جدارية تصور الشاعر العراقي مظفر النواب بريشة الفنانة العراقية وجدان الماجد على جدار خرساني في العاصمة بغداد.
جدارية تصور الشاعر العراقي مظفر النواب بريشة الفنانة العراقية وجدان الماجد على جدار خرساني في العاصمة بغداد.

 عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وقد تواجدت عشرات اللوحات على جدران الكنائس والقصور في شتى أنحاء القارة العجوز.

تماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية. على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية، فأعلنت أغلبية الآراء الفقهية عن معارضتها للتصوير والرسم والنحت.

نلقي الضوء في هذا المقال على مجموعة من "الفتاوى المستنيرة" التي خالفت السياق الفقهي العام، لتجيز للمسلمين ممارسة تلك الفنون.

 

الرأي التقليدي

وردت الكثير من الأحاديث النبوية التي تظهر رفض الإسلام للرسم والتصوير. ينقل محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه بعضاً من تلك الأحاديث. منها أن النبي دخل بيت عائشة ذات مرة، فوجد ثوباً عليه صور، فغضب ومزق الثوب وقال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويُقال لهم: "أحيوا ما خلقتم". ويؤكد النبي المعنى نفسه في أحاديث أخرى، منها "إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذاباً عندَ اللَّهِ المصَوِّرونَ".

وبناء على تلك الروايات، ذهب جمهور العلماء إلى حرمة رسم وتصوير ذوات الأرواح.

على النحو ذاته، رفض التقليد الفقهي الإسلامي نحت التماثيل. بُني هذا الرأي على ارتباط التماثيل بالأصنام التي كانت تُعبد قبل الإسلام، وعلى ما نُسب إلى النبي في صحيح مسلم:  "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تماثيل". ولذلك ذهب جمهور الفقهاء السنة لحرمة صناعة التماثيل أو وضعها في المنازل.

 

وجهة نظر مختلفة

يتعارض التحريم الفقهي القاطع للتصوير والرسم والنحت مع بعض الروايات التاريخية المُختلف على صحتها. من تلك الروايات ما ذكره أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار"، من أن الكعبة في الجاهلية كانت تحتوي على الكثير من التماثيل والصور، ومنها صورة للنبي إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام، وصورة أخرى للمسيح عيسى بن مريم مع أمه.

ويذكر الأزرقي أن الرسول لما فتح مكة في العام الثامن من الهجرة توجه إلى الكعبة "ودخل إلى البيت، فأمر بثوب فبلّ بماء، وأمر بطمس تلك الصور ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: امحوا الجميع إلا ما تحت يدي".

نُقلت هذه الرواية في الكثير من المصادر المعتبرة في القرون التالية، ومنها تاريخ الإسلام لشمس الدين الذهبي، إذ أوردها ثم علق عليها ببعض الشواهد المثبتة لها، ومن ذلك ما ورد عن التابعي عطاء بن أبي رباح، من أنه لما سُئل عن هذه الصورة، قال: "أدركت تمثال مريم مزوقاً في حجرها عيسى قاعد. وكان في البيت -يقصد الكعبة- ستة أعمدة سوارٍ، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب". ولما سُئل عطاء عن توقيت إزالة هذا التمثال من الكعبة أجاب بأن ذلك قد وقع في الحريق الذي نشب بالكعبة في زمن عبد الله بن الزبير سنة 64 للهجرة.

 يشير ذلك إلى ما يبدو وكأنه نوع من أنواع التسامح مع الصور في حقبة الإسلام المبكرة.

ويوضح زكي محمد حسن في كتابه "التصوير وأعلام المصورين في الإسلام" أن المجتمعات الإسلامية قد عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت رغم الرفض الفقهي/ يقول: "لا نستطيع أن ننفي قطعيّاً وجود أي تصوير ديني في الإسلام، فإن بعض المصورين الإيرانيين عمد إلى حياة النبي وإلى بعض الحوادث الجسام في تاريخ الإسلام فاتخذ منها موضوعات لصور كانت تشمل في بعض الأحيان على رسما للنبي".

 

فتاوى معاصرة

ظهرت في العصر الحديث العديد من الفتاوى الدينية التي أجازت ممارسة الرسم والتصوير والنحت وغير ذلك من الفنون التشكيلية.

وقد بدأت تلك الفتاوى بالفتوى الشهيرة التي قال بها رجل الدين المصري محمد عبده في مطلع القرن العشرين. ففي سنة 1904، زار عبده جزيرة صقلية، وأبدى في إحدى مقالاته -التي نشرها في مجلة المنار- إعجابه بحفاظ أهل الجزيرة على ما لديهم من آثار وتماثيل. وفي مقاله تطرق عبده للحكم الفقهي للنحت فقال: "ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛ فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية"- بحسب ما ذكر عباس محمود العقاد في كتابه "عبقري الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده".

في سنة 2001، عاد الجدل حول حكم التماثيل في الإسلام إلى الواجهة بعدما قامت حركة طالبان الحاكمة في أفغانستان بتدمير تمثالي بوذا في منطقة باميان.

أثار الحادث غضب الكثير من رجال الدين المسلمين. فعلى سبيل المثال اعترض عليه مفتي مصر الأسبق، نصر فريد واصل، وقال: "إن الحفاظ على هذه الآثار أمر له تبريره لأن هذه الآثار تجلب منافع اقتصادية للدول الموجودة فيها عن طريق السياحة".

ودعا المفتي المسؤولين في طالبان إلى عرض التماثيل البوذية التي لا تأثير لها في المسلمين.

وفي سنة 2006م، انتقل الجدل حول التماثيل والنحت إلى مصر نفسها، وذلك بعدما أفتى مفتي مصر السابق، علي جمعة بأن تزيين البيوت بالتماثيل حرام ولا يجوز شرعاً، واعتبرها معصية لا يجوز الوقوع فيها.

وقتها، أثارت الفتوى غضب قطاع واسع من الفنانين المصريين، فقد انتقد وزير الثقافة المصري الأسبق، فاروق حسني، فتوى جمعة فقال: "هناك فرق بين العبادة وصناعة الآلهة كاللات والعزي ومناة، وبين الشعور بقيمة جمالية التأمل في الطبيعة والإنسان".

في السياق نفسه، ظهرت بعض الفتاوى التي ردت على فتوى علي جمعة، ومن من ذلك فتوى عبد الصبور شاهين، الأستاذ بكلية دار العلوم، والذي أكد فيها "أنه يجوز شرعاً استخدام التماثيل وغيرها لديكور المنازل، لأن زمن عبادة الأصنام والتماثيل قد انتهى"، وهو الرأي الذي اتفقت معه آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر.

في السنوات الأخيرة، تتابعت الفتاوى التي أجازت الرسم والنحت من جانب العديد من رجال الدين المسلمين، وتباينت الطرق في إثبات تلك الإجازة. وقد ذكر سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن الفقهاء اتفقوا على تحريم التصوير الذى يتخذ إلهاً يُعبد من دون الله. أما التصوير لغير العبادة كعمل فني أو تجاري أو ثقافي أو تعليمي فقد اختلفوا في حكمه على ثلاثة مذاهب.

وأكد الهلالي أن من حق كل مسلم أن يختار من المذاهب الثلاثة ما يوافق ضميره ومعتقده.

في سنة 2009، أصدرت لجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر فتوى رسمية بإباحة ممارسة الرسم والنحت والتصوير. وقد  جاء في تلك الفتوى: "إن الإسلام لا يحارب الفن الهادف، بل يدعو إليه، ويحث عليه؛ لأن الفن في حقيقته إبداع جمالي لا يعاديه الإسلام، والنحت والتصوير من الفنون، فالإسلام لا يحرمه؛ ولكنه في الوقت نفسه لا يبيحه بإطلاق؛ بل يقيد إباحته بقيدين هما: ألا يقصد بالشيء المنحوت أو المصور عبادته من دون الله، والقيد الثاني: أن يخلو النحت والتصوير من المضاهاة لخلق الله التي يُقصد بها أن يتحدى صنعة الخالق ويفترى عليه بأنه يخلق مثل خلقه، فإذا انتفى هذان القيدان فالنحت والتصوير ونحوهما مباح، ولا شيء فيه.". في المعنى ذاته، قدم المفكر الإسلامي، عدنان إبراهيم، محاضرة عن حكم الرسم والنحت في الإسلام.

وذكر إبراهيم أن حرمة صناعة التماثيل كانت مربوطة بعبادتها، وأكد أن تلك الفنون غير محرمة بذاتها.

من جهة أخرى، ظهرت العديد من الفتاوى الشيعية التي أباحت التصوير والرسم والنحت، من ذلك فتوى المرجع الشيعي الأعلى في العراق، علي السيستاني، بجواز تعليق صور النبي والأئمة في البيوت والمنازل.

وجاء في الموقع الرسمي للمرجع الشيعي العراقي، كمال الحيدري، تعليقا على روايات  كراهية تصوير ذوات الأرواح قوله إن تلك "الروايات لا تبلغ حد الحرمة أولاً ثم إنها محمولة على زمانها، حيث كانت تشيع عبادة التماثيل فورد النهي عن ذلك لئلا يروج لها أو يتأثر بها".

ويضيف الحيدري: "وأما اليوم، فقد أصبحت الصور ورسمها فناً من الفنون وجزء من الاهتمام بالآثار الحضارية، ولها اعتبارات علمية ومالية، فلا إشكال عندنا في وجود الصور أو الألعاب في داخل الغرف والبيوت، وكذا لا إشكال في تصويرها ونحتها ما لم يكن الغرض منها عبادتها".

مواضيع ذات صلة:

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
عراقية تتظاهر أمام مبنى محكمة الأحول الشخصية في بغداد ضد زواج القاصرات في العراق

تحظى التعديلات المقترحة على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959 بدعم كبير من رجال الدين الشيعة والسنة في العراق. لكن بعض رجال الدين من الطائفتين سجّلوا مواقف معارضة لهذه التعديلات.

المرجع الشيعي العراقي المعروف كمال الحيدري، وهو أحد المراجع الكبار في حوزة قم في إيران، ظل طوال السنوات الماضية معارضا  للتعديلات التي طرحت أكثر من مرة حول قانون الأحوال الشخصية.

أتباع الحيدري ومؤيدوه سارعوا إلى نشر مقاطعه وفيديوهاته القديمة، والتي تضمنت مقابلات وخطبا أجراها في الأعوام السابقة يشرح فيها الأسباب التي تدفعه إلى معارضة تعديل القانون.

ينطلق الحيدري في مواقفه الرافضة من اعتقاده أن القوانين العراقية، في بلد بمكونات دينية وإثنية مختلفة، يجب أن تغطي جميع الفئات وأن يحتكم إليها الجميع، لا أن يكون لكل فئة قانونها الخاص بها.

ويعتبر الحيدري أن على "المرجع الديني توجيه مقلديه إلى اتباع القانون، حتى لو خالف ذلك رسالته العملية وفتاويه".

وتمنح التعديلات المطروحة الحق للعراقيين في اختيار اللجوء إلى إحدى مدونتين، شيعية وسنية، يتم إعدادهما من قبل المجلسين السنّي والشيعي بهدف تقديمهما إلى البرلمان.

وتتخوف المنظمات النسائية من أن يؤدي اللجوء إلى هاتين المدونتين الباب أمام تشريع زواج القاصرات، وكذلك إجراء تعديلات جوهرية على إجراءات حضانة الأطفال بشكل يضر حقوق المرأة.

Iraqis Shiite Muslim worshippers gather outside the of Imam Moussa al-Kadhim shrine, who died at the end of the eighth century,…
كان "سابقاً لعصره".. خلفيات إقرار قانون الأحوال الشخصية العراقي 1959
أعاد النقاش حول قانون الأحوال الشخصية في العراق إلى الواجهة، الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صدور القانون المعمول به حالياً في عام 1959، خصوصاً بعد المطالبة بتعديله من قبل نوّاب من كتل سنيّة وشيعية في البرلمان.

رجل دين شيعي آخر، هو حسين الموسوي، أعلن بشكل مباشر معارضته للتعديلات المطروحة على القانون.

أكد الموسوي في أكثر من منشور له على موقع "أكس"‏ رفضه المستمر "لتعديل قانون الأحوال في ‎العراق، رفضًا تامًا لا نقاش فيه!".

وقال الموسوي، مستخدما وسم #لا_لتعديل_قانون_الأحوال_الشخصية: "أقول لبناتنا وشبابنا بضرورة التحرك بكل الطرق الممكنة لمنع الفئة الضالة من الهيمنة على المستقبل بعد سرقتهم الماضي".

في الجانب السنّي، يبرز موقف رئيس رابطة أئمة الأعظمية الشيخ مصطفى البياتي المعارض للتعديلات على القانون. 

وطالب البياتي في حديث صحافي الجهات التي طرحت التعديلات بسحبها "حفاظاً على وحدة العراق وحفاظاً على كرامة المرأة العراقية من هدرها على يد أناس لا يرقبون في حفظ كرامتها أي ذمة".

البياتي رأى في النقاشات التي تخاض في مجلس النواب وخارجه "ترسيخًا للطائفية بعد أن غادرها العراقيون، ومخالفة للأعراف المعتمدة في البلد".

رجل دين سنّي آخر، هو عبد الستار عبد الجبار، سجّل مواقف معارضة للتعديل. وقال في إحدى خطب الجمعة التي ألقاها في المجمع الفقهي العراقي إن "زواج القاصرات موضوع عالمي، العالم كله يرفضه، وهو ليس ديناً".

وتابع: "لا يوجد نص يقول إنه يجب أو مستحب زواج القاصرات. هو موضوع كان شائعاً في الجاهلية وسكت الإسلام عنه، والعالم الآن لا يحبه، وهذا لا يتعارض مع الإسلام لأن زواج القاصرات ليس من أصول الإسلام". 

وسأل عبد الجبار: "لماذا هذا الإصرار على هذه القضية؟ هل الإسلام جوهره زواج القاصرات مثلاً؟ إلى متى نبقى هكذا؟". ودعا إلى التفكير بعقلية "أريد أن أبني بلدي، وليس أن أنصر طائفتي على حساب الطوائف الأخرى".

ولم تعلن المرجعية الدينية الشيعية في النجف موقفاً حاسماً من التعديلات المطروحة حاليا، وإن كان مكتب المرجع الأعلى علي السيستاني قال في رد على سؤال ورد إليه عام 2019 إنه "ليس لولي الفتاة تزويجها إلا وفقاً لمصلحتها، ولا مصلحة لها غالباً في الزواج إلا بعد بلوغها النضج الجسمي والاستعداد النفسي للممارسة الجنسية". 

وأضاف المكتب أنه "لا مصلحة للفتاة في الزواج خلافاً للقانون بحيث يعرّضها لتبعات ومشاكل هي في غنى عنها".