حسن عباس

السجال حول الآثار المترتبة على العلمانية قديم في العالم العربي، خاصةً وأن أنظمة ديكتاتورية عربية كثيرة حملت لواء العلمانية ومارست أبشع أشكال القمع في مجتمعاتها.

والآن، بدأ السجال يتخذ أبعاداً أخرى مع دعوة مجموعات متطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وغيرها إلى تحكيم الشريعة.

"هناك الآن أهمية قصوى لفصل الدين عن الدولة"، كما قال المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد. "إذا نظرت حولك ستجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكي المحرّم بين الدولة والدين في عالمنا العربي. الدين لا تستخدمه الجماعات الراديكالية أو الإسلاميون فقط، إنما تستخدمه الدولة، وهذا أمر يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن العشرين، في العالم العربي كله والعالم الإسلامي كله".

وقالت فوزية العطية، أستاذة علم الاجتماع في جامعة بغداد "في العراق، أدت المحاصصة على أسس طائفية وإثنية إلى تدمير السلطة العليا، سلطة الدولة، وتوزيعها على سلطات أفقية تتحكم بزمام الأمور مدعومةً بميليشيات أنشأتها، فغاب الشعور الوطني وتغيّرت المنظومة القيمية. وصارت كل مجموعة تشعر بالانتماء إلى طائفة أو إثنية معيّنة، ما أثّر على سلوك الأفراد وولّد نزاعات طائفية وأزمات اجتماعية كارتفاع معدل الطلاق في الزيجات المختلطة.

ثم أكدت العطية في حديث لموقع (إرفع صوتك) "لذلك، هنالك ضرورة للعودة إلى الثقافة المجتمعية العامة وبناء مجتمع مدني وفصل الدين عن الدولة من أجل تحقيق منجزات تحسّن الحالة الأمنية وترفع مستوى حياة العراقيين".

"لا دواء للصراع الطائفي إلا بالعلمانية"؟

في كتابه "هرطقات 2: عن العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية"، إنتقد المفكر جورج طرابيشي الرأي الذي يدّعي أن العلمانية فكرة مستوردة من الخارج وذهب إلى اعتبار أنها ضرورة إسلامية لضبط الصراع بين السنّة والشيعة. فبرأيه، تشكل العلمانية "آلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد".

واعتبر طاربيشي أن لا دواء للصراع الطائفي إلا بالعلمانية، فـ"العلمانية هي البذرة التي من الممكن أن تقينا شرور الاقتتال الطائفي" وهي "الخيار الوحيد للإنقاذ". وإن لم يحدث ذلك فإن العالم العربي "مهدد بالانكفاء نحو قرون وسطى جديدة".

من جانبه، دعا أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت شفيق الغبرا إلى فصل "الدنيوي عن الديني"، معتبراً أن هذا هو "المدخل لحماية الدول من صراعات المذاهب واختلافها".

العقلانية لا العلمانية

وكان أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون برهان غليون قد أشار إلى أن العلماني العربي يضع ضمن أهدافه مصارعة الدين وعزله عن الدولة ومؤسساتها، لا مجرد الفصل بين المجالين. وفضّل النضال من أجل تحقيق الديموقراطية لأنها تضمن عدم استخدام معاداة الدين من أجل الاضطهاد الديني. ولاقاه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بدعوته إلى استبعاد مصطلح العلمانية من قاموس الفكر العربي وتركيز الجهد على المطالبة بالعقلانية وبالديموقراطية التي تحفظ حقوق الأفراد وحقوق الجماعات.

وفي كتابه "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات" الصادر سنة 1979، ميّز غليون بين المسألة الطائفية وبين المسألة الدينية، واعتبر أن الطائفية تنشأ في إطار الصراع على السلطة وأن سبب هذه المشكلة هو غياب دولة المواطنة التي تتجاوز الروابط الأهلية والدينية والإثنية. وبرأيه، فإن "الطائفية ليست الدين ولا التدين، إنما هي بعكس ذلك تماماً إخضاع الدين لمصالح السياسة الدنيا، سياسة حب البقاء والمصلحة الذاتية والتطور على حساب الجماعات الأخرى".

التحييد الطائفي للدين

في المقابل، لا يكتفي البعض بالمطالبة بفصل الدين عن الدولة، بل يطالب بفصله عن المجتمع بشكل عام. فجورج طرابيشي اعتبر أنه "إن قامت العلمانية في الغرب على أساس التحييد الديني للدولة، فإنّ العلمانية في المجال العربي الإسلامي لا بد أن تقوم أيضاً على التحييد الطائفي للدين نفسه".

أما نصر حامد أبو زيد فقد كان يردد أنه "لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع. فالدين تأريخياً مكوّن اجتماعي، وليس مجرد مكوّن شخصي أو فردي".

ولكن أبو زيد كان يميّز بين الدولة وبين المجتمع، فالدولة "هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع". وبما أن المجتمع يتكوّن من جماعات متنوعة وأديان مختلفة، اعتبر أنه على الدولة حماية الجماعات وأن "دور الدولة كجهاز منظّم لسير الحياة في المجتمع المتعدّد الأديان بطبيعته يجب أن يكون محايداً، بأن لا يكون للدولة دين تتبنّاه وتدافع عنه وتحميه. إنّ دورها حماية الناس لا حماية العقائد".

*الصورة 1: "هنالك ضرورة للعودة إلى الثقافة المجتمعية العامة وبناء مجتمع مدني"/وكالة الصحافة الفرنسية

*الصورة 2: مناصرات للتيارات الإسلامية في مصر/وكالة الصحافة الفرنسية

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".