إنصاف المرأة في مسائل الميراث قضية مثيرة للجدل في العالم الإسلامي.
يُعدّ حق الكد والسعاية واحداً من ضمن الاجتهادات الفقهية التي اهتمت بإنصاف المرأة في مسائل الإرث.

قام الفقه الإسلامي في القرون الأولى على أساس ذكوري واضح، وتماشى ذلك مع ظروف المجتمعات الإسلامية المبكرة والتي حظي الرجل فيها بالسلطة والقوة فيما تراجعت منزلة المرأة لتكتفي بالمرتبة الثانية.

نلقي الضوء في هذا المقال على "حق الكد والسعاية"، وهو أحد الفتاوى التي عملت على إنصاف المرأة في مسائل الميراث، واحتكمت في ذلك إلى روح الدين الإسلامي الداعية للمساواة. ما هي فتوى الكد والسعاية؟ ولماذا عاد الحديث عنها في الآونة الأخيرة؟ وما صدى تلك الفتوى في الأوساط الحقوقية والقانونية؟

 

السياق التاريخي للفتوى

 

يُعدّ حق الكد والسعاية واحداً من ضمن الاجتهادات الفقهية التي اهتمت بإنصاف المرأة في مسائل الإرث.

ترجع البدايات الأولى لهذا الاجتهاد للقرن الأول الهجري، وفي زمن خلافة عمر بن الخطاب على وجه التحديد. وقد ذكرت بعض المصادر المالكية المتأخرة أن إحدى السيدات المسلمات، واسمها حبيبة بنت زريق أتت للخليفة تشتكي من أقارب زوجها المتوفى لأنهم  أخذوا الحصة الأكبر من ميراث الزوج ولم يتركوا لها إلا القليل، واحتجت حبيبة أمام الخليفة بأنها كانت تعمل في الغزل وحياكة الملابس طوال فترة زواجها، وأنها كانت تعطي الأموال التي كسبتها لزوجها، ولهذا فإن لها حقاً في تركة الزوج.

بحسب القصة، فإن عمر بن الخطاب تأكد من صدق حديث السيدة، ثم حكم بأن تحصل على نصف الميراث نظيراً لها على الأموال التي أعطتها للزوج في حياته، كما قضي لها بربع ما تبقى من الثروة لأن الزوج لم يترك ولداً من بعده.

مرت مئات الأعوام بعد وقوع تلك الحادثة، ثم تجدد النقاش حولها مرة أخرى في المغرب الأقصى، بدايةً من القرن الثامن الهجري.

وقد  اعتمد بعض الفقهاء المالكية المغاربة قصة حبيبة بنت زريق مع الخليفة عمر بن الخطاب. وبنوا عليها فتوى فقهية تعطي للزوجة نصف ميراث الزوج المتوفى.

وعلى سبيل المثال، فإن الفقيه المكناسي الحافظ أبا عبد الله القوري- في القرن التاسع الهجري- قال: "لا شيء على الزوجة من غزل ونسج وغيره، فإن قامت بذلك متطوّعة فإن للزوج حقّ الانتفاع بذلك وبثمنه، وإن صرّحت بالامتناع عن الخدمة إلا على وجه الشركة في الغزل والنسج أو فيهما معاً وأباح لها زوجها ذلك فلا إشكال في اشتراكهما في ذلك المعمول. أما إذا سكتت وقامت بالعمل دون أن تصرّح بأي وجه من الوجهين قامت به، لا على وجه التطوع أم على وجه الشركة، ثم طالبت بعد ذلك بنصيبها في ما أنجزته على أساس أنها قامت بذلك على وجه الشركة أو الرجوع بقيمة العمل، وأنكر الزوج ذلك، حلفت أنها ما غزلت ولا نسجت إلا لتكون على حظها في المعمول. وإذا حلفت، قُوِّم عملها في الكتان والصوف فيكون الثوب بينهما مشتركاً، وكذلك الغزل".

تكررت الفتوى أيضاً في القرن العاشر الهجري على لسان الفقيه ابن عرضون المالكي المغربي الذي قال إن المرأة إذا مات زوجها تأخذ نصف التركة ثمّ الباقي يقسّم إرثاً، وذلك بحكم مشاركتها وسعيها وكدّها في تحصيل هذه الثروة.

 من الجدير بالذكر، أن تلك الفتاوى اتسقت مع أسس المذهب المالكي، والذي يأخذ باعتبارية العُرف والعادة، كما أن تلك الفتاوى تماشت مع الأمر الواقع، لأن الكثير من الأراضي الزراعية في مناطق السوس الأقصى كانت تُزرع من جانب النساء. الأمر الذي جعل المرأة شريكة حقيقية في صنع ثروة الأسرة.

 

إحياء الفتوى من جديد

 

في فبراير سنة 2022، عاد الحديث حول حق الكد والسعاية إلى الواجهة من جديد عندما قال أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إنه من الضروري العمل على إحياء فتوى "حق الكد والسعاية" لحفظ حقوق المرأة العاملة التي بذلت جهداً في تنمية ثروة زوجها.

تسببت تلك الدعوة في وقوع الجدل في المجتمع المصري، فانقسم رجال الدين والناشطون الحقوقيون بين مؤيد لدعوة شيخ الأزهر من جهة، وبين رافض لها من جهة أخرى.

على سبيل المثال، لاقت الدعوة ترحيباً شديداً من جانب الجهات المهتمة بالدفاع عن حقوق المرأة المصرية.

وجهت مايا مرسي، رئيسة المجلس القومي للمرأة في مصر، الشكر للشيخ الطيب. وقالت على حسابها في فيسبوك: "خالص الشكر والتقدير إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر على تأكيده ضرورة إحياء فتوى (حق الكد والسعاية) من تراثنا الإسلامي، حفظ حقوق المرأة العاملة التي بذلت جهداً في تنمية ثروة زوجها، خاصة في ظل المستجدات العصرية التي أوجبت على المرأة النزول إلى سوق العمل ومشاركة زوجها أعباء الحياة".

من جهته، أعرب سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر عن ترحيبه بالدعوة لإحياء فتوى الكد والسعاية، فقال: "نحن لسنا بدعة، فهناك دول قد سبقتنا فيها، افتحوا باب حق الكد والسعاية للشباب، وأعتقد أنه خلال عدة سنوات سيظهر التفاني فى الحق وكتابة حق السعاية، فهناك بعض الأعمال لم يكن لها راتب مثل الإمامة وقراءة القرآن فلماذا لا يكون للمرأة حق مقابل ما تقوم به، لذلك اتركوا باب حق السعاية مفتوحاً".

في السياق نفسه، امتدح أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية دعوة شيخ الأزهر لإحياء فتوى الكد والسعاية. ووصفها بأنها "شديدة التميز، وتمثل ضمان وحماية مادية واقتصادية واجتماعية للمرأة، وتمثل دعم للمرأة في كل أحوال الأزمات المتمثلة في وفاة الزوج أو الانفصال".

على الجانب الآخر، هوجمت الدعوة من قِبل بعض التيارات الدينية الأكثر تشدداً، فعلّق الشيخ السلفي خالد الحويني على حسابه على منصة إكس -تويتر سابقاً- قائلاً: "لا يوجد في الإسلام ما يسمى بحق الكد والسعاية، وقصة حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لزوجة بنصف تركة زوجها المتوفى واقعة عين، كانت الزوجة شريكة لزوجها في تجارته، فهو من باب الديون يستحقه صاحبه رجلاً كان أم امرأة قبل تقسيم تركة الميت".

كذلك، قال الشيخ أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر: "في المعاملات المالية يمكن للزوجة أن تحصل على نصيبها كأي شخص أجنبي، وهذا لا خلاف عليه، لكن هذا الأمر لا يجب أن يتعدَّى إلى الأعمال المنزلية.. السيدة فاطمة الزهراء كانت تكد داخل المنزل وكان سيدنا علي بن أبي طالب يكد خارج المنزل، لكن لا يجب أن نقول إن للمرأة حقاً في زوجها إذا مسحت وكنست وأدت الأعمال المنزلية لأن هذا الأمر سينزل بها من مرتبة الزوجة إلى خادمة".

في أغسطس من العام الماضي، تجدد النقاش مرة أخرى حول الفتوى في جلسات "الحوار الوطني" التي شارك فيها العديد من الباحثين والمتخصصين. رفض البعض الصياغة القانونية للفتوى.

على سبيل المثال، قالت المحامية المتخصصة في قضايا الأسرة، رشا صبري إن عدم الصياغة المثالية للفتوى قد تتسبب في فتح أبواب تحايل كثيرة جداً، فقد لايكون للسيدة أي دور في ثروة زوجها وشريرة ومؤذية جدًا وبعد الانفصال تحصل على نصف ثروته، فهناك من يتزوج طمعاً في الأموال.

 

في قوانين الدول العربية

 

بالتزامن مع الجدل الفقهي- الحقوقي الذي أُثير حول فتوى الكد والسعاية، قُدمت بعض المواد القانونية المُقترحة في مسودة القانون الجديد للأحوال الشخصية في مصر. تضمنت بعض المواد اقتراحاً لمناصفة الثروة بين الزوجين في حالة الطلاق أو وفاة أحدهما.

نص مشروع القانون على أنه "يجوز الاتفاق في وثيقة الزواج بين الزوجين على اقتسام ما تم تكوينه من عائد مادي في شكل ادخار أو ممتلكات أثناء رابطة الزوجية لكل من الزوجين وذلك في حالة الطلاق والذي من الممكن أن يكون مناصفةً أو في شكل نسبة يتم تحديدها بالاتفاق المسبق بين الزوجين".

رغم مرور فترة طويلة على الانتهاء من المسودة، لم يتم تمرير القانون الجديد حتى الآن، ولا زال مشروعه حبيس الأدراج.

يختلف الوضع في بعض الدول العربية، فقد عرف حق الكد والسعاية طريقه للعديد من المدونات القانونية المعمول بها. في سنة 1998م، اعتمدت تونس حق الكد والسعاية بشكله القانوني، وذلك عندما أقرت ما عُرف باسم "نظام الاشتراك في الملكية بين الزوجين".

بموجب هذا النظام منح القانون التونسي الزوجين الحرية في اختيار النظام المالي الذي يرغبان به. فصار بوسع الأسرة أن تحدد موقفها من فكرة حصول الزوجة على نصف الثروة في حالة وفاة الزوج أو الطلاق.

وفي المغرب أيضاً، تم تقنين حق الكد والسعاية في مدونة الأسرة الصادرة سنة 2004.

نصت المادة رقم 49 أن "لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما فى إطار تدبير الأموال، التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية، الاتفاق على استثمارها وتوزيعها، و يضمن هذا الاتفاق فى وثيقة مستقلة عن عقد الزواج. يقوم العدلان بإشعار الطرفين عند زواجهما بالأحكام سالفة الذكر".

ووضعت المادة بعض الضوابط المنظمة لاقتسام الثروة، فذكرت "إذا لم يكن هناك اتفاق فيرجع للقواعد العامة للإثبات، مع مراعاة عمل كل واحد من الزوجين وما قدّمه من مجهودات وما تحمله من أعباء لتنمية أموال الأسرة".

كذلك اعترفت بعض المدونات القانونية الخليجية بمبدأ الكد والسعاية، فعلى سبيل المثال جاء في المادة رقم 62 من قانون الأحوال الشخصية الإماراتي "المرأة الراشدة حرة فى التصرف فى أموالها، ولا يجوز للزوج التصرف فى أموالها دون رضاها، فلكل منهما ذمة مالية مستقلة. فإذا شارك أحدهما الآخر فى تنمية مال أو بناء مسكن ونحوه كان له الرجوع على الآخر بنصيبه فيه عند الطلاق أو الوفاة".

مواضيع ذات صلة:

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
عراقية تتظاهر أمام مبنى محكمة الأحول الشخصية في بغداد ضد زواج القاصرات في العراق

تحظى التعديلات المقترحة على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959 بدعم كبير من رجال الدين الشيعة والسنة في العراق. لكن بعض رجال الدين من الطائفتين سجّلوا مواقف معارضة لهذه التعديلات.

المرجع الشيعي العراقي المعروف كمال الحيدري، وهو أحد المراجع الكبار في حوزة قم في إيران، ظل طوال السنوات الماضية معارضا  للتعديلات التي طرحت أكثر من مرة حول قانون الأحوال الشخصية.

أتباع الحيدري ومؤيدوه سارعوا إلى نشر مقاطعه وفيديوهاته القديمة، والتي تضمنت مقابلات وخطبا أجراها في الأعوام السابقة يشرح فيها الأسباب التي تدفعه إلى معارضة تعديل القانون.

ينطلق الحيدري في مواقفه الرافضة من اعتقاده أن القوانين العراقية، في بلد بمكونات دينية وإثنية مختلفة، يجب أن تغطي جميع الفئات وأن يحتكم إليها الجميع، لا أن يكون لكل فئة قانونها الخاص بها.

ويعتبر الحيدري أن على "المرجع الديني توجيه مقلديه إلى اتباع القانون، حتى لو خالف ذلك رسالته العملية وفتاويه".

وتمنح التعديلات المطروحة الحق للعراقيين في اختيار اللجوء إلى إحدى مدونتين، شيعية وسنية، يتم إعدادهما من قبل المجلسين السنّي والشيعي بهدف تقديمهما إلى البرلمان.

وتتخوف المنظمات النسائية من أن يؤدي اللجوء إلى هاتين المدونتين الباب أمام تشريع زواج القاصرات، وكذلك إجراء تعديلات جوهرية على إجراءات حضانة الأطفال بشكل يضر حقوق المرأة.

كان "سابقاً لعصره".. خلفيات إقرار قانون الأحوال الشخصية العراقي 1959
أعاد النقاش حول قانون الأحوال الشخصية في العراق إلى الواجهة، الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صدور القانون المعمول به حالياً في عام 1959، خصوصاً بعد المطالبة بتعديله من قبل نوّاب من كتل سنيّة وشيعية في البرلمان.

رجل دين شيعي آخر، هو حسين الموسوي، أعلن بشكل مباشر معارضته للتعديلات المطروحة على القانون.

أكد الموسوي في أكثر من منشور له على موقع "أكس"‏ رفضه المستمر "لتعديل قانون الأحوال في ‎العراق، رفضًا تامًا لا نقاش فيه!".

وقال الموسوي، مستخدما وسم #لا_لتعديل_قانون_الأحوال_الشخصية: "أقول لبناتنا وشبابنا بضرورة التحرك بكل الطرق الممكنة لمنع الفئة الضالة من الهيمنة على المستقبل بعد سرقتهم الماضي".

في الجانب السنّي، يبرز موقف رئيس رابطة أئمة الأعظمية الشيخ مصطفى البياتي المعارض للتعديلات على القانون. 

وطالب البياتي في حديث صحافي الجهات التي طرحت التعديلات بسحبها "حفاظاً على وحدة العراق وحفاظاً على كرامة المرأة العراقية من هدرها على يد أناس لا يرقبون في حفظ كرامتها أي ذمة".

البياتي رأى في النقاشات التي تخاض في مجلس النواب وخارجه "ترسيخًا للطائفية بعد أن غادرها العراقيون، ومخالفة للأعراف المعتمدة في البلد".

رجل دين سنّي آخر، هو عبد الستار عبد الجبار، سجّل مواقف معارضة للتعديل. وقال في إحدى خطب الجمعة التي ألقاها في المجمع الفقهي العراقي إن "زواج القاصرات موضوع عالمي، العالم كله يرفضه، وهو ليس ديناً".

وتابع: "لا يوجد نص يقول إنه يجب أو مستحب زواج القاصرات. هو موضوع كان شائعاً في الجاهلية وسكت الإسلام عنه، والعالم الآن لا يحبه، وهذا لا يتعارض مع الإسلام لأن زواج القاصرات ليس من أصول الإسلام". 

وسأل عبد الجبار: "لماذا هذا الإصرار على هذه القضية؟ هل الإسلام جوهره زواج القاصرات مثلاً؟ إلى متى نبقى هكذا؟". ودعا إلى التفكير بعقلية "أريد أن أبني بلدي، وليس أن أنصر طائفتي على حساب الطوائف الأخرى".

ولم تعلن المرجعية الدينية الشيعية في النجف موقفاً حاسماً من التعديلات المطروحة حاليا، وإن كان مكتب المرجع الأعلى علي السيستاني قال في رد على سؤال ورد إليه عام 2019 إنه "ليس لولي الفتاة تزويجها إلا وفقاً لمصلحتها، ولا مصلحة لها غالباً في الزواج إلا بعد بلوغها النضج الجسمي والاستعداد النفسي للممارسة الجنسية". 

وأضاف المكتب أنه "لا مصلحة للفتاة في الزواج خلافاً للقانون بحيث يعرّضها لتبعات ومشاكل هي في غنى عنها".