهبي. بعد سنوات من إصدار تلك الفتوى، اختار الغزالي أن يتنازل عن كل المميزات التي حصل عليها من الدولة السلجوقية، وترك عمله في المدرسة النظامية، لينطلق في رحلة طويلة في العديد من البلدان الإسلامية. على الرغم من أنه لم يُعلن صراحةً عن تراجعه عن فتوى تكفير الإسماعيلية، إلا أن بعض أفكاره الميالة للتسامح ظهرت بشكل واضح في العديد من كتبه المتأخرة، ولا سيما كل من "إحياء علوم الدين"، و"فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة".

 

فتوى ابن تيمية في أهل كسروان

 

عاش الفقيه الحنبلي تقي الدين ابن تيمية في القرن السابع الهجري. وعُرف بأفكاره الحادة التي مالت لتفسيق وتكفير العديد من الفرق الإسلامية المعاصرة له. في هذا السياق، اشتهر ابن تيمية بجملته "يُستتاب وإلا قُتل". وهي الجملة التي اعتاد أن يرد بها على العديد من الأسئلة التي وجهت إليه من قِبل طلابه ومريديه، كما تُعد فتوى تكفير أهل كسروان (في لبنان حاليا) واحدة من بين أكثر الفتاوى الدموية التي قال بها ابن تيمية طوال حياته.

يذكر الباحث جمال باروت في كتابه "حملات كسروان.. في التاريخ السياسي لابن تيمية" أن هناك اختلافاً كبيراً حول دين ومذهب أهل كسروان الذين أفتى ابن تيمية بتكفيرهم. والمُرجح أنهم كانوا من الشيعة الإمامية الاثني عشرية. يذكر باروت أن أهل كسروان هاجموا الجيش المملوكي المنهزم أمام المغول في معركة وادي الخزندار سنة 699ه، وأن المماليك كانوا ينتظرون الفرصة المواتية للانتقام منهم.

أفتى ابن تيمية بتكفير أهل كسروان، ومنح المماليك بذلك السند الشرعي للقتال. يقول ابن تيمية واصفا أهل كسروان: "إن اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر وبيعة الرضوان، وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك الإسلام وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شرّ من الكافر الأصلي". 

بموجب تلك الفتوى تحركت الجيوش المملوكية في سنة 1304 إلى منطقة كسروان. وقُتل المئات من السكان المسالمين، في واحدة من أبشع المذابح الدموية التي عرفها التاريخ الإسلامي.

وبعث ابن تيمية رسالة تهنئة إلى الملك الناصر بعد نجاح حملته ضد أهل كسروان. يقول فيها: "إن ما من الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام".

من الجدير بالذكر، أن تلك الفتوى تخالف العديد من الفتاوى الدينية التي قال بها علماء مسلمون آخرون على مر القرون. وهي الفتاوى التي لا ترى في الاختلاف المذهبي سبباً للكفر أو الخروج عن الدين.

 

فتاوى الصراع العثماني الصفوي

 

في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، اندلعت الحرب الدموية بين العثمانيين والصفويين. كانت العراق ميداناً لتلك المواجهات الدموية التي اختلط فيها السياسي بالديني. وتبادل الطرفان الانتصار والهزيمة لمرات عديدة، قبل أن تُعقد بينهما بعض المعاهدات السلمية في منتصف القرن السادس عشر.

خلال تلك المعارك الطاحنة، تم استدعاء الأبعاد المذهبية في الصراع. كان العثمانيون على مذهب أهل السنة، بينما كان الصفويون شيعة إمامية اثني عشرية. وتبادل الطرفان العديد من الفتاوى الدموية التي عملت على صبغ الحرب بالصبغة الطائفية.

على سبيل المثال، في سنة 1541م، كتب أحد رجال الدين العثمانيين السنة، ويُدعى حسين بن عبد الله الشرواني، رسالة بعنوان "الأحكام الدينية في تكفير القزلباش". أفتى الشرواني في تلك الرسالة بجواز قتل الشيعة. وقال إن "مَن قتل واحداً من هذه الطائفة الملعونة، فكأنما قتل وغزا سبعين نفراً من أهل الحرب بل أكثر". على الجهة المقابلة، كتب العالم الشيعي محمد باقر المجلسي كتابه الموسوعي "بحار الأنوار"، وأفتى فيه بتكفير عدد كبير من الصحابة. وقال بأن "كل مَن يحبهم -أي الصحابة- كافر، وكل مَن يشك في كفرهم فلعنة الله ورسوله عليه وعلى كل مَن يعتبرهم مسلمين، وعلى كل مَن لا يكفّ عن لعنهم".

 

فتوى قتل الإخوة للحفاظ على العرش

 

هناك أيضاً بعض الفتاوى التي أباحت إراقة الدماء للحفاظ على العرش والمُلك. من أشهر ذلك النوع من الفتاوى فتوى قتل الإخوة التي أفتى بها بعض رجال الدين في الدولة العثمانية. يذكر المؤرخ التركي المعاصر خليل إينالجيك، في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار"، أن السلطان محمد الفاتح أكد صراحةً على حق السلطان الجديد في التخلص من أعدائه المحتملين، حتى ولو كانوا من إخوته. نص الفاتح على ذلك في القوانين التي أصدرها تحت اسم "قانون نامة". ورد في تلك المجموعة: "وأيّ شخصٍ يتولّى السُّلطة من أولادي فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم". لكن العديد من الباحثين يشككون في صحة "قانون نامة"، ويشددون على أن السلطان محمد الفاتح لم يصدر أبداً نصاً بإباحة قتل الأخوة.

وبغض النظر عن مدى صحة "قانون نامة"، فإن بعض الفقهاء لم يترددوا في تأييد هذا الطرح. على سبيل المثال، قال الفقيه الحنبلي مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه المشهور "قلائد العقيان في فضائل آل عثمان": "ومن فضائل آل عثمان قتل أولادهم الذكور خوفاً من الفتن، وفساد ملكهم واختلاف الكلمة وشق العصا بين المسلمين، وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحد فيما أعلم. وهو وإنْ كان أمراً ينفر منه الطبع السليم بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبير ونفع كثير".

أيد الكرمي فتواه بآراء مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين أجازوا للسلاطين العثمانيين القتل والاغتيال في سبيل الحفاظ على السلطة. بموجب تلك الفتوى تم قتل العديد من الأمراء العثمانيين، كما أقدم بعض السلاطين على إعدام إخوته خوفاً من تمردهم عليه في المستقبل. 

هوجمت تلك الفتوى على نطاق واسع من جانب أكثر رجال الدين المسلمين في القرون السابقة. واُعتبرت فتوى شاذة، وأنها سقطة في تاريخ الدولة العثمانية. 

 

فتوى الخميني بهدر دم سلمان رشدي

 

صدرت في سنة 1988م رواية آيات شيطانية للكاتب البريطاني سلمان رشدي. أثارت الرواية ردود أفعال غاضبة واسعة النطاق. بعث متشددون برسائل تهديد للمؤلف ولدار النشر التي أصدرت الرواية. ومُنع الكتاب من التداول في أغلبية الدول الإسلامية، كما خرجت عشرات المظاهرات للتنديد به في كل من الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وإيران، والسودان، وغيرها. وأُحرق عدد كبير من نسخ الرواية في إنجلترا من قِبل المسلمين المحتجين.

لكن تظل الفتوى الصادرة عن رجل الدين آية الله الخميني، المرشد الأعلى السابق للجمهورية في إيران أشهر ردود الأفعال الغاضبة. أهدر الخميني دم سلمان رشدي بصفته مرتداً، وقال في فتواه: "إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون "الآيات الشيطانية" الذي ألف وطبع ونشر ضد الإسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته قد حكموا بالموت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الإسلام، ومن يُقتل في هذا الطريق فهو شهيد".

بسبب تلك الفتوى، تعرض رشدي للعديد من محاولات الاغتيال. كانت آخر تلك المحاولات تلك التي وقعت في الثاني عشر من أغسطس سنة 2022م، عندما تعرض الكاتب البريطاني للطعن في عنقه من قبل متطرف أثناء استعداده لإلقاء محاضرة في قاعة بولاية نيويورك الأميركية. من جهة أخرى، تعرضت فتوى الخميني لانتقاد العديد من المفكرين المسلمين، والذين رأوا فيها دعوة لنشر الإرهاب الفكري. 

 

فتوى تصفية جماعة الإخوان المسلمين

 

سقط حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في الثالث من يوليو سنة 2013م. زُج بعناصر جماعة الإخوان المسلمين في السجون. وشهدت مصر سلسلة من أحداث العنف التي لم تتوقف على مدار عدة سنوات. في هذا السياق، أفتى بعض رجال الدين المؤيدين للسلطة الجديدة بإباحة اللجوء للقوة ضد عناصر جماعة الإخوان المسلمين لكونها "جماعة إرهابية تخريبية" تستهدف إسقاط الدولة المصرية.

كانت فتوى مفتي مصر الأسبق علي جمعة من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق. أفتى جمعة في أحد المؤتمرات التي حضرها العشرات من القيادات العسكرية بجواز قتل عناصر الجماعة. شبههم في فتواه بالخوارج ووصفهم بكلاب أهل النار. وتابع قائلاً: "اضرب في المليان، إياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء... طوبي لمن قتلهم، وقتلوه... كان يجب أن نطهر مدينتنا من هؤلاء الأوباش... يجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب". انتقد الكثيرون كلام علي جمعة، وشددوا على خطأ تلك الفتوى وأنها صدرت لأهداف سياسية.

 

فتاوى داعش ضد الأيزيديين 

 

في سنة 2014م، اجتاحت قوات تنظيم "داعش" شمال العراق. وتمكنت من السيطرة على الموصل ونينوى، ليجد الأيزيديون الذين يعيشون في تلك المنطقة أنفسهم أمام واحد من أكثر التنظيمات المتطرفة في العالم في الفترة الأخيرة.

في أقل من ثلاثة أيام، استعبد داعش أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال. وبعد شهرين من احتلال سنجار، وزع التنظيم على مقاتليه كتيبا من 10 صفحات بعنوان "سؤال وجواب في السبي والرقاب"، أباح فيه سبي الأيزيديات، كما يرد في مقال سابق على "ارفع صوتك".

تعرضت فتوى داعش في حق الأيزيديين للانتقاد من قبل الكثير من الشخصيات والمؤسسات الإسلامية. من بينها دار الإفتاء المصرية، التي وإن لم تنكر تشريع الإسلام للسبي في الأصل، فقد اعتبرته بات محرما في الوقت الراهن.

في سنة 2015، أصدرت الدار، بناء على طلب من اتحاد علماء كردستان العراق، فتوى تقول إن مشاركة الدول الإسلامية في الاتفاقيات المتعلقة بإلغاء الرق في العالم تلغي الرق شرعيا.

واستشهدت دار الإفتاء بالاتفاقية الدولية لتحرير الرق في برلين سنة 1860 التي شاركت فيها دولة الخلافة العثمانية واتفاقية منع الرق سنة 1926 التي وقعتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم.

بالنسبة لدار الافتاء المصرية، تعطل هذه الاتفاقيات كل أحكام الرق شرعيا. تقول الدار "بذلك ارتفعت كل أحكام الرقيق وملك اليمين المذكورة في الفقه الإسلامي لذهاب محلها، وصار الاسترقاق محرما لا يجوز".