أثار قرار صادر عن "هيئة التبليغ الديني" في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، جدلاً كبيراً في الشارع اللبناني وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
القرار سمّى عدداً من المشايخ الذين اعتبرهم "غير مؤهلين للقيام بالإرشاد والتوجيه الديني والتصدي لسائر الشؤون الدينية والأحوال الشخصية المتعلقة بأبناء الطائفة الإسلامية الشيعية"، وعدّد أسباباً ترتبط "إما بالانحراف العقائدي أو الانحراف السلوكي أو بالجهل بالمعارف الدينية وادعاء الانتماء للحوزة العلمية".
وجاء فيه، أن "المشايخ غير مؤهلين لارتداء الزي الديني وإنذارهم بخلعه تحت طائلة اعتبارهم منتحلي صفة رجل دين وإجراء المقتضى القانوني بحقهم".
أثار القرار انقساماً داخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وقد تراجع عنه المجلس رسمياً في بيان، مؤكداً أنه "لا يعبّر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولم يطلع عليه رئيس الهيئة العليا للتبليغ الديني نائب رئيس المجلس سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب بغض النظر عن مضمونه".
وأضاف: "البيان الصادر عن هيئة التبليغ الديني يعتبر كأنه لم يصدر وينبغي التذكير بعدم نشر أي بيان باسم المجلس الشيعي ما لم يكن موقعاً من رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حصراً".
لماذا "الشيخ ياسر عودة"؟
أول الأسماء في القائمة التي استهدفها القرار كان الشيخ اللبناني المعمّم ياسر عودة، وهو رجل دين من مدرسة المرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، وله مواقف معارضة مثيرة للجدل ضد السلطة اللبنانية وضد الحزبين الشيعيين الأساسيين في لبنان "حزب الله" وحركة "أمل".
يقول ياسر عودة في حديثه مع "ارفع صوتك"، إن محاولات إزاحته "بدأت بدوافع دينية من قبل جهات داخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وتحول الأمر إلى استهداف سياسي فيما بعد"، على أثر مواقفه المعارضة للسلطة التي يشارك فيها كل من حركة "أمل" و"حزب الله".
ويشتهر عودة بمواقفه المنتقدة للطبقة السياسية منذ ما سميّ بـ"حراك النفايات" عام 2015، على خلفية قضايا اجتماعية ومعيشية يعاني منها الشعب اللبناني. كما اشتهر بأنه يضمّن خطاباته على المنبر الديني نقداً لاذعاً للمسؤولين السياسيين في الطائفة الشيعية في لبنان، وله خطابات ينتقد فيها سلطة رجال الدين، قال في إحداها إن "الاقطاع الديني أسوأ وبمراحل من الاقطاع السياسي".
وتعرّض للهجوم والانتقاد الذي وصل حدّ تهديده بالقتل سنة 2017، والسبب كما يبيّن عودة "اجتزاء قول له من خطاب عن الجنة والنار، حيث اتُهم بأنه يكفر بالنبي محمد، بسبب قوله (حتى محمد مش عارف حاله إذا هو عالنار أو عالجنة)".
كما تعرّض سنة 2019 بسبب مساندته للاحتجاجات الشعبية في لبنان، لحملات تخوين واتهامات بالتعاون مع جهات خارجية.
في قرار "هيئة التبليغ الديني" إشارة إلى عدم أهلية عودة ورجال الدين الآخرين "لارتداء الزي الديني"، يعلّق عودة: "ليس هناك تمييز بالزي الديني في الإسلام، إذا كان الرسول محمد لا يلبس ثياباً تميّزه عن باقي البشر، وكان إذا دخل رجل إلى المدينة يُسأل: أيكم رسول الله؟ وحتى أمير المؤمنين يقال فيه أنه (كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه)".
وفي مقابلة تلفزيونية معه تلت إصدار القرار، صرّح عودة بأنه "يحترم العمامة لكنه لا يقدّس قطعة قماش"، وقام بخلع عمامته البيضاء على الهواء مباشرة قائلاً "سأبقى ما أنا عليه أجهر بالحق ما دمت حياً ولن يسكتني إلّا الموت".
خطب عاشوراء
في السياق نفسه، يقول الناشط السياسي والحقوقي واصف حركة، إن "ما حدث مع الشيخ عودة جزء من سلسلة لمحاولة إسكات جميع الأصوات المعارضة للسلطات الحاكمة، ولأنه رجل دين، يحاولون محاربته من داخل المؤسسة الدينية".
ويضيف حركة لـ"ارفع صوتك": "عقلية التحريم ومن ثم التكفير حاضرة في الفكر السياسي، وهي سيف مسلط لإخافة المعترضين، وإذا لم يخافوا تكون الأمور مقدمة لقتل معنوي قد يتحول إلى إيذاء جسدي، وهنا تصير المواجهة خطرة".
ويستشهد في حديثه بقول لعبد الرحمن الكواكبي من كتابه "طبائع الاستبداد" ليدعّم فكرته: "ما من مستبدّ سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الذين يعينونه على ظلم الناس باسم الله".
ويرجّح حركة أن ما أغضب "أمل و"حزب الله"، من عودة "ربما مقارنته من على منبره الحسيني في عاشوراء بين المواجهة التي خاضها الحسين (ثالث الأئمة الشيعة) في كربلاء وبين مواجهة الظالمين والفاسدين، وقوله (لا يمكن للإنسان أن يكون مع خيار الحسين ويسكت عن الظلم والفساد)".
عودة نفسه يعتقد أن يكون سبب الحملة المتجددة ضده مرتبط بالمحاضرات التي ألقاها في عاشوراء.

"لا يمكن التشكيك بعلمهم"
مصدر إعلامي مطّلع عن كثب على ما يحدث داخل المجلس الإسلامي الأعلى، فضّل عدم ذكر اسمه، يوضح لـ"ارفع صوتك"، أن "لا معطيات دقيقه حول أسباب صدور هذا القرار عن الهيئة العامة للتبليغ الديني، أو عن أبعاد هذا القرار الذي صدر من دون موافقة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى، ويبدو أيضاً أن حركة أمل وحزب الله غير موافقين عليه".
ويؤكد أن "لا شيء يجمع بين الأسماء المذكورة في القرار"، شارحاً: "هناك مشايخ لديهم آراء سياسية أو فكرية تخالف المجلس، لكن لا يمكن التشكيك بعلمهم مثل الشيخ ياسر عودة، وهناك مشايخ قد يكون هناك ملاحظات على أسلوب عملهم. والمشكلة أن بيان الهيئة خلط بين الجميع ولم يوضح السبب بما يخص كل واحد منهم، وهذا ظلم وافتراء".
هذا الأمر بحسب المصدر، أدى إلى "حصول إرباك في توقيت غير مناسب، وخلق مشاكل داخل البيئة الشيعية، وله آثار سلبية كثيرة".
"يجب انتظار بعض الوقت لمعرفة من يقف وراء ذلك وهل لأسباب شخصية أو هناك جهة سياسية حرّكته"، يتابع المصدر.
لماذا التراجع عن القرار، يرجّح الشيخ ياسر عودة، أنه "ربما يكون تكتيكياً بعدما قاموا بامتحان رد فعل الشارع على القرار وتبيّن لهم أنه قسم الشارع بين مؤيد ومعارض، وظهر أن هناك كثيرا من المتضامنين، وجاءت ردة الفعل عكسية لما أراده أصحاب القرار".
"وربما لقيام أحد السياسيين بالاتصال بالمجلس وطلب سحب القرار كما سمعتُ والله أعلم"، يضيف عودة، مبيناً: "السلاطين في الشرق دائما ما كانوا يحيطون أنفسهم برجال دين يغطّون لهم مشاريعهم السياسية، ويحمونهم بعباءتهم لأجل مصالحهم الدنيوية والمراكز والأموال وخلافها... ما انقطع التاريخ عن وجود رجال دين مع سلاطين الجور".
ويزيد: "هناك قسم من الناس مع الأسف من الشيعة يكرهونني لأنني من مدرسة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله، وهناك قسم آخر يكرهني لأنه يعتبرني عدواً للمقاومة، وهذا افتراء".
في الوقت نفسه، يشير إلى "وجود تعاطف كبير مع حالته لمسه من الناس الذين لا يندرجون ضمن هاتين الفئتين".
وكانت صفحة تحت اسم "آية الله محمد حسين فضل الله" على موقع فيسبوك، وهي تابعة لأحد أبناء الراحل فضل الله، نشرت صورة لعودة وهو يرتدي شالاً بألوان العلم اللبناني وعلّقت عليها "كل التضامن والحب والتقدير والاحترام لعلم من أعلام مدرسة السيد محمد حسين فضل الله الشيخ ياسر عودة... لا يضرّكم من كيدهم شيئاً".
لاحقاً، انتشر خبر عن مكالمة هاتفية أجراها علي فضل الله نجل الراحل محمد حسين فضل الله ورئيس مجلس أمناء مؤسساته، بنائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب.
جاء فيه، أن "فضل الله أشاد بالموقف الشرعي المسؤول والحكيم الذي اتخذه سماحة الشيخ الخطيب إزاء(سحب) القرار الأخير الذي نسب للمجلس منعاً لأية فتنة على صعيد المؤسسة الدينية وتعزيزا للوحدة الإسلامية، والتي نحن احوج ما نكون إليها في هذه المرحلة الدقيقة التي نواجه فيها أصعب التحديات".