اعتاد المسلمون السنة على الاحتفال بميلاد النبي محمد في الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام. وكما هي العادة، يُثار النقاش حول حكم الاحتفال بهذا العيد مع اقترابه. تُجيز الكثير من المؤسسات الدينية هذا الاحتفال وتعتبره نوعاً من أنواع الخير والتقوى وإظهار الحب للنبي. في المقابل، يرفض تيار آخر، خاصة السلفيون، هذا الاحتفال ويعدّه بدعة خارجة عن صحيح الدين. وما بين الرأيين، يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة. والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.
العراق
ترجع بدايات الاحتفال بالمولد النبوي في العراق إلى القرن الثالث عشر ميلادي. وتحديداً إلى زمن مظفر الدين كوكبوري، حاكم أربيل. التمس كوكبوري في الاحتفال بالمولد النبوي وسيلة لتثبيت شرعيته السياسية. فطلب من العالم الأندلسي أبي الخطاب بن دحية الكلبي أن يكتب له كتاباً عن المولد النبوي، فكتب كتابه المعروف باسم "التنوير في مولد السراج المنير". بعدها، أقام كوكبوري احتفالات ضخمة بالمولد في أربيل وما حولها. وصف شمس الدين الذهبي هذه الاحتفالات في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" فقال: "أما احتفاله بالمولد، فيقصر التعبير عنه. كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزين، وفيها جوق المغاني واللعب، وينزل كل يوم العصر، فيقف على كل قبة ويتفرج، ويعمل ذلك أياماً، ويخرج من البقر والإبل والغنم شيئاً كثيراً، فتنحر، وتطبخ الألوان، ويعمل عدة خلع للصوفية، ويتكلم الوعاظ في الميدان، فينفق أموالاً جزيلة". يذكر ابن خلكان، في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، أن المحتفلين كانوا يقدمون إلى أربيل من نواحي بغداد والجزيرة وسنجار والموصل ونصيبين وبلاد العجم في كل سنة للاحتفال بالمولد.
حالياً، يحتفل العراقيون بالمولد النبوي في موعدين مختلفين خلال شهر ربيع الأول. يوضح الباحث العراقي حيدر الأسدي أهم مظاهر الاحتفال العراقي بتلك المناسبة. يقول الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن "العراقيين الشيعة يحتفلون بمولد النبي في مدينة النجف الأشرف في اليوم السابع عشر من ربيع الأول؛ وذلك بحسب الروايات المعتمدة والمنقولة عن أئمة أهل البيت". في هذا السياق، "تجري الاستعدادات للاحتفال بوقت ليس بالقصير. ويتجلى ذلك بتزيين مرقد الامام علي بالزهور والورود الفاخرة. وكذلك بنشر مختلف المطرزات المكتوب عليها آيات من القرآن الكريم أو ما روي عن شخصية النبي محمد أو بعض الروايات التي قال بها الأئمة في وصف النبي". أيضاً، يتابع الأسدي، "يتم توزيع الحلوى ومختلف صنوف الطعام. ويتم ايقاد الشمع ليلاً ابتهاجاً بتلك المناسبة السعيدة. وتسود حالة من الفرح والسرور بين الناس مع تبادل التهاني". يضيف الأسدي: "أما العراقيون الذين يعتنقون المذهب السني فهم يحتفلون بذكرى المولد النبوي في الثاني عشر من ربيع الأول. وتتركز احتفالاتهم في المناطق المعروفة بأغلبيتها السنية، مثل منطقة الأعظمية في بغداد على سبيل المثال. ويجري العراقيون السنة استعدادات كبيرة قبل حلول ذكرى المولد النبوي بأيام عدة. ويشتهرون بغناء العديد من القصائد الممتدحة للنبي وأهل البيت مع ضرب الدفوف وفق المقامات العراقية المعروفة في الاحتفالات الدينية.
سوريا
يعتبر المولد النبوي أحد أهم الاحتفالات الدينية الإسلامية في سوريا. ويأتي مباشرةً خلف الاحتفالات التي تُقام في شهر رمضان. يظهر الاهتمام السوري بالمولد النبوي في عدة مستويات. على المستوى الرسمي، تقوم الدولة بمنح هذا اليوم عطلة رسمية لجميع الموظفين والعمال. كما تقوم وزارة الأوقاف السورية بتنظيم الاحتفال بالمولد في الجامع الأموي بدمشق، والذي يُعد المسجد الرسمي للدولة.
على المستوى الشعبي، يأخذ الاحتفال بالمولد صوراً عدة. يلقي الباحث توماس بيريه الضوء على كيفية احتفال السوريين بتلك المناسبة فيقول في دراسته "عرض سلطة العلماء: الاحتفال بالمولد النبوي في مدن سوريا" إن "الاحتفال بالمولد لا يقتصر على يوم واحد، بل يستمر الاحتفال لحوالي ستة أسابيع". وبحسب بيريه، "تُنظّم الموالد كل مساء في مساجد مختلفة، تُزيّن في هذه المناسبة بأضواء، ولافتات وأعلام خضراء. وهذه الاحتفالات هي تجمع شعبي كبير، إذ تستقبل بعض من أكبر المساجد أكثر من 5000 شخص في تلك المناسبة". يضيف بيريه أن "كل احتفال يمتد لبضع ساعات بدايةً من صلاة العشاء. ويوزع فيه المتطوعون الماء، والقهوة على الحضور. كما يوزعون بعض الأعلام التي دونت عليها بعض العبارات الدينية على الأطفال أيضاً".
من جهة أخرى، تُعدّ حلوى "الملبّس" أشهر أنواع الحلوى التي يقبل السوريون على شرائها في ذكرى المولد النبوي. تُباع تلك الحلوى بشكل رئيسي في سوق البزورية القابع في قلب العاصمة دمشق. وبدأت عادة تناول السوريين لـ"الملبّس" في المولد في عشرينيات القرن العشرين. يتكون "الملبّس" من اللوز المُحمص المُغطى بالسكّر. ويتم تغليفه في أوراق من السولوفان. في السياق نفسه، تطهو السوريات نوعاً آخر من الحلوى يُعرف باسم "المحلاية". وهو نوع من أطباق الحلويات الباردة، يُصنع من الحليب المطبوخ، ثم يُترك حتى يبرد، ويُزيّن بالفستق الحلبي واللوز والقشطة.
مصر
بدأ الاحتفال بالمولد النبوي مع دخول الفاطميين مصر. وأقيم أول احتفال بالمولد الشريف فى عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي. رغم إلغاء مراسم الاحتفال في العصر الأيوبي إلا أن مظاهر الاحتفال بالمولد الشريف ظلت راسخة في الوجدان المصري الجمعي عبر القرون. وبوسعنا أن نلاحظ حضور العديد من تلك المظاهر حتى الآن.
يُقام الاحتفال الرسمي بالمولد النبوي في مصر في الليلة السابقة له. وتُشارك فيه جميع المؤسسات الدينية المصرية، وعلى رأسها كل من الأزهر، ودار الإفتاء المصرية، ووزارة الأوقاف. من جهتها، تقوم مشيخة الطرق الصوفية بالاحتفال بتلك المناسبة من خلال إحياء مجالس الذكر والحضرات. والتي تُقام في المساجد الكبرى وعند مراقد الأولياء وآل البيت في جميع أنحاء البلاد. وتُردد فيها الأدعية والابتهالات لساعات طويلة.
من جهة أخرى، يُعرف يوم المولد النبوي عند المصريين باعتباره أحد أيام "المواسم". وهي الأيام التي تناسب ذكريات مهمة في الوجدان الديني الشعبي. تطبخ النساء العديد من الأطباق الدسمة يوم المولد. ولا سيما البط، والحمام المحشي، والأرانب بالملوخية. هذا فضلاً عن أطباق الطعام المصري التقليدي مثل المحشي، والأرز المعمر. كذلك تنتشر حلويات المولد في الأسواق، وتُباع على نطاق واسع في الكثير من المحال. من أشهر تلك الحلويات حلوى "الحصان" وحلوى "عروس المولد"، اللذان ظهرا في العصر الفاطمي وكانا يرمزان إلى الخليفة الفاطمي وإحدى زوجاته عندما خرجا معاً أمام العامة في إحدى المرات. كذلك يقبل المصريون على شراء أنواع أخرى من الحلوى تُعرف باسم "الحلاوة العلف"، ومنها الحمصية، والسودانية، والفولية، والسمسمية، واللديدة، وجوز الهند، والملبن. توجد أيضاً بعض المظاهر الاحتفالية التي تميز بعض المدن المصرية على وجه الخصوص. على سبيل المثال يقوم العديد من الرجال في الأحياء الشعبية في مدينة الإسكندرية بإعداد شراب الموز وتوزيعه مجاناً على المارة، وذلك للتعبير عن السعادة بذكرى هذا اليوم.
تونس
يتميز احتفال المولد النبوي في تونس بالعديد من المظاهر المميزة. تذكر صابرين الجلاصي، أستاذة علم اجتماع الأديان والأنثروبولوجيا الدينية لـ"ارفع صوتك" بعضاً من تلك المظاهر، فتقول: "يقوم التونسيون بالإكثار من الصلاة على النبي في الليلة التي تسبق المولد النبوي. كما يقوم المتدينون بالتهليل والتكبير في أغلب الجوامع، ولا سيما الجوامع المعروفة بطابعها التقليدي في وسط العاصمة التونسية. كذلك توجد بعض الأطباق المميزة الذي يتناولها التونسيون على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية يوم المولد. من أشهر تلك الأطباق "عصيدة الزقوقو" المُستخرج من الصنوبر الحلبي، ويكون لونه أسود، غير أنه يُغطى بطبقة من كريمة الفانيليا وطبقة من المكسرات. بحسب الجلاصي فإن المجتمع التونسي عرف ذلك النوع من العصيدة للمرة الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ألجئت المجاعة التي ضربت تونس في تلك الفترة قطاعاً كبيراً من الناس لتناول ذلك الطبق بعد أن شح القمح والشعير. وفي سبعينيات القرن العشرين، عاد هذا الطبق مرة أخرى ليزين الموائد التونسية أثناء الاحتفال بالمولد النبوي في كل سنة، وذلك رغم الارتفاع الكبير في تكاليفه. تذكر الجلاصي أن هناك أطباقاً أخرى مميزة في يوم المولد. على سبيل المثال، في مناطق الساحل، خاصة منطقة الوطن القبلي تطبخ النساء يوم المولد طبق الكسكسي بالقديد ويُزين بالبيض المسلوق والحلوى. أما في الريف التونسي، فتأخذ الشعائر بعداً تشاركياً واضحاً. يقوم الميسورون بابتياع الخراف وذبحها وتوزيع اللحم على الفقراء للتعبير عن حبهم وسعادتهم بذكرى المولد النبوي.
المغرب
يُطلق أهل المغرب اسم "الميلودية" على الاحتفال بالمولد النبوي. ويرجع تاريخ الاحتفال بتلك المناسبة في المغرب إلى زمن الدولة الموحدية الكبرى التي قامت في القرن الثاني عشر الميلادي. يذكر الكاتب المغربي علال ركوك في دراسته "المولد النبوي بالمغرب طقوس واحتفال" أن الاحتفالات بالمولد تبدأ مع بداية شهر ربيع الأول وتستمر حتى تبلغ ذروتها في اليوم الثاني عشر من الشهر. في كل يوم من تلك الأيام تُلقى دروس في السيرة وفضائل النبي. وتُنشد المدائح والتواشيح. وفي ليلة المولد "يُقام حفل كبير في المسجد الأعظم بكل مدينة برعاية ممثلي سلطات الدولة والمنتخبين والعلماء ورجال الطرق الصوفية وعامة الناس". يضيف ركوك: "في يوم الاحتفال بالعيد يلبس الناس ثياباً جديدة، وفي الإفطار تكون هناك حلويات وعجائن خاصة بالمناسبة. كما أن ذكرى المولد تستدعي حراكاً تجارياً غير عادي في الأسواق، إذ تكثر تجارة لعب الأطفال وكذلك تجارة الحلويات والعجائن والفواكه الجافة".
في السياق نفسه، تتحدث نزهة بوعزة، الباحثة في الفلسفة والفكر الإسلامي لـ"ارفع صوتك" عن بعض العادات والطقوس الشعبية المغربية المرتبطة بالمولد في البوادي والمناطق شبه الريفية في المغرب، من ذلك "قيام النساء بطبخ أنواع مختلفة من الطعام، ولا سيما الكسكسي. وقيام الرجال بالإفطار الجماعي في المساجد صبيحة يوم المولد. وقيام الفتيات الصغيرات بإنشاد الأناشيد وإطلاق الزغاريد أثناء تجوالهن بين الأزقة. وتعليق الأعلام البيضاء فوق أسطح المنازل. فضلاً عن زيارة الأضرحة والمقابر والدعاء للموتى".