يُعدّ الباحث السوري منذر الحايك واحداً من أهم المؤرخين العرب الحاليين. ولد في مدينة حمص السورية عام 1944. درس علم التاريخ في جامعة دمشق، ثم حصل على درجتي الماجيستير والدكتوراة، ليعمل بعدها فترة طويلة في جامعة حمص. قبل أن يترك سوريا مطلع 2012، ويقيم حالياً في قبرص.
ألف الحايك العديد من الكتب المختصة بعلم مقارنة الأديان. من أهمها سلسلة "نصوص مقدسة"، وسلسلة "كتب مقدسة". وحصدت أعماله إعجاب الآلاف من القراء في مختلف أنحاء العالم العربي.
وأسهمت كتاباته في إزالة الغموض واللبس عن العديد من المناطق المعتمة في تاريخ الأديان.
"ارفع صوتك" أجرى هذا الحوار مع الحايك، يحدثنا من خلاله عن مشروعه الفكري الذي عكف عليه طيلة ثلاثة عشر عاماً.
ما أبرز سمات مشروعك الفكري حول دراسة الأديان؟
كان المشروع يهدف لسد ثغرة في مواجهة مظاهر التعصب الديني التي تعم العالم، عن طريق نشر ملفات التراث الديني لكل الأديان والطوائف في الشرق والغرب، ليتم التعرف الواعي على حقيقتها، فعندما ننشر الواقع الحقيقي للمعتقدات الدينية نزيل عنها الغموض الذي أكسبها العداء، لأن الإنسان عدو ما يجهل، والعديد من تلك الأديان والمذاهب انتشرت حولها شائعات كاذبة تحط منها وتدعو لمحاربتها. وكثير من الناس ينساق بعدائه للآخر نتيجة الجهل بحقيقة معتقداته، ولذلك بدأت هذا المشروع آملاً تصحيح الأفكار المسبقة المغلوطة، والتعريف الصحيح بالآخر ومعتقداته.
تمكنت حتى الآن من إصدار ثلاث مجموعات ضمن هذا المشروع، الأولى سلسلة "كتب مقدّسة"، وتتناول أديان العالم، وقد صدر منها 16 جزءاً، والثانية سلسلة "نصوص مقدسة"، وتتناول المذاهب الإسلامية، وقد صدر منها 6 أجزاء، والثالثة سلسلة "منطلقات الفكر الديني"، وتتناول المعتقدات الدينية القديمة للإنسان، وقد صدر منها ثلاثة أجزاء.
وأهمية هذا المشروع في رأيي أنه تمكّن من احتواء معظم الديانات القديمة والجديدة، الشرقية والغربية، من خلال دراسات نقدية مقارنة.
لقد شكّلت هذه السلسلة منذ إصداراتها الأولى فارقا مهما في الثقافة الدينية كان غالباً ما يختفي بسبب الابتعاد عن فكر الآخر، بالتالي استمرار الجهل به، ممّا يسمح بوجود معتقدات خاطئة عن الأديان الأخرى تؤدّي إلى التنافر والعداء.
لذلك كان من أهمّ أهداف هذا المشروع التعريف بعدد كبير من الأديان، على أمل أن يكون مساهمة في التقريب والتعاون بدل العداء والتنافر. وأن أتمكن من خلاله من تشكيل نواة أو أساس لعلم أديان مقارن بعيداً عن التعصب والآراء المسبقة.
ما المدة التي استغرقتها لإنجاز هذا المشروع؟ هل تلقيت دعما مادياً من جهة معينة للعمل عليه؟
أنا أرى بأن المشروع لم يُنجز بعد بالكامل، وطالما يَمنّ الله عليّ بالصحة وبفسحة من العمر فالعمل مستمر في المشروع، لكن ما أستطيع أن أقوله أنه قد استغرق حتى الآن أكثر من ثلاثة عشر عاماً.
أما عن تلقي الدعم المادي، فلك الحق أن تسأل لأن هكذا مشروع يتطلب التفرغ والجهد، ومن الطبيعي أن تلتفت جهة ما لدعمه حتى يتمكن من الاستمرار، لكن، أقول بكل وضوح، إنني لم أتلق أي مساعدة أو دعم مادي بأي شكل كان، وربما هذا فيه خير لي.
لكن المحزن في الأمر أنني أيضاً لم أتلق أي تشجيع معنوي من أي جهة لا رسمية ولا خاصة. لكن ما يعوض ذلك، بل يفوقه، هو تقدير القراء واهتمامهم وتواصلهم المستمر، بالتالي رواج الكتب وانتشارها هو مؤشر مفرح لنجاح المشروع.
حدثنا قليلاً عن الصعوبات التي واجهتها أثناء العمل على هذا المشروع؟
من الغريب في الأمر أنني كنت أتوقع الكثير من الاعتراضات وربما أكثر من ذلك من أتباع الأديان التي تناولت كتبها المقدسة بالبحث عند إصدار السلسلة الأولى "كتب مقدسة"، ولكن على العكس مما توقعت فقد وصلتني كلمات شكر كثيرة، مثلاً من البهائيين، ومراسلات وتوضيحات كما في حال الأحمدية، وشكر حار مع دعوة لزيارة المندائيين في ميسان في العراق.
كما تواصل معي بعض أتباع الأديان التي لم أتعرض لها يذكرونني بنشر كتبهم، وبالفعل تم ذلك. ولما بدأت بإصدار سلسلة "نصوص مقدسة" وهي تتعلق بالمذاهب الإسلامية توجست جداً، فبعض هذه المذاهب ما زالت تمتنع عن نشر تراثها، ولكن على العكس تماماً لم أسمع إلا كل ثناء ومباركة وإشادة بالتعريف بها.
وما لم أكن أتوقعه أبداً هو أنني سأواجه بعض الأصدقاء والزملاء وهم الذين أحبهم، ولهم أسماء كبيرة ومعروفة، فقد بدأوا بعد إصدار أول كتاب من سلسلة كتب مقدسة بنصحي بترك هذا الاتجاه وعدم الاقتراب منه، ثم أخذ النصح يتحول إلى طلب مباشر للابتعاد عن موضوع الأديان، ولما تابعت وفق قناعاتي اقتصر بعضهم وتابع بعضهم الآخر الاعتراض بوسائل مختلفة. علماً بأن هذا الميدان رحب، ولا أحد ينافس أحداً إلا بجودة عمله وأهمية بحوثه.
كيف تعاملت مع النصوص الخاصة بالأديان الباطنية، التي من الصعب على العامة الاطلاع عليها؟
مع أن هذه النصوص لها إشكالية خاصة حيث تُعدّ سرية، وصحيح أن أتباعها لا ينشرون ولا يسمحون بنشر أي شيء من كتبهم، ولكن الطريف بالأمر أننا في زمن أصبحت تجد كل ما تريده من تلك النصوص منشوراً على الإنترنت.
يبقى أن يتعامل الدارس معها بشكل علمي غير مستفز ومحايد تماماً، وهذا ما قمت به خلال دراسة تلك النصوص، وذلك وفقاً لمنهج عمل علم الأديان المقارن، الذي يحض على النظر إلى أي نص من أي دين كان باحترام، لأن هناك من يجله ويقدسه من إخواننا البشر، وهذا ما يجنب الباحث كثيرا من المتاعب.
كيف تفسر وجود العديد من الأديان في العراق؟ وكيف تمكنت تلك الأديان من البقاء على مدار قرون طويلة؟
لا تنفرد العراق بهذه الميزة لوحدها، فسوريا فيها التعدد ذاته للأديان والمذاهب الدينية، أما سبب هذا التعدد الديني والمذهبي، وهو في الوقت نفسه سبب بقاء تلك الأديان والمذاهب منذ قرون طويلة وحتى الآن، هو الطبيعة الجغرافية للعراق وسوريا، حيث تنعزل كثير من المجتمعات في بيئة جغرافية مختلفة، وذلك على عكس كثير من البلدان التي تغلب فيها بيئة جغرافية واحدة مثل مصر.
كذلك فإن الأقليات الدينية تجد ملاذاً بيئياً غالباً ما يكون جبلياً، يحميها من الذوبان في محيطها المغاير لمعتقداتها، فعلى سبيل المثال: الأيزيدية كانوا يتمركزون في جبل سنجار، والآشوريون في جبال شمال العراق قبل أن يوقع الإنجليز بينهم وبين الأكراد فأجلوهم إلى الجزيرة السورية، والمندائيون كانوا يقيمون في أهوار دجلة والفرات التي هي متاهة مائية.
هناك شيء أخير هو التسامح الإسلامي الذي يجب ألا ينكر فضله في وجود هذا التعدد الديني، بالمقابل نتساءل عن مصير الكثير من مسلمي الأندلس، ومسلمي إيطاليا وصقلية رغم لجوئهم للجبال، والأكثر من ذلك إبادة الكثير من الفرنسيين المخالفين للعقيدة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
ما أهم نقاط التلاقي بين الأديان الإبراهيمية من جهة والأديان الأخرى المنتشرة في المنطقة كالزرادشتية والمندائية والأيزيدية من جهة أخرى، بحسب ما توصل إليه بحثك؟
الأديان الإبراهيمية أو السماوية عند دراستها وتحليلها علمياً تجد أنها من منبع واحد مع بقية الأديان، ولها أهداف أخلاقية وتربوية واحدة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في أكثر من موضع، حيث أعلمنا أنه ما من أمة إلا وكان لها نبي "إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ" (سورة فاطر، 24).
وأكد أن الله سبحانه أرسل كثيراً من الأنبياء، منهم من ذكر أخبارهم في القرآن الكريم ومنهم من لم يذكر: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ" (سورة غافر، 78). فهل يستطيع أحد أن يجزم مثلاً بأن بوذا ليس بنبي من الذين لم تُقَص أخبارهم؟.
كما أن فكرة وحدة الأديان كافة قال بها فلاسفة المتصوفة المسلمون مثل الشيخ محيي الدين بن عربي، وقد تولدت لديهم فكرة وحدة الأديان من فكرة أكبر هي وحدة الوجود.
من واقع دراستك المعمقة في علم الأديان المقارنة، ما هو الحل الأمثل للحد من خطورة التطرف الديني؟
هذا الأمر لا يمكن أن يكون إلا من خلال مواجهة سلمية تخاطب العقل، مما يستدعي سعياً جمعياً لتأسيس وعي صادق بحقيقة الأديان وتسامحها وقيمها السامية، وأنها جاءت لتحقيق سلام روحي لا لتخلق فتناً وحروباً. فواجبنا جميعاً اليوم نشر هذه التوعية لتفويت الفرصة على المتاجرين بالأديان، وأن نؤكد على حقيقة وحدة الهدف السامي لكل الأديان وأنها كلها من مصدر واحد، وأنها تهدف لخير الإنسان وسعادته الروحية، وتنظيم علاقته بمجتمعه.
أخيرًا، ما رأيك في مناهج علم الأديان المقارنة في الجامعات العربية؟ وكيف يمكن تطوير تلك المناهج لتوازي مثيلتها التي تدرس في الجامعات الغربية؟
حتى الآن علم الأديان المقارن هو علم بعيد بعض الشيء عن جامعاتنا العربية، فقلة قليلة جداً منها تضم أقسام لهذا العلم بمفهومه المعاصر، لدينا الكثير من أقسام تاريخ الأديان، ولدينا أقسام يطلق عليها خطأ اسم مقارنة الأديان، فهي إما أنها تدرس تاريخ الأديان، أو الأسوأ من ذلك أنها تدرس الأديان بغية الرد على بعضها وإثبات بطلانه مقابل تأكيد حقيقة دين ما.
يمكن تطوير مناهج جامعاتنا لتدرس علم الأديان المقارن وفق منهجه العلمي، عندما لا تهتم الدراسات بحقيقة الأديان، أو بصدق معتقداتها أو تحريفها، بل تبحث فقط في التأثيرات المتبادلة بين الأديان، وما أخذ كل منها من الآخر وما أعطى له. وألا تفضل ديناً من الأديان أو تنتقص من آخر.