سُفكت دماء كثيرة عبر التاريخ نتيجة الصراع الديني والمذهبي. ومع ذلك ظهرت تاريخياً الكثير من الفتاوى الدينية التي تتّسم بالتسامح مع الآخر والتشجيع على تحقيق السلام والوئام بين الشعوب والعرقيات. ما هي أبرز فتاوى التسامح في التراث الإسلامي؟ وكيف ساعد رجال الدين المعاصرون في تجاوز حالة الخصام المذهبي؟ وما هي أبرز القرارات الدينية المسيحية التي فتحت أبواب الخلاص أمام غير المسيحي؟
ظهرت العديد من الفتاوى المتسامحة في التاريخ الإسلامي الطويل رغم الصراع المستمر الذي دار بين الفرق والمذاهب. في بدايات القرن الرابع الهجري، كتب أبو الحسن الأشعري كتابه الشهير "مقالات الإسلاميين" ولم يكفر فيه أي من المذاهب المنتسبة للإسلام. يذكر شمس الدين الذهبي
في كتابه "سيَر أعلام النبلاء" أن أبا الحسن الأشعري أوضح منهجه المتسامح عندما قال لأحد تلاميذه قُبيل وفاته: "اشهد عليّ أني لا أكفّر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات".
في السياق نفسه، شهد الإسلام تسامحاً من قبل الفرق مع معتنقي الأديان المخالفة للإسلام. ذهب بعض المتكلمين إلى أن غير المسلم الذي يجهل حقيقة الدين الإسلامي "يُعذر بجهله"، وتُرجى له الرحمة، وبأن الله من الممكن أن يصفح عنه. من هؤلاء، الجاحظ، الأديب والمتكلم المعتزلي المشهور، والذي نُقل عنه قوله: "إن الله لا يعاقب الكفّار، إلا أولئك المعاندين الذين يدركون الحق ويحيدون عنه حرصاً على جاه أو رئاسة، أما الباقون منهم-وهم الذين يمثلون سواد الناس وأكثريتهم- فإن من الظلم عقابهم لأنهم لا يفهمون الحق إلا من خلال العادات والتقاليد التي نشأوا عليها والله ليس بظلام للعبيد". النتيجة نفسها ذهب إليها أبو حامد الغزالي في بدايات القرن السادس الهجري في كتابه "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة" إذ يقول: "إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس ولم تبلغهم الدعوة".
ظهرت نبرة التسامح في كتابات العديد من الفقهاء والمتكلمين الشيعة أيضاً. على سبيل المثال نُقل عن بهاء الدين العاملي، والمعروف بالشيخ البهائي المتوفى في العام 1030هـ قوله: "إن المكلّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء وإن كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يُخلد في النار وإن كان بخلاف أهل الحق"، وذلك بحسب ما يذكر محسن الأمين في كتابه "أعيان الشيعة".
فتوى شيخ الأزهر بجواز التعبد بالمذهب الجعفري
ظهرت العديد من الفتاوى الدينية المتسامحة في العصر الحديث. كانت فتوى شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الشيعي الجعفري واحدة من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق.
عُرف شلتوت بجهوده العظيمة في مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية. وفي أربعينيات القرن العشرين، شارك مع مجموعة من العلماء من السنة والشيعة في تأسيس جماعة "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية". في سنة 1959م، سُئل شلتوت عن حكم التعبد بالمذهب الشيعي الجعفري. فأجاب قائلاً "إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتبّاع مذهب معين، بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره أي مذهب كان ولا حرج عليه في شيء من ذلك. إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم، والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات".
فتاوى تحريم سب الصحابة
من المعروف أن بعض الشيعة يقومون بتوجيه السب واللعن لبعض الصحابة والخلفاء. يرى الشيعة أن هؤلاء الصحابة أذنبوا عندما رفضوا مبايعة علي بن أبي طالب بالخلافة بعد وفاة الرسول في سنة 11ه. رغم ذلك ظهرت العديد من الفتاوى الشيعية المعاصرة التي حرّمت سبّ الصحابة. كما طالب رجال الدين الشيعة أتباعهم باحترام رموز أهل السنة.
من أشهر تلك الفتاوى الفتوى التي قال بها المرجع الإيراني علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في أكتوبر سنة 2010م. رد خامنئي على الجدل المثار في أعقاب قيام بعض رجال الدين الشيعة بالتطاول على عدد من الصحابة وأمهات المؤمنين من ذوي المقام المعتبر عند أهل السنة والجماعة. وقال في فتواه: "...يحرم النيل من رموز إخواننا السنة فضلاً عن اتهام زوج النبي بما يخل بشرفها بل هذا الأمر ممتنع على نساء الأنبياء وخصوصاً سيدهم الرسول الأعظم…". حظيت تلك الفتوى بإشادة العديد من مراجع العالم السني. على سبيل المثال وصفها أحمد الطيب، شيخ الأزهر بأنها "...صادرة عن علم صحيح، وعن إدراك عميق لخطورة ما يقوم به أهل الفتنة، وتعبر عن الحرص على وحدة المسلمين…".
تحريم سب الصحابة ورد أيضاً في فتوى للمرجع اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله. قال فضل الله: "...إنّ هذا (سبّ الصحابة) يحرم على أيّ مسلم، وأنا أسجّل هذا في كلّ استفتاء يأتيني، بأنّه يحرم سبّ أيّ صحابي بمن فيهم الخلفاء…". الأمر ذاته صدر في فتوى للمرجع الشيعي الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني عندما قال: "سب الصحابة مستنكر ومدان ويخالف ما أمر به أهل البيت".
فتوى السيستاني بحرمة دماء أهل السنة
تعرض المكون الشيعي في العراق للاضطهاد على يد عناصر ما يعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) في سنة 2014م. في سنة 2017م، أطلق بعض المتعصبين الدعوات للثأر من أهل السنة في أعقاب نجاح عملية تحرير الموصل من داعش. في هذه الأجواء المتوترة، أفتى المرجع السيستاني بحرمة دماء أهل السنة. الأمر الذي لعب دوراً مهماً في تهدئة الأوضاع وحقن الدماء في بلاد الرافدين.
صدرت تلك الفتوى في منتصف ديسمبر سنة 2017م. وتلا نصها الشيخ عبد المهدي الكربلائي
ممثل السيستاني في مدينة كربلاء. جاء في الفتوى أن المسلمين جميعاً متفقون على أصول الدين. وأنهم -سنة وشيعة- يعبدون الله وحده، ويؤمنون بالقرآن نفسه، ويؤدون عبادات الصلاة والصوم والزكاة، "فهذه المشتركات هي الاساس القويم للوحدة الاسلامية، فلا بدّ من التركيز عليها لتوثيق أواصر المحبة والمودة بين أبناء هذه الأمة"، بحسب الكربلائي، الذي أوضح بعدها موقف السيستاني الصريح "فيما أوصى به أتباعه ومقلّديه في التعامل مع إخوانهم من أهل السنة من المحبة والاحترام، وما أكّد عليه مراراً من حرمة دم كل مسلم سنياً كان أو شيعياً وحرمة عرضه وماله والتبرؤ من كل من يسفك دماً حراماً أيّاً كان صاحبه...".

مفتي عمان ووحدة الأمة الإسلامية
تُعدّ فتاوي الشيخ احمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان في ضرورة توحيد صف الأمة الإسلامية، وتجاوز الخلافات المذهبية من الفتاوى المعاصرة التي تميزت بالتسامح مع الأخر. يعتنق الخليلي المذهب الإباضي، وهو أحد المذاهب الإسلامية القديمة الذي نشأ من رحم فكر الخوارج الذين عُرفوا في القرن الأول الهجري. من الفتاوى المتسامحة المشهورة للخليلي، أنه لمّا سئل عن الصراع بين الإباضية والمالكية في الجزائر، قال: "الجزائر شعب واحد، ومصلحته واحدة، ومضرّته واحدة، فيجب على الشعب الجزائري أن يسعى إلى ترسيخ هذا التسامح فيما بينه، كما كان السلف من قبل، وعليه ألاّ يسعى إلى أي بوادر من بوادر الاختلافات والتنازع…". من جهة أخرى، ظهر تسامح مفتي عمان مع المذهب الشيعي في رده على بعض الفتاوى الصادرة بتكفير الشيعة. قال الخليلي في ردّه: "اطلعت على الفتوى الحمقاء التي تشرك طائفة لا يستهان بها من أمة الاسلام وتدعو إلى قتلهم وهذا مما يكون له أبلغ الأثر في إضعاف هذه الأمة. ولا يضيركم قول أمثال هؤلاء فإن صدور فتوى كهذه منهم لدليل واضح على ضيق أفقهم وضحالة فكرهم وعدم تخلّقهم بأخلاق العلماء، وأنهم دعاة فرقة لا وحدة، ودعاة شقاق لا وفاق، وإنْ هم إلا أداة طيّعة في أيدي أعداء الإسلام…".
"الخلاص ممكن لغير المسيحي"
يمكن العثور أيضاً على كثير من القرارات الدينية غير الإسلامية التي تسامحت مع الآخر الديني. كان قرار المجمع الفاتيكاني الثاني في عام 1965م بإمكانية خلاص غير المسيحي واحداً، أحد أشهر تلك القرارات على الإطلاق.
في كتابه "عقيدة خلاص غير المؤمنين: بين الجذور والثمار"، يسلط المؤلف حلمي القمص يعقوب الضوء على انعقاد ذلك المجمع، فيذكر أنه قد شهد حضور 2400 أسقف كاثوليكي، مع بعض المراقبين من الكنائس الأخرى الأرثوذكسية والروم الأرثوذكس والإنجليكان والبروتستانت، وأن البابا يوحنا الثالث والعشرين افتتح أعمال المجمع في أكتوبر1962م، بينما اختتم فعالياته البابا بولس السادس في ديسمبر 1965م. بحسب يعقوب، فإن المجمع قرّر "عقيدة خلاص غير المؤمنين" في جلسته الرابعة في أكتوبر 1965م. جاء فيما صدر عنه من تقرير وتوصيات التأكيد على أن "تدبير الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يؤمنون بالخالق، وأولهم المسلمون الذين يُعلنون أنهم على إيمان ابراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرحمن الرحيم، الذي يدين الناس في اليوم الآخر…". كما ورد أنه "بإمكان الله أن يقود إلى الإيمان الذي يستحيل إرضاء الله بدونه، بطرق يعرفها هو، أناسًا يجهلون الإنجيل عن غير خطأ منهم".