بقلم علي عبد الأمير:

في قصته "عازف الغيوم"، يرسم الروائي العراقي المقيم حالياً في بلجيكا، علي بدر، صورة أخرى غير متداولة عن الأثر الوحشي الذي تركته المجموعات الإسلامية المتشددة على الحياة الانسانية، وكيف أصبحت "معولمة"، ولم تعد كما الأنظمة الدكتاتورية التي شكّلت رعباً محدوداً لمناهضيها من الكتاب والمثقفين الذين قد يتخلصون منها، مع مغادرتهم لأوطانهم إلى بلدان بعيدة.

وإذا كانت القصة، عملاً أدبياً، فإنّ مادتها واقعية تماماً، فقد شهدت مناطق بغداد التي عرفت سيطرة المجموعات الإسلامية المسلحة ما بعد العام 2003، حكايات حقيقية تتطابق في مسيرتها مع التي صاغها، علي بدر، في نسق فني أدبي متدفق، فضلاً عن حقيقة تحول بروكسل إلى أحد مراكز تجنيد الإرهابيين في العالم.

صاحب رواية "بابا سارتر" يتابع في قصته التي أرسلها إلى موقع (إرفع صوتك)، موسيقياً (عازف تشيللو) من بغداد، اسمه نبيل، يعاني ضيقاً حدّ الذعر من "الطبقة الرثة"، بسبب "تلونّهم وخياناتهم أثناء التحولات السياسية الكبرى. وهكذا هم أيضاً بالنسبة لنبيل، فبعد أن كانوا ميليشيات لصدام في الماضي تحولوا إلى ميليشيات دينية".

ميليشيات الطبقة الرثة الدينية، تقبض على الموسيقي وهو عائد إلى منزله، يحمل في يده آلة التشيللو الموضوعة داخل حقيبة سوداء كبيرة، ليسأله قائد المجموعة:

"-ما هذه التي في يدك؟

-تشيللو!

-آه .. ماذا يعني؟

-آلة موسيقية!

-أه آلة موسيقية وغربية أيضاً؟

-موسيقى عالمية!

-أنت تريد أن تعطيني درساً؟

-لا.. لكن..

-ألا تعرف أن التشبه بالكفار كفر، وأن الموسيقى في الإسلام حرام؟

قبل أن ينطق نبيل بأية كلمة، انهال الأوباش المسلحون على آلته وحطموها، بالأقدام وضرباً على الأرض. أما قائد المجموعة فقد تكفل بضرب نبيل بالكف. صفعه فطارت النظارة ذات الإطار الذهبي في الهواء، وسقطت على الرصيف، مع عاصفة من الضحك. صفعه مرة أخرى، ثم أخذ يمزق له قميصه الأبيض من ماركة رالف لورين والذي يحبّه جداً. وكان الحي بأجمعه تقريباً غارقاً بالضحك.

شعر نبيل بالإذلال والإهانة بشكل فظيع".

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أوقفت المجموعة المسلحة ذاتها، الموسيقي الشاب لتقول له محذرة:

"اسمع! نحن سامحناك بسبب انتهاكك لقواعد الإسلام فيما يخص الموسيقى، لكن نريد منك كفارة، وهي أن تدفع مبلغاً من المال لبناء جامع في هذا الحي، واستطرد أحد أعضاء المجموعة:

" أنت كما تعرف... كان سكان هذا الحي فيما مضى أثرياء مع ذلك لم يبنوا جامعاً في المنطقة، الحمد لله الآن تخلصنا منهم، السكان الجدد يريدون بناء جامع ونحن نجمع التبرعات، وعليك أن تشارك بهذا.. فماذا تقول؟".

وافق نبيل مضطراً بطبيعة الأمر، قال لهم سينظر ما عنده، وسيكلمهم بعد يومين. قالوا له:

"نحن نمهلك أسبوعاً، لكن بعدها لن نسامحك".

هذه الأرض ليست لي

وإذ يصل إلى قناعة بأن لا مستقبل له في هذا المكان، وأنّ هذه البلاد ليست له، يصل إلى تركيا ومنها يتصل بشبكات التهريب إلى أوروبا عبر شاحنات البضائع، وعبرها يجد نفسها في العاصمة البلجيكية بروكسل:

استيقظ نبيل صباحاً باكراً، ارتدى قميصه على عجل، غسل وجهه في المغسلة، ارتدى حذاءه وهبط من السلم القذر إلى الخارج. سرعان ما تبدّد قلقله. إنّه ليس في تركيا، ولا في العراق ولا في إيران، إنّما في مدينة لم يتعرف عليها جيداً من النظرة الخارجية، لكنها من دون شك في أوروبا. حي للمهاجرين على الأرجح. هنالك العديد من السود الذين يسيرون في الشارع، هنالك العديد من العرب، من الآسيويين، من اللاتين، واجه الكثير من المحجبات في طريقه، لكن هنالك أوروبيات أيضاً"، ثم وبحسب نظرات الغريب المتعجلة ينتبه إلى "بارات أفريقية، سناك تركي، لافتات المطاعم مكتوبة بالعربية كلها تقدم الحمص، الفلافل، الكباب".

وحين يدخل أحد تلك الامكنة، ثمة المشهد التالي:

"التلفزيون يقدم أخبار الجزيرة. الجالسون: أفارقة، عرب، أتراك، إيرانيون. النادل يتكلم التركية. بسرعة أعد له طلبه، وضع الساندويش في كيس وقدمه له. بينما هو خارج صادف رجلاً في الخمسين من عمره، لحية سوداء مصبوغة، شارب شبه حليق، يرتدي ملابس أشبه بالملابس الأفغانية، موضة الثوار الجدد، الموديل الذي يتشبه به السلفيون منذ الحرب الأفغانية ضد الجيش السوفيتي. شعر أن هذا السلفي يتعقبه دون أن يلتفت إليه. لكن ما أن وصل إلى باب منزله حتى قبض عليه من يده. التفت نبيل فزعاً. فقال له السلفي:

-ألست مسلماً؟

ارتبك نبيل، وقال بعد تردد:

-نعم نعم أنا مسلم!

-وكيف تأكل يا رجل كيف؟ قالها بغضب مما جعل نبيل يرتبك فعلاً.

-سيدي وهل ممنوع على المسلم أن يأكل؟

-بالطبع ممنوع! بل حرام أيضاً! ماذا يقول عنا الكفّار؟

-كيف حرام؟

-نحن في رمضان يا رجل! ألا تعرف رمضان؟

-نعم! لكن رمضان في بلجيكا؟

-يعني إذا أتيت إلى بلجيكا، تتخلى عن إسلامك؟

-لا طبعاً! لكن سامحني يا سيدي! نسيت!

-بالطبع أنا سأسامحك، ولكن لا أعرف ان كان الله سيسامحك ام لا ؟

-آمل أن يسامحني.

أراد أن يغادر بسرعة ، فأمسكه الرجل من يده.

-أين؟

-إلى بيتي!

-لا.. دقيقة واحدة.. اسمع! أنت طالما أخطأت وفي رمضان فعليك أن  تدفع كفارة لذلك.

-أدفع كفارة؟

-نعم! كفارة!

بقي نبيل فاغراً فمه أمام هذا الرجل الذي استرسل:

"في الواقع أنت تعرف هنا المسلمون كثيرون، ولم يعد هذا الجامع يستوعبنا، فنريد أن نبني جامعاً آخر، ولهذا نحن نجمع تبرعات من المسلمين المقيمين هنا، وبما أنك مسلم، وأفطرت في رمضان، ومن أجل أن يسامحك الله على فعلتك الشريرة هذه، عليك أن تدفع مبلغاً من المال لبناء الجامع، وعندئذ سيسامحك الله.. أنا اعطيك ضماناً بذلك".

واذا كان الكاتب يصف بطل حكايته بعد تلك الصدمة بأنّه "مرتبك تماماً"، لكن الحقيقة المرعبة بالنسبة له هي في سؤال "أي حظّ هذا؟ فقد هرب من بلاده بسببهم، وها هو يجدهم أمامه هنا. هل يحدث هذا حقا"؟

*الصورة للكاتب علي بدر تنشر بإذن منه.

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

تنظيم داعش أعلن المسؤولية عن 153 هجوما في العراق وسوريا خلال النصف الأول من عام 2024
تنظيم داعش أعلن المسؤولية عن 153 هجوما في العراق وسوريا خلال النصف الأول من عام 2024

كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" تفاصيل جديدة بشأن العملية المشتركة التي نفذتها قوات أميركية وعراقية مؤخرا ضد داعش، وأسفرت عن مقتل 15 من عناصر التنظيم المتشدد غربي العراق، في واحدة من أكبر العمليات لمكافحة الإرهاب في البلاد في السنوات الأخيرة.

وقالت الصحيفة، نقلا عن مسؤولين أميركيين وعراقيين، إن سبعة جنود أميركيين تعرضوا لإصابات خلال العملية التي شارك بها أكثر من 200 جندي من كلا البلدين.

وأضافت أن العملية شملت مطاردة مسلحي داعش داخل أوكار تنتشر في مساحات واسعة وسط تضاريس نائية.

وذكر المسؤولون الأميركيون والعراقيون أن حجم ونطاق وتركيز العملية يسلط الضوء على عودة ظهور التنظيم المتشدد خلال الأشهر الأخيرة.

وفقا للصحيفة فقد كان الهدف الرئيسي للعملية هو الوصول لقائد ميداني كبير يشرف على عمليات تنظيم داعش في الشرق الأوسط وأوروبا.

وأفادت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) التي يقع الشرق الأوسط ضمن نطاق عملياتها، بأنها نفذت وقوات عراقية "غارة مشتركة في غرب العراق في الساعات الأولى من صباح يوم 29 أغسطس"، مما أسفر "عن مقتل 15 من عناصر داعش".

وأضافت في بيان أن "العملية استهدفت قادة داعش بهدف تعطيل وتقويض قدرات التنظيم على التخطيط والتنظيم وتنفيذ الهجمات ضد المدنيين العراقيين، وكذلك ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في جميع أنحاء المنطقة وخارجها".

ورفض المسؤولون الأميركيون تحديد القادة المستهدفين من داعش، بما في ذلك القيادي الكبير، لحين إجراء تحليل الحمض النووي لجثثهم.

وأشارت الصحيفة إلى أن العملية جاءت في وقت أعلن رئيس الوزراء العراق محمد شياع السوداني وقادة الجيش العراقي أن بإمكان البلاد السيطرة على تهديدات داعش من دون مساعدة الولايات المتحدة.

وتتفاوض بغداد وواشنطن منذ عدة أشهر على اتفاق من شأنه إنهاء مهمة التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة في العراق، حيث يتواجد حوالي 2500 جندي أميركي.

ومع ذلك، أعلنت القيادة المركزية الأميركية في يوليو أن عدد الهجمات التي تبنى داعش المسؤولية عنها في العراق وسوريا تزايد بشكل ملحوظ ويكاد يقترب من ضعف الهجمات التي حصلت العام الماضي.

وأعلن تنظيم داعش المسؤولية عن 153 هجوما في البلدين خلال النصف الأول من عام 2024، حسبما قالت القيادة المركزية الأميركية، من دون أن تقدم تفاصيل دقيقة عن أرقام الهجمات حسب كل بلد.

وتنقل الصحيفة عن مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب في معهد الشرق الأوسط تشارلز ليستر القول إن العراق نجح في احتواء تحديات داعش في السنوات الأخيرة، مع انخفاض وتيرة العمليات إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق"، مضيفا أن "التعافي الواضح لداعش في سوريا المجاورة يثير قلقا كبيرا.

وأضاف ليستر: "لذا، فإن هذه الملاذات الآمنة القديمة لداعش، في صحراء الأنبار، ستحتاج إلى المتابعة بشكل مستمر، إذا كنا نريد تجنب تسرب داعش من سوريا إلى العراق في النهاية."

وأفاد مسؤول عسكري أميركي رفيع المستوى بأن الولايات المتحدة والقوات الحليفة الأخرى ساعدت القوات العراقية في تنفيذ أكثر من 250 عملية لمكافحة الإرهاب منذ أكتوبر الماضي.

لكن الصحيفة ذكرت أن هذه الغارة "لم تكن عادية" خاصة في ظل مشاركة  عدد كبير من القوات الأميركية الخاصة التي قادت الهجوم الأولي.

وتضيف الصحيفة أن أكثر من 100 عنصر من قوات العمليات الخاصة الأميركية وجنود آخرين بالإضافة لعدد أقل من الجنود العراقيين شاركوا في الهجوم الرئيسي الذي نفذ بواسطة طائرات الهليكوبتر.

وقالت السلطات العراقية في بيان إن العملية بدأت شرقي مجرى مائي يمر عبر صحراء الأنبار، في منطقة جنوب غرب الفلوجة.

وأكد جهاز المخابرات العراقي أن من القتلى "قيادات خطيرة كانوا يتخذون من صحراء الأنبار ملاذا لهم". وأشار إلى أنها بدأت بـ"ضربات جوية متتالية" لأربع مضافات يتواجد فيها الجهاديون، أعقبتها "عملية إنزال جوي في الموقع ثم اشتباك مع الإرهابيين".

وبحسب ليستر ومسؤولين أميركيين فقد استمرت العملية في اليوم التالي، مع مراقبة الطائرات المسيرة الأميركية للمنطقة، مؤكدين أن أكثر من 100 عنصر من القوات العراقية تايعوا الهجوم واعتقلوا اثنين من مسلحي داعش الذين فروا من الموقع في الليلة السابقة مع وثائق مالية ومعلومات عن التنظيم.

وتشير الصحيفة إلى أن محللين عسكريين أميركيين يدرسون المواد التي تم الاستيلاء عليها، والتي قال المسؤولون إنها قد تؤدي إلى غارات مستقبلية.