يعتبر البعض أن التوترات الطائفية التي تشهدها المجتمعات العربية ناتجة عن احتضانها تنوّعاً دينياً وإثنياً واسعاً، وأن تعددية الجماعات التي تعيش جنباً إلى جنب هي ما أدى إلى صعود المتطرّفين.
ينتقد عالم الاجتماع ومدير "معهد العراق لمعلومات الديمقراطية"، فالح عبد الجبار قراءة التوترات الطائفية "على المستوى الفكري" ويفضل البحث عن الأسباب الاجتماعية للظاهرة.
وقال عبد الجبار في حديث لموقع (إرفع صوتك) "أكبر كذبة في السوسيولوجيا هي القول إن هناك ردّة إلى الإسلام". وأضاف "لم يصحَ المجتمع فجأة ويقول إن كل الإيديولوجيات سيئة وأريد العودة إلى الإسلام".
يرى عبد الجبار أنه لطالما كانت المجتمعات العربية مرتبطة بالإسلام. ولكن الجديد هو تسييس الطقوس الدينية، وهذا حصل في السنوات الثلاثين الأخيرة. واعتبر أن نهضة تيارات الإسلام السياسي "سببها الديكتاتوريات العربية التي احتكرت السلطة ودمرت القوى الاجتماعية المدنية، ما أدى إلى نشوء فراغ هائل سدّته القوى التقليدية".
ولفت الباحث العراقي حارث حسن، من جانبه، في دراسة بعنوان "الأزمة الطائفية في العراق: إرث من الإقصاء"، نشرها "مركز كارنيغي للشرق الأوسط"، إلى أنه "تاريخياً، كانت الخلافات حول القضايا السياسية واللاهوتية والعقائدية هي السبب في الانقسام بين السنَّة والشيعة، بيد أن التنافس على السلطة والموارد والمكانة هو الدافع وراء مظاهرها وتجلياتها الحديثة".
ورأى حسن أن فكرة التمثيل الطائفي هيمنت على العلاقات السياسية بدلاً من تمثيل المواطنين، "الأمر الذي أدّى إلى تفاقم الانقسامات القائمة بدل تخفيفها". وأمام هذا الواقع، "لم تقم الحكومة العراقية بأي محاولة واضحة للتغلّب على هذه الانقسامات وبناء هويّة وطنية مشتركة".
ليست كل الحالات الطائفية متشابهة بحسب عبد الجبار، فهو يميّز بين طائفية بنيوية وبين طائفية ظرفية. والفارق بين الحالتين يكمن في أنه "لمعالجة الطائفية البنيوية يجب فكفكة التنظيم الاجتماعي"، أما الطائفية الظرفية فهي تختفي حين تزول أسبابها المرحلية، وهي أسباب خارجية وليست داخلية.
وعن الطائفية البنيوية يعطي مثالاً الحالة اللبنانية. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقعت حالات قتل وسلب كثيرة في جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين. "وكان أصحاب الأراضي يصوّرون للناس أن ما يهدد ملكياتهم يهدّد الجماعة كلها". كما راح القناصل الأجانب والباب العالي يتدخلون في حياة الناس. من هنا اعتبر أن "النظام الطائفي في لبنان أساسه التنافس بين الزعماء المحليين على الموارد من أراضي زراعية ومياه وهذا ناتج من صغر مساحة لبنان".
"المجتمع الشيعي" ينتفض على "الدولة الشيعية"!
أما الطائفية في العراق، فهي برأي عبد الجبار ظرفية ولا تمتلك بعداً تاريخياً، لأن "التنظيم الاجتماعي هو القبيلة والأحياء. فكنا على سبيل المثال نرى أحياء شافعية تتقاتل مع أحياء حنبلية فيتدخل شيعة للعب دور وساطة أو العكس".
ولذلك يرى أن الطائفية تتراجع حالياً لأنه لم يعد من الممكن الاستثمار في فكرة أن الشيعة في خطر بعد وصولهم إلى السلطة. ولم يعد من الممكن تخويف الشيعة بخطر داعش والقاعدة. ولهذا، فإن "المجتمع الشيعي ينتفض على الدولة الشيعية لأن خطاب الخطر الخارجي لم يعد مجدٍ. وهذا لا يعني أن المنتفضين لا يعودون شيعة بل هم شيعة ويمارسون طقوساً شيعية ولكن تسييس الهويات هو الذي ينتهي".
وتقع الحالة اليمنية بين الحالتين العراقية واللبنانية، حيث يتخذ الصراع على السلطة شكلاً يمزج المذهبي بالقبلي "وقد غلب في السنة الأخيرة الشكل المذهبي وصار العامل الطائفي أقوى بسبب خطر تنظيم القاعدة ولجوء الزيديين إلى الحوثيين لتأمين الحماية لهم وبسبب التدخلات الخارجية وتدخلات إيران"، كما قال عبد الجبار
أما حسن فيختلف في رأيه قليلاً مع عبد الجبار. كتب "توحي حقيقة أن الجماعات الشيعية تمثّل أطرافاً متنافسة بأن التحالفات الحزبية يمكن أن تكون لها الأسبقية على التجمعات الطائفية في مرحلة ما في المستقبل. ومع ذلك، لا يجب اعتبار هذه المنافسات مؤشّراً على ضعف الانقسام الطائفي داخل العراق. فهي تمثّل في الواقع نتيجة لزيادة الثقة التي اكتسبتها الأحزاب الشيعية على المستوى الوطني، حيث يتيح لها موقعها في السلطة في العراق إيلاء المزيد من الاهتمام لمصالحها الحزبية".
"تحديث" العنف الطائفي
وحذر حسن من أن لا تزول الظروف التي يعتبرها عبد الجبار ظرفية، لأن "العنف جلب سرديّات طائفية جديدة العدو فيها هو "الآخر الطائفي"، و"الأبطال" هم أولئك الذين دافعوا عن الطائفة وهزموا "العدو". هذا الاستقطاب الاجتماعي والثقافي عرضة لأن يصبح جزءاً من الذكريات التاريخية التي تشكّل الهويات الجماعية. وأضاف "إذا ما أصبحت هوية طائفية بعينها مهيمنة وظاهرة داخل المؤسّسات العامة، فسيكون من الصعوبة بمكان إحياء نمط ما من الدولة القومية لتبرير استمرار العراق كبلد واحد".
لا تقتصر التوترات الطائفية في الدول العربية على السنّة والشيعة فقط. ففي مصر، تحدث اشتباكات متباعدة بين مسلمين وأقباط. وكان منسق حركة كفاية السابق جورج اسحق قد اعتبر أن أسباب هذا الاحتقان كثيرة، وأبرزها الفضائيات المسيحية والإسلامية المتشددة التي تحولت إلى "ساحة للسجال الديني الذي سيؤدي إلى التحريض والفوضى".
وفي الجزائر مثلاً، تقع اشتباكات بين العرب المالكيين وبين الأمازيغ الإباضيين في منطقة غرداية في جنوب البلاد. وفي قراءته لآخرها، إعتبر الباحث الجزائري نور الدين بكيس، أنه "عند عجز مؤسسات الدولة عن ضمان حقوق المواطن، يجد هذا الأخير نفسه مرغماً على البحث عن مؤسسات بديلة ضامنة، على الأقل توفر له الحماية، ومن هنا ولدت لدى هذا المواطن نزعة للاحتماء بالبنى التقليدية والاصطفاف العرقي والإثني في غياب فاعلية مؤسسات الدولة".
ما الحلّ؟
يطرح المحللون فكرة التوصل إلى نظام سياسي يضمن حقوق كل الطوائف، بحيث لا تعود إحداها قادرة على الاستثمار في التجييش الطائفي وبالتالي في العنف. بينما يرى حسن أن "المساعدة الدولية (للعراق) يمكن أن تساعد على كبح هذا التوجّه من خلال دعم إطار مؤسّسي يعالج مسألة تقاسم السلطة في البلاد، من دون تعزيز صيغة المحاصصة العرقية والطائفية".
*الصورة: تظاهرة لمصريين أقباط في القاهرة/وكالة الصحافة الفرنسية