ما زال مفهوم الدولة الحديثة حتّى اليوم ملتبساً في العالم العربي، خصوصاً من جهة تطبيق أسس ودعائم هذه الدولة ومدى تماشيها مع تصوّرات مجموعات معيّنة حول ضرورة توحيد الأمّة الإسلامية أو العربية تحت عنوان عريض واحد.
وقد علت مطالب الشعوب في ظلّ الحراك العربي في السنوات الماضية للمطالبة بتعديل الدساتير فيما يتناسب مع تطلّعاتها. لكن عجز الحكومات عن التغيير أنتج حالة من السخط والإحباط واليأس وفتح الباب لمجموعات متطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية الفرصة لاستغلال هذه الأوضاع والترويج للعنف والتطرّف.
ليست الجغرافيا وحدها ما يفصل بين دولة عربية وأخرى، بل أيضاً أنظمة الحكم والدساتير والقوانين الداخلية للبلاد. بحسب ما تظهره الدراسات، لم تسجل نسبة كبيرة من هذه الأنظمة والبلدان إنجازات مهمّة ومعظمها لم ينجح في إرساء العدالة الاجتماعية وتقليص نسب الفقر والبطالة ومعالجة مسألة المواطنة والتحديات الاقتصادية والسياسية. وقد كشف ما يسمّى بالربيع العربي عن الالتباس الذي يعاني منه حتّى المشرّع في وضع الدستور وقوانين الحكم.
مصادر الدستور
عندما بدأ الحراك الشعبي في الدول العربية وبدأت المطالبة بالتغييرات في أسس ومفاهيم الحكم، ظهر نقاش حادّ حول مصدر الدستور ومن أين يجب استقاء قواعد الدولة وتنظيم عملَ السّلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعيّة والقضائيّة، وتحديد صلاحيّاتها والعلاقة بينها.
يشرح الأستاذ في القانون الدستوري وسيم منصوري أنّ "مصادر الدستور كانت نقطة حسّاسة في النقاش عند تغيير وتعديل بعض الدساتير العربية مؤخّرا". التساؤل الأبرز بحسب منصوري كان حول إذا ما يجب على الدستور الاستناد على الشريعة الإسلامية أو إيجاد مصادر أخرى للتشريع.
يتابع منصوري "لكنّ المصدر، على أهميّته، ليس الأصل. الأصل هو التنوّع في المجتمع العربي. فالدستور، وإن ذكر مصدراً دينياً، لا يتحوّل إلى نصّ ديني مقدّس بل يبقى قابلا للتغيير والتعديل وهذا ما يهمّ فعليّا".
الطابع الديني والدساتير العربية
يؤكّد أستاذ القانون والمحامي اللبناني شبلي ملّاط أنّ الصبغة الدينية موجودة في الدساتير العربية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ويعطي مثالا عن دول عديدة تذكر الإسلام كدين للدولة مثل تونس وأخرى كمصدر للتشريع مثل مصر. يختلف الأمر في لبنان، حيث لا ذكر للدين في المواد الأولى للدستور الذي يتّخذ بحسب ملّاط "شكلاً طائفياً"، على الرغم من أنّه ينصّ في مقدّمته على أنّ "إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية".
يعود الدستور اللّبناني إلى الموضوع الديني في المادّة التاسعة من الفصل الأوّل في الدستور، والتي تنصّ على أنّ "حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضا للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية".
من جهة أخرى، الصبغة الدينية مباشرة في الدستور المصري وتنصّ المادّة الثانية على أنّ "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".
يختلف الدستور السوري. وإذ يؤكّد على الإسلام كدين لرئيس الجمهورية، يذكر الفقه الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع. ويضيف "تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام. الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية".
في تونس، يبدو الفصل بين الدين والدولة أوضح. وإذ ينصّ الفصل الأوّل من الدستور أنّ "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، يؤكّد الفصل الثاني أنّ "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون".
دول الخليج
أما المملكة العربية السعودية التي تتبع نظام الملكية المطلقة، فلا تمتلك دستواً مكتوباً، وتستند في نظامها الأساس إلى أحكام الشريعة. وقد أصدر الملك الراحل فهد بن عبد العزيز آل سعود النّظام الأساسي للحكم في المملكة العربيّة السّعوديّة عام 1992. وصاغت مسوّدة النّظام الأساسي لجنة تمّ تشكيلها بأمرٍ ملكي، ثم صدرَ النّظام بأمرٍ ملكي. ويتمّ تعديل النّظام الأساسي بأمر ملكي أيضا.
في الإمارات العربية المتّحدة، أصدر المجلس الاتحادي لدولة الإمارات الدستور الاتّحادي المؤقت عام 1972. وفي عام 1996 قرّر المجلس الأعلى تحويل الدّستور المُؤقت إلى دستورٍ دائم.
وربما تكون التجربة الدستورية الأعرق في الخليج تجربة دولة الكويت، التي احتفلت منذ ثلاث سنوات بمرور خمسين عاما على إصدار دستورها. ما يميّز التجربة الدستورية الكويتية، على الرغم من بعض الاحتجاجات والاختلافات السياسية في البلاد، هو كونها الأكثر إتاحة للمشاركة الشعبية في التشريع والرقابة مقارنة بغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي. وإذ تتبع الدساتير الخليجية بمعظمها أسلوب المنحة، يتّبع الدستور الكويتي أسلوب العقد أيّ أنّه نتاج توافقٍ بين إرادة الحاكم.
تختلف التجربة القطرية أيضا، حيث بادر أمير قطر الشّيخ حمد بن خليفة آل ثاني عام 2004 بإصدار الدّستور القطري ليحلّ مكان النظام الاساسي المعدل المؤقت لعام1972. كما طُرح مشروع الدّستور للاستفتاء العام، حيث كان لجميع المواطنين رجالا ونساء ممّن بلغوا سنّ الثّامنة عشرة حقّ التّصويت في الاستفتاء بالبطاقة الشخصية.
العبرة في التطبيق
يشير الأستاذ في القانون الدستوري منصوري إلى أنّ الاختلاف في الدساتير ليس الأساس في تحديد مستقبل الحكم، مؤكّدا أنّ "العبرة في التطبيق". ويقول "الدساتير في النهاية وضعية وغير عملية وما يشكّل الفرق هو التطبيقات العملية لهذه القوانين".
يعطي منصوري مثالا عن تسلّم الإخوان المسلمين الحكم في مصر وسعيهم لتطبيق الدستور بطريقة مغايرة عن النظام الذي خَلَفَهم - أي الحقبة الحالية التي يترأس فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الدولة. ويقول "الدستور المصري لم يتغيّر، لكن ما تغير هو طريقة التعامل مع أحكامه بين الحقبتين". يؤكّد أيضا أنّ "المجتمع العاجز عن تبني الديموقراطية كما يجب، سيفشل مهما كان مصدر التشريع".
الأزمة، كما يصفها، ليست أزمة نصّ على قدر ما هي أزمة ممارسة. لكنّه يشير أيضا إلى أنّ تعابير بسيطة قد تخلق تغييرات جذرية، ويذكر التعديل الدستوري في تونس عام 2004، الفصل السادس الذي ينصّ على أنّ "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي".
ويعتبر منصوري أنّ ذكر حريّة الضمير والمعتقد من أبرز الانجازات نحو الدولة المدنية واحترام حقوق الإنسان بغضّ النظر عن معتقده الديني. يقول "حريّة الضمير نقطة أساسية فهي تضمن حريّة الإيمان أو عدمه وتحارب التكفير والأساليب الترهيبية الأخرى التي قد تمارس على الفرد بذريعة الدين بينما الدين منفصل عن هذه الممارسات".
*الصورة: مجلس النواب التونسي مجتمعاً لمناقشة الدستور/وكالة الصحافة الفرنسية