هنالك شبه إجماع على أن الدول العربية متأخرة على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى فعالية مؤسسات الدولة وعلى مستوى الحريات وتقبل الاختلاف كما على صعيد العلوم الحديثة. وأمام هذا الواقع، يعتبر بعض المفكرين العرب أن تحقيق ما يسمّونه "التقدّم" أو "الخروج من حالة التخلّف" في العالم العربي يستوجب قيام حكومات علمانية وديموقراطية.
حاجة إلى صدمة العلمانية؟
"نحن في العالم العربي خارج المسار الحضاري"، يقول المفكر المصري مراد وهبة. معتبراً أن المسار الحضاري يتحقق بالابتعاد عن الفكر الأسطوري وتبنّي الفكر العقلاني، وهو ما لم يحدث في الثقافة العربية. وبرأيه "العلمانية هي الحل لخروجنا من حالة التخلف".
ويعتقد وهبة أن عملية التغيير تحتاج إلى صدمات عقلية و"العلمانية تعتبر إحدى هذه الصدمات". ويضيف أن "مَن يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة يمثل آفة على البشرية والحضارة لأنه يمنعها من التطور"، مشيراً إلى أن الأصوليين في الشارع العربي يدّعون امتلاكها "ولذلك يحاربون أي شخص يعمل فكره وعقله ويقومون بتكفيره في الحد الأدنى وقتله في الحد الأقصى".
مفكرون عرب كثيرون يعتقدون أن فعالية الدين في المجتمع تعيق التقدّم ويطالبون بإخراج الدين من الفضاء العام. وبحسب الشاعر والمفكر السوري أدونيس، إذا قرأنا التاريخ العربي والنصوص الدينية سنجد أن "الفرد لا حقّ له في أن يعدّل، أو أن يغيّر، أو أن يضيف، أو أن يحذف، بل تقتصر حريته على أن يطيع وينفذ". من هنا يؤكد أنه "من دون تحويل قراءة الدين إلى قراءة جديدة، بحيث لا أحد يحارب أحداً، وتصبح جميع الأديان عبارة عن إيمان شخصي فردي حرّ، ويكون دين المجتمع هو الإنسان وحريته وحقوقه، فإن من دون ذلك لا يمكن إنجاز أي تقدّم".
إما الدين أو الهمجية؟
ولكن في المقابل، كان أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون برهان غليون قد حذّر، في كتابه "نقد السياسة: الدولة والدين"، من أنه "لا يكفي أن ندمر الدين في مجتمع ما، أو نبعده عن الحياة المدنية حتى يتجلى العقل بقيمه المذكورة، ولو فعلنا ذلك لن نجد أمامنا إلا الأمية والفراغ والهمجية". وأشار إلى أن فشل تكوين العقل ليس بسبب مقاومة الدين، بل بسبب "خطأ الاستراتيجيات والسياسات التي أخذت على عاتقها بناءه"، ونبّه إلى أن "التهجم على الدين غالباً ما يتحول إلى تعويض عن إخفاق العقل".
مديح "إسلام التجار"
لا يقف كل فكر ديني عائقاً في وجه المجتمعات العربية، فالقضية رهن بطبيعة مبادئ هذا الفكر. وبعد انتقاده لما أسماه إسلام الدولة الرسمي والإسلام الأصولي التكفيري الجهادي العنيف، مدح المفكر السوري صادق جلال العظم ما أسماه "إسلام الطبقات الوسطى والتجارية". هذا الإسلام الذي يجد نموذجه في المرحلة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية التركي هو، برأي العظم، "إسلام معتدل ومحافظ، يتمحور حول عمليات البيزنس بأشكالها كافّة، له مصلحة حيوية في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وهو بالتأكيد غير مهووس بالمشركين... إنه إسلام يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام"، وهذا الإسلام، والكلام للعظم، يمتاز بأنه يعد بـ"المزيد من الإصلاح والتحديث".
دعوات إلى تجاوز مصطلح العلمانية
وبسبب السجال ذي الطبيعة العقائدية حول مصطلح العلمانية في العالم العربي، يقبل المفكر الجزائري الفرنسي محمد أركون بتجاوز هذا المصطلح ولكنه يتشبث باعتماد "روح العلمانية" كونها شرطاً للتقدّم. فهذه الروح تتأسس على ثلاثة مبادئ: أولاً، بلورة المعرفة النقدية التي تفترض الوقوف موقفاً نقدياً حيادياً تجاه كل الأديان والعقائد والنظريات دون تحيّز؛ ثانياً، عدم تأطير عقول الناس عن طريق التلاعب الخفي بها بواسطة الأساليب البلاغية والحيل الكلامية؛ وثالثاً، تعليم الطلاب معلومات صحيحة.
في كل الحالات، فإن الأكيد أن تبني الأنظمة السياسية العلمانية لا يحدث تغييراً تلقائياً داخل المجتمعات. فالعلاقة بينها وبين التقدّم ليست تلقائية. ولكن هنالك مبادئ مستقاة من تجارب الدول العلمانية تؤكد أن للتطور شروطاً موضوعية. وبرغم أن برهان غليون ينتقد العقائدية العلمانية إلا أنه يرى أنه "لا يمكن للدولة أن تنضج وتكتمل شروط وجودها إذا ظلت عالة على الدين وحصرت ضمن أحكامه وغاياته، ولا للاقتصاد أن يتطور إذا خضع لمنطق العقيدة، دينية كانت أو مدنية، ولا للعقل أن يبدع إذا ظل الفرد، العاقل والمفكر، فاقداً للحرية الشخصية، وللمبادرة الخاصة، وملحقاً بالجماعة وخاضعاً في تفكيره وسلوكه لما تمليه عليه وتطلبه منه، ولا للمجتمع أن ينمي قواه الذاتية... من دون أن يستقل عن الدولة ويضمن حرية إرادته وتنظيمه المدني".
*الصورة: "لا يمكن للدولة أن تنضج وتكتمل شروط وجودها إذا ظلت عالة على الدين"/وكالة الصحافة الفرنسية