بعد بروز تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، عاد الحديث عن "الخلافة الإسلامية" ليشغل مساحة كبيرة من النقاشات. هكذا كان الحال في منتصف عشرينيات القرن الماضي حين كتب الشيخ علي عبد الرازق، الباحث المصري و مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم، أن الخلافة ومنصب الخليفة ليسا من أصول الإسلام، بل هما مسألة سياسية دنيوية.
لا دليل على فرضية إقامة الخلافة
من قراءاته في التاريخ الإسلامي، لاحظ عبد الرازق أن النبي لم يعيّن في البلاد التي فتحها ولاة لإدارة شؤونها، وأن "ما يُروى من ذلك فكله عبارة عن توليته أميراً على الجيش أو عاملاً على المال أو إماماً للصلاة، أو معلّماً للقرآن، أو داعياً إلى كلمة الإسلام. ولم يكن شيء من ذلك مطرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود".
وخلص إلى أنه لا يمكن أن نجد معالم لما يمكن تسميته "نظام الحكومة النبوية". وذهب في استنتاجاته أبعد من ذلك واعتبر أن الخلافة والقضاء وغيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة "كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها... إنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، وقواعد السياسة".
ولتأكيد فرضيته، ذكّر بأن معارضة المسلمين للخلافة "نشأت إذ نشأت الخلافة نفسها، وبقيت ببقائها" وأن مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول أبي بكر الصديق "عرضة للخارجين عليه المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفة إلا عليه خارج".
ظروف النقاش القديم
بعد انهيار السلطنة العثمانية ونشوء دولة تركيا، ألغت السلطة الجديدة، عام 1924، منصب الخليفة. حينذاك، صدر بيان موقع من رجال دين أتراك جاء فيه أن شروط تعيين الخليفة التي كانت موجودة في زمن الخلفاء الراشدين الأربعة بات من الصعب توافرها في شخص محدّد، وأن بإمكان المجتمعات الإسلامية اختيار نظام الحكم الأنسب لظروفها.
دار نقاش واسع، ومن بين أبرز ما كُتب كان كتاب (الإسلام وأصول الحكم/ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام). أثار الكتاب غضب الملك فؤاد الأول، لأن حلم أن يصبح خليفةً للمسلمين كان يدغدغه. وبإيعاز منه، اجتمعت هيئة كبار علماء الأزهر واعتبرت أن منصب الخليفة ضروري للمسلمين وأخرجت عبد الرازق منها بعد أن كان أحد أعضائها، كما فُصل الشيخ من وظيفته وكان قاضياً في المحاكم الشرعية.
حفّز الكتاب الصادر عام 1925 على كتابة مئات الكتب التي ساجلت طرحه.
هذا لا يعني الفوضى
بعض منتقدي كتاب عبد الرازق اتهموه بأنه حين يرفض فكرة الخلافة فإنه يدعو إلى الفوضى لأن المجتمعات البشرية بحاجة دائمة إلى حكومة تسيّر شؤون الناس.
ولكن عبد الرازق لم يهمل هذه النقطة. فهو أكّد أن هناك كثير "مما يمكن اعتباره أثراً من آثار الدولة، ومظهراً من مظاهر الحكومة" في عهد النبي. كل ما قاله هو أن "المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة". فبرأيه، "محمد ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة".
الأدلة التي استند عليها الشيخ
لاحظ عبد الرازق أن القرآن لم يتحدث عن مسألة الخلافة، برغم تأكيده أن "ما فرّطنا في الكتاب من شيء" (الأنعام/ 38). وأكّد أيضاً أن "السنّة كالقرآن أيضاً قد تركتها ولم تتعرض لها".
وبعد لفته الانتباه إلى أن معظم الداعين إلى الخلافة لا يستندون إلى آيات قرآنية أو أحاديث، اعتبر أن حديث "مَن مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية" الذي يردّده البعض لا يرمي إلى شيء من المعاني التي استحدثوها في ما بعد، أي أنه يُستخدم في سياق غير سياقه الأصلي.
كما لاحظ أن دعوى إجماع المسلمين بعد وفاة النبي على امتناع خلو الوقت من خليفة، كاذبة وغير صحيحة ولا مسموعة. فالصراع على الخلافة بدأ منذ وفاة الرسول، ورفض بعض كبار الصحابة بيعة أبي بكر وبقيت مكانتهم مرتفعة في مجتمع المسلمين. وهذا لأنهم، بحسب عبد الرازق، كانوا يعرفون "أنهم إنما يختلفون في أمر من أمور الدنيا لا من أمور الدين، وأنهم يتنازعون في شأن سياسي لا يمس دينهم ولا يزعزع إيمانهم".
وقد طرح عبد الرازق سؤالين، الأول: إذا كان رسول الله قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها... لماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟؛ والثاني: كيف يترك أمر تلك الدولة مبهماً على المسلمين، ليرجعوا سريعاً من بعده حيارى يضرب بعضهم رقاب بعض؟
لسنا بحاجة إلى خلافة؟
بعد كل ذلك، أكّد عبد الرازق أنه "ليس بنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا. ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد".
لا بل أنه ذهب أبعد من ذلك بكثير حين قال "إذا كان في هذه الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغي، فذلك هو مقام الخليفة. وقد رأيت أنه أشهى ما تتعلق به النفوس، وأهم ما تغار عليه". فبإسم الدين استبد الملوك بالمسلمين "وأذلّوهم وحرّموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيّقوا على عقولهم".
وفي الختام، لا يفوت الشيخ أن ينبّه إلى تسرّب خطأ إلى المسلمين حين "خُيّل إليهم أن الخلافة مركز ديني"، فكان هناك مَن استغلّ هذا الالتباس إذ "كان من مصلحة السلاطين أن يروّجوا ذلك الخطأ بين الناس، حتى يتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم... فأفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله".
*الصورة: "محمد ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة"/وكالة الصحافة الفرنسية