A Shi'ite Muslim man reads the Koran during the holy month of Ramadan at Imam Ali Shrine in the holy city of Najaf
صورة تعبيرية من العراق- رويترز

أثارت التصريحات الأخيرة للشيخ السعودي صالح المغامسي بخصوص وضع مذهب فقهي جديد، ردود أفعال جدلية. وتساءل الكثيرون عن إمكانية وضع الأسس لمذهب فقهي جديد في عالمنا المعاصر، وعن شرعية القيام بذلك الفعل أساساً.

في هذا المقال، نسلط الضوء على أهم المذاهب الفقهية الإسلامية وقصص تأسيسها وتطورها على مرّ القرون.

 

المذهب الحنفي

يُنسب هذا المذهب للفقيه أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن مرزُبان الكوفيّ، الذي ولد عام 80هـ، ويُعدّ تابعياً، لأنه التقى بعض الصحابة.

وتتلمذ أبو حنيفة على يد حماد بن أبي سليمان، ولمّا توفي عام 120هـ، خلفه أبو حنيفة في التدريس والمشيخة.

اشتهر بميله إلى التوسع في استخدام القياس، الشيء الذي عارضه العديد من الفقهاء الذين مالوا للاعتماد بشكل كامل على الحديث النبوي. من هنا فإن المذهب الحنفي عُرف باسم مذهب أهل الرأي، بينما عُرفت المذاهب المعارضة له بمذهب أهل الحديث.

من جهة أخرى، اصطدم أبو حنيفة، الذي عُرف باسم "الإمام الأعظم"، بالسلطة أكثر من مرة، سواء في زمن الأمويين أو العباسيين. واشتهر عنه تأييده لثورتي زيد بن علي ومحمد النفس الزكية على الترتيب.

توفي أبو حنيفة عام 150هـ بعد أن تعرض للضرب والحبس على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ورغم وفاته، اُستكمل بناء المذهب الحنفي على يد أشهر تلاميذ النعمان، وهما القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني.

شيئاً فشيئاً وضعت الأسس الثابتة للمذهب، وصارت أصوله المعتمدة هي القرآن، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

وانتشر المذهب الحنفي في مساحات واسعة من بلدان العالم الإسلامي المشرقي على وجه الخصوص، وتبنته العديد من الدول الحاكمة مثل الدولة العباسية، والدولة السلجوقية، والدولة العثمانية.

 

المذهب المالكي

يُنسب هذا المذهب للفقيه المحدّث مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، الذي ولد في المدينة المنورة عام 93هـ على أرجح الأقوال.

درس على يد عدد كبير من الشيوخ والعلماء، منهم كل من ربيعة الرأي، وابن شهاب الزهري، وهشام بن عروة. مما يُنقل عن الإمام مالك في هذا المعنى "...ما جلست -يقصد جلس للتدريس- حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك"، وذلك بحسب ما يذكر محمد أبو زهرة في كتابه "الإمام مالك".

جمع الإمام مالك آلاف الأحاديث النبوية في كتابه الأشهر المعروف باسم "الموطأ". نُقل عن القاضي عياض قوله واصفاً أهمية هذا الكتاب: "لم يُعتنَ بكتاب من كتب الفقه والحديث اعتناءَ الناس بالموطأ، فإن الموافق والمخالف أجمع على تقديمه وتفضيله وروايته وتقديم حديثه وتصحيحه، وقد اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك عددٌ كثيرٌ من المالكيين وغيرهم من أصحاب الحديث والعربية".

توفى عام 179هـ، ولم يضع في حياته كتاباً مخصوصاً في توضيح الأصول التي اعتمد عليها مذهبه الفقهي، ورغم ذلك استنبط الفقهاء المالكيين الذين قدموا من بعده تلك الأصول من خلال ما نُقل من فتاوى مالك وأقواله.

وقالوا إن أصول مذهبه هي القرآن، والسنة النبوية، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب.

لاقى المذهب المالكي انتشاراً كبيراً في المدينة المنورة، وفي مصر والسودان، كما أضحى المذهب الغالب في المغرب الإسلامي بشكل عام، ثم انتشر في عموم الأندلس بعدما تبنّته دولة بني أمية، بدءاً من عهد الأمير هشام الرضا.

كذلك انتشر المذهب المالكي في أفريقيا -تونس الحالية- في النصف الأول من القرن الثالث في زمن حكم الأغالبة الهجري على يد الفقيه سحنون التنوخي.

الجدير ذكره، أن المذهب المالكي صار أحد مكونات الهوية الإسلامية المغربية، لمّا فرض العثمانيون سيطرتهم على المشرق الإسلامي في بدايات القرن السادس عشر الميلادي فرضوا المذهب الحنفي في الكثير من المناطق، أما المغرب الإسلامي فاحتفظ بالمذهب المالكي تعبيراً عن استقلاله السياسي عن الإمبراطورية العثمانية.

 

المذهب الشافعي

يُنسب هذا المذهب للفقيه محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ، الذي ولد في غزة بفلسطين عام 150هـ. وعُرف منذ صغره بالذكاء وسرعة الحفظ، وفي ذلك يُنقل عنه قوله: "حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين".

سافر الشافعي في رحلة طويلة لطلب العلم فزار الحجاز واليمن وبغداد، وتتلمذ على يد العديد من الشيوخ والفقهاء المشهورين في شتى البلدان، ومن أهمهم كل من الإمام مالك، ومحمد بن الحسن الشيباني.

في عام 199هـ وصل الشافعي إلى مصر وظل مقيماً بها حتى وفاته عام 204هـ، وألف فيها كتابه "الرسالة"، الذي يُعدّ واحداً من أشهر كتبه على الإطلاق. وفيه وضح الشافعي أصول مذهبه الفقهي، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، والقياس.

يوضح محمد أبو زهرة في كتابه "الإمام الشافعي"، الأهمية التي مثلها الشافعي في المجال الفقهي في زمنه، بالقول: "كان الناس قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً سقطوا في أيديهم عاجزين متحيرين، وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي رضيَ الله عنه فكان عارفاً بسنة رسول الله، محيطاً بقوانينها، وكان عارفاً بآداب النظر والجدل قوياً فيه، وكان فصيحَ الكلام، قادراً على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذاً في نصرة أحاديث رسول الله، وكل من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاءُ أهل الرأي على أصحاب الحديث".

كُتب للمذهب الشافعي الاشتهار والذيوع بعد وفاة الشافعي بقرون، وقع ذلك في القرن الخامس الهجري في عصر الدولة السلجوقية، حيث كان الوزير الفارسي نظام الملك الطوسي شافعياً متحمساً لنشر مذهبه الفقهي بين الناس.

أقام نظام الملك المدارس المعروفة باسم المدارس النظامية في كل من بغداد، وأصفهان، وطوس، ونيسابور وغيرها من حواضر العراق وإيران. واستقدم كبار العلماء الشافعية للتدريس في تلك المدارس، من أهمهم أبو إسحق الشيرازي المتوفى، وعبد الملك بن عبد الله الجويني، وأبو حامد محمد بن محمد الغزالي.

في أواسط القرن السادس الهجري، أسقط صلاح الدين الأيوبي الدولة الفاطمية الشيعية وأقام الدولة الأيوبية، فعمل صلاح الدين -الشافعي المذهب- على نشر مذهبه بين الناس في شتى عموم دولته في مصر والشام. في ذلك يقول تاج الدين السبكي في كتابه "طبقات الشافعية": "هذان الإقليمان -يقصد مصر والشام- مركز ملك الشافعية منذ ظهر مذهب الشافعية، اليد العالية لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم".

كذلك انتشر المذهب الشافعي بين الأكراد في العراق وسوريا وآسيا الصغرى وإيران. يفسر الباحث عبد الباري عزيز عثمان في بحثه "الكرد والمذهب الشافعي" اختيار الكرد للمذهب الشافعي على وجه التحديد بقوله: "إن تمذهب الكرد بمذهب الإمام الشـافعي جاء بعد أن رأى الكرد أن الترك تمذهبوا بمذهب الإمام الحنفي، والفرس تبنوا التشيع، والكرد لهــم نزعة استقلالية فكان تمذهبهم بالشافعي ليكونوا مختلفين عـن الشـعوب المحيطة بهم...".

 

المذهب الحنبلي

يُنسب هذا المذهب للفقيه المحدّث أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي، الذي ولد في بغداد عام 164هـ. وسافر في طلب الحديث النبوي فزار بلاد الحجاز وتهامة واليمن، واشتهر  بموقفه الرافض للقول بخلق القرآن في زمن الخليفة المأمون ومن بعده الخليفة المعتصم والخليفة الواثق.

تذكر المصادر التاريخية السنية أن ابن حنبل تعرض للتعذيب والحبس والتضييق في تلك الفترة. في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري انتهت تلك المحنة بعدما تولى الخليفة المتوكل على الله السلطة، وسمح لابن حنبل بمواصلة التدريس ورواية الحديث.

بشكل عام، يُنظر لابن حنبل باعتباره محدثاً أكثر مما يُنظر إليه باعتباره فقيهاً. لم يصرح ابن حنبل بالأسس التي بنى عليها آراءه الفقهية، ولكن علماء الحنابلة الذين ساروا على دربه من بعده أوضحوا أن المذهب الحنبلي يقوم على مجموعة من الأسس وهي القرآن، والسنة النبوية، وفتوى الصحابة، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والمصالح، والذرائع.

لم يُكتب للمذهب الحنبلي الانتشار على نطاق واسع كما وقع للمذاهب السنية الثلاث المتقدمة. انتشر الحنابلة في بعض أحياء بغداد، ودخلوا في مصادمات عنيفة مع الشيعة والأحناف والشافعية في الكثير من الأحيان.

كذلك انتشر المذهب الحنبلي في شبه الجزيرة العربية في بعض مناطق نجد وما حولها، في العصر الحديث اصطبغت أغلب الدول الخليجية بالمذهب الحنبلي وذلك بعدما وقع التحالف بين الفقيه الحنبلي محمد بن عبد الوهاب وأمير الدرعية محمد بن سعود بن محمد آل مقرن في القرن الثامن عشر الميلادي.

 

المذهب الجعفري

يُنسب المذهب الجعفري إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق المتوفى عام 148هـ، وهو سادس الأئمة عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية.

يمكن القول إن تسمية المذهب الجعفري مكافئ لتسمية المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، وإن كان المقصود بالأول المذهب الفقهي الذي يعتنقه الشيعة الإمامية.

يؤمن الشيعة الإمامية بأن النبي نص على ولاية وإمامة علي بن أبي طالب بشكل واضح وصريح في غدير خم في الثامن عشر من ذي الحجة عام 10هـ، ويعتقدون أنه تم النص كذلك على إمامة أحد عشر إمامًا بعد علي، وهم الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، وأخيرًا الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري.

يعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام الأخير اختفى عن أنظار الناس في سامراء عام 329هـ، وأنه يعيش الآن في مكان غير معلوم، ويؤمنون أنه سوف يظهر مرة أخرى في آخر الزمان عندما يزيد الظلم والجور والفساد في الأرض.

ظهرت بعض الدول التي تبنت المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري وعملت على نشره عبر القرون. من أهم تلك الدول، البويهية الفارسية التي شاطرت الخلافة العباسية الحكم والسطوة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ودولة المغول الإيليخانيين التي حكمت العراق في القرنين السابع والثامن الهجريين، والدولة الصفوية التي حكمت إيران في الفترة ما بين القرن العاشر- القرن الثاني عشر الهجري. 

على الصعيد الفقهي، يوجد خلاف داخل المذهب الجعفري بين المدرسة الإخبارية والمدرسة الأصولية. يرى الإخباريون أن القرآن والحديث النبوي وأحاديث أئمة الشيعة هي المصادر الوحيدة للفقه واستنباط الحكم الشرعي، وظهرت تلك المدرسة في أوائل القرن الحادي عشر الهجري على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادي.

بينما يعتمد الأصوليون على أربعة مصادر وهي القرآن والسنة والإجماع والعقل، ويرون بالاجتهاد وبضرورة اتباع "مرجع التقليد"، وفي ذلك المعنى يقول الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه "عقائد الإمامية": "وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشروط أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله...".

مواضيع ذات صلة:

قَتل داعش خلال الأيام الأولى من الهجوم، بحسب الأرقام التي وثقتها مديرية شؤون الأيزيديين، 1293 أيزيديا.
في أقل من ثلاثة أيام، استعبد داعش أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال

يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين": "المُلك والدين توأمان. فالدين أصل والسلطان حارس. وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع". تشير تلك العبارة إلى العلاقة الوثيقة بين الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي. استعان السلطان بالفقيه ليشركه معه في قضايا الدولة والحكم. وبالمقابل، كثيرا ما عبّرت الفتاوى الدينية التي أصدرها الشيوخ والعلماء عن الإرادة السياسية للدول وأصحاب السلطة. 

في هذا المقال نلقي الضوء على مجموعة من الفتاوى المتعصبة في التاريخ الإسلامي التي بررت لأصحاب السلطة القتل والعنف، كما لعبت دورا مؤثراً في تأجيج الفتن والصراعات الطائفية والاجتماعية عبر القرون.

 

فتوى الغزالي ضد الإسماعيلية

 

عاش أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري. وحظي بمكانة مرموقة في الدولة السلجوقية التي فرضت سيطرتها على مساحات واسعة في كل من إيران والعراق وآسيا الوسطى. في هذا السياق، كتب الغزالي كتابه الشهير "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، والذي هاجم فيه الشيعة الإسماعيلية، والذين كانوا الأعداء اللدودين للسلاجقة في هذا الوقت.
 في هذا الكتاب، هاجم الغزالي جميع طوائف الشيعة قبل أن يفتي بتكفير الإسماعيلية منهم على وجه التحديد بسبب موقفهم من تأويل بعض الآيات القرآنية. فقال: "والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير مَن يعتقد شيئاً من ذلك، لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها". 

"الأقلية الأكثر علمانية".. كيف عاش الإسماعيليون الثورة السورية؟
الإسماعيلية هي الجماعة الشيعية الأكبر بعد الاثني عشرية، ويمتد وجودها إلى أكثر من 25 دولة، كما يقدر أتباعها بحوالي 12 مليونا، ينتشرون في آسيا الوسطى وجنوب آسيا والصين وإيران وكينيا وسوريا واليمن، وبعض دول القارة الأوروبية، كما يوجدون في أميركا أيضا.

بعدها، حكم الغزالي بردة الإسماعيلية: "والقول الوجيز فيهم أنه يُسلك لهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة... ولا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم، ولا إلى المن والفداء، وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم". 

اُستخدمت تلك الفتوى على نحو سيء من قِبل السلطة السلجوقية. بموجبها، قُتل المئات من الشيعة في شتى أنحاء إيران، كما اُضطهد الآلاف منهم بسبب انتمائهم المذهبي. بعد سنوات من إصدار تلك الفتوى، اختار الغزالي أن يتنازل عن كل المميزات التي حصل عليها من الدولة السلجوقية، وترك عمله في المدرسة النظامية، لينطلق في رحلة طويلة في العديد من البلدان الإسلامية. على الرغم من أنه لم يُعلن صراحةً عن تراجعه عن فتوى تكفير الإسماعيلية، إلا أن بعض أفكاره الميالة للتسامح ظهرت بشكل واضح في العديد من كتبه المتأخرة، ولا سيما كل من "إحياء علوم الدين"، و"فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة".

 

فتوى ابن تيمية في أهل كسروان

 

عاش الفقيه الحنبلي تقي الدين ابن تيمية في القرن السابع الهجري. وعُرف بأفكاره الحادة التي مالت لتفسيق وتكفير العديد من الفرق الإسلامية المعاصرة له. في هذا السياق، اشتهر ابن تيمية بجملته "يُستتاب وإلا قُتل". وهي الجملة التي اعتاد أن يرد بها على العديد من الأسئلة التي وجهت إليه من قِبل طلابه ومريديه، كما تُعد فتوى تكفير أهل كسروان (في لبنان حاليا) واحدة من بين أكثر الفتاوى الدموية التي قال بها ابن تيمية طوال حياته.

يذكر الباحث جمال باروت في كتابه "حملات كسروان.. في التاريخ السياسي لابن تيمية" أن هناك اختلافاً كبيراً حول دين ومذهب أهل كسروان الذين أفتى ابن تيمية بتكفيرهم. والمُرجح أنهم كانوا من الشيعة الإمامية الاثني عشرية. يذكر باروت أن أهل كسروان هاجموا الجيش المملوكي المنهزم أمام المغول في معركة وادي الخزندار سنة 699ه، وأن المماليك كانوا ينتظرون الفرصة المواتية للانتقام منهم.

أفتى ابن تيمية بتكفير أهل كسروان، ومنح المماليك بذلك السند الشرعي للقتال. يقول ابن تيمية واصفا أهل كسروان: "إن اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر وبيعة الرضوان، وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك الإسلام وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شرّ من الكافر الأصلي". 

بموجب تلك الفتوى تحركت الجيوش المملوكية في سنة 1304 إلى منطقة كسروان. وقُتل المئات من السكان المسالمين، في واحدة من أبشع المذابح الدموية التي عرفها التاريخ الإسلامي.

وبعث ابن تيمية رسالة تهنئة إلى الملك الناصر بعد نجاح حملته ضد أهل كسروان. يقول فيها: "إن ما من الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام".

من الجدير بالذكر، أن تلك الفتوى تخالف العديد من الفتاوى الدينية التي قال بها علماء مسلمون آخرون على مر القرون. وهي الفتاوى التي لا ترى في الاختلاف المذهبي سبباً للكفر أو الخروج عن الدين.

 

فتاوى الصراع العثماني الصفوي

 

في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، اندلعت الحرب الدموية بين العثمانيين والصفويين. كانت العراق ميداناً لتلك المواجهات الدموية التي اختلط فيها السياسي بالديني. وتبادل الطرفان الانتصار والهزيمة لمرات عديدة، قبل أن تُعقد بينهما بعض المعاهدات السلمية في منتصف القرن السادس عشر.

خلال تلك المعارك الطاحنة، تم استدعاء الأبعاد المذهبية في الصراع. كان العثمانيون على مذهب أهل السنة، بينما كان الصفويون شيعة إمامية اثني عشرية. وتبادل الطرفان العديد من الفتاوى الدموية التي عملت على صبغ الحرب بالصبغة الطائفية.

على سبيل المثال، في سنة 1541م، كتب أحد رجال الدين العثمانيين السنة، ويُدعى حسين بن عبد الله الشرواني، رسالة بعنوان "الأحكام الدينية في تكفير القزلباش". أفتى الشرواني في تلك الرسالة بجواز قتل الشيعة. وقال إن "مَن قتل واحداً من هذه الطائفة الملعونة، فكأنما قتل وغزا سبعين نفراً من أهل الحرب بل أكثر". على الجهة المقابلة، كتب العالم الشيعي محمد باقر المجلسي كتابه الموسوعي "بحار الأنوار"، وأفتى فيه بتكفير عدد كبير من الصحابة. وقال بأن "كل مَن يحبهم -أي الصحابة- كافر، وكل مَن يشك في كفرهم فلعنة الله ورسوله عليه وعلى كل مَن يعتبرهم مسلمين، وعلى كل مَن لا يكفّ عن لعنهم".

 

فتوى قتل الإخوة للحفاظ على العرش

 

هناك أيضاً بعض الفتاوى التي أباحت إراقة الدماء للحفاظ على العرش والمُلك. من أشهر ذلك النوع من الفتاوى فتوى قتل الإخوة التي أفتى بها بعض رجال الدين في الدولة العثمانية. يذكر المؤرخ التركي المعاصر خليل إينالجيك، في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار"، أن السلطان محمد الفاتح أكد صراحةً على حق السلطان الجديد في التخلص من أعدائه المحتملين، حتى ولو كانوا من إخوته. نص الفاتح على ذلك في القوانين التي أصدرها تحت اسم "قانون نامة". ورد في تلك المجموعة: "وأيّ شخصٍ يتولّى السُّلطة من أولادي فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم". لكن العديد من الباحثين يشككون في صحة "قانون نامة"، ويشددون على أن السلطان محمد الفاتح لم يصدر أبداً نصاً بإباحة قتل الأخوة.

وبغض النظر عن مدى صحة "قانون نامة"، فإن بعض الفقهاء لم يترددوا في تأييد هذا الطرح. على سبيل المثال، قال الفقيه الحنبلي مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه المشهور "قلائد العقيان في فضائل آل عثمان": "ومن فضائل آل عثمان قتل أولادهم الذكور خوفاً من الفتن، وفساد ملكهم واختلاف الكلمة وشق العصا بين المسلمين، وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحد فيما أعلم. وهو وإنْ كان أمراً ينفر منه الطبع السليم بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبير ونفع كثير".

أيد الكرمي فتواه بآراء مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين أجازوا للسلاطين العثمانيين القتل والاغتيال في سبيل الحفاظ على السلطة. بموجب تلك الفتوى تم قتل العديد من الأمراء العثمانيين، كما أقدم بعض السلاطين على إعدام إخوته خوفاً من تمردهم عليه في المستقبل. 

هوجمت تلك الفتوى على نطاق واسع من جانب أكثر رجال الدين المسلمين في القرون السابقة. واُعتبرت فتوى شاذة، وأنها سقطة في تاريخ الدولة العثمانية. 

 

فتوى الخميني بهدر دم سلمان رشدي

 

صدرت في سنة 1988م رواية آيات شيطانية للكاتب البريطاني سلمان رشدي. أثارت الرواية ردود أفعال غاضبة واسعة النطاق. بعث متشددون برسائل تهديد للمؤلف ولدار النشر التي أصدرت الرواية. ومُنع الكتاب من التداول في أغلبية الدول الإسلامية، كما خرجت عشرات المظاهرات للتنديد به في كل من الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وإيران، والسودان، وغيرها. وأُحرق عدد كبير من نسخ الرواية في إنجلترا من قِبل المسلمين المحتجين.

لكن تظل الفتوى الصادرة عن رجل الدين آية الله الخميني، المرشد الأعلى السابق للجمهورية في إيران أشهر ردود الأفعال الغاضبة. أهدر الخميني دم سلمان رشدي بصفته مرتداً، وقال في فتواه: "إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون "الآيات الشيطانية" الذي ألف وطبع ونشر ضد الإسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته قد حكموا بالموت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الإسلام، ومن يُقتل في هذا الطريق فهو شهيد".

بسبب تلك الفتوى، تعرض رشدي للعديد من محاولات الاغتيال. كانت آخر تلك المحاولات تلك التي وقعت في الثاني عشر من أغسطس سنة 2022م، عندما تعرض الكاتب البريطاني للطعن في عنقه من قبل متطرف أثناء استعداده لإلقاء محاضرة في قاعة بولاية نيويورك الأميركية. من جهة أخرى، تعرضت فتوى الخميني لانتقاد العديد من المفكرين المسلمين، والذين رأوا فيها دعوة لنشر الإرهاب الفكري. 

 

فتوى تصفية جماعة الإخوان المسلمين

 

سقط حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في الثالث من يوليو سنة 2013م. زُج بعناصر جماعة الإخوان المسلمين في السجون. وشهدت مصر سلسلة من أحداث العنف التي لم تتوقف على مدار عدة سنوات. في هذا السياق، أفتى بعض رجال الدين المؤيدين للسلطة الجديدة بإباحة اللجوء للقوة ضد عناصر جماعة الإخوان المسلمين لكونها "جماعة إرهابية تخريبية" تستهدف إسقاط الدولة المصرية.

كانت فتوى مفتي مصر الأسبق علي جمعة من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق. أفتى جمعة في أحد المؤتمرات التي حضرها العشرات من القيادات العسكرية بجواز قتل عناصر الجماعة. شبههم في فتواه بالخوارج ووصفهم بكلاب أهل النار. وتابع قائلاً: "اضرب في المليان، إياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء... طوبي لمن قتلهم، وقتلوه... كان يجب أن نطهر مدينتنا من هؤلاء الأوباش... يجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب". انتقد الكثيرون كلام علي جمعة، وشددوا على خطأ تلك الفتوى وأنها صدرت لأهداف سياسية.

 

فتاوى داعش ضد الأيزيديين 

 

في سنة 2014م، اجتاحت قوات تنظيم "داعش" شمال العراق. وتمكنت من السيطرة على الموصل ونينوى، ليجد الأيزيديون الذين يعيشون في تلك المنطقة أنفسهم أمام واحد من أكثر التنظيمات المتطرفة في العالم في الفترة الأخيرة.

في أقل من ثلاثة أيام، استعبد داعش أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال. وبعد شهرين من احتلال سنجار، وزع التنظيم على مقاتليه كتيبا من 10 صفحات بعنوان "سؤال وجواب في السبي والرقاب"، أباح فيه سبي الأيزيديات، كما يرد في مقال سابق على "ارفع صوتك".

تعرضت فتوى داعش في حق الأيزيديين للانتقاد من قبل الكثير من الشخصيات والمؤسسات الإسلامية. من بينها دار الإفتاء المصرية، التي وإن لم تنكر تشريع الإسلام للسبي في الأصل، فقد اعتبرته بات محرما في الوقت الراهن.

في سنة 2015، أصدرت الدار، بناء على طلب من اتحاد علماء كردستان العراق، فتوى تقول إن مشاركة الدول الإسلامية في الاتفاقيات المتعلقة بإلغاء الرق في العالم تلغي الرق شرعيا.

واستشهدت دار الإفتاء بالاتفاقية الدولية لتحرير الرق في برلين سنة 1860 التي شاركت فيها دولة الخلافة العثمانية واتفاقية منع الرق سنة 1926 التي وقعتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم.

بالنسبة لدار الافتاء المصرية، تعطل هذه الاتفاقيات كل أحكام الرق شرعيا. تقول الدار "بذلك ارتفعت كل أحكام الرقيق وملك اليمين المذكورة في الفقه الإسلامي لذهاب محلها، وصار الاسترقاق محرما لا يجوز".