بقلم جنى فواز الحسن:

غالباً ما يتداخل الدين والسياسة في المجتمعات العربية بشكل يربك العلاقة بين الاثنين وقد يؤثّر في تكوين الدولة وسلطتها. وبين سطوة وهيبة رجال الدين أحياناً والهالة المحيطة بهم، يستغلّ بعض المتطرفين المنابر الدينية للترويج لأفكار تؤثّر على التعايش مع الآخر في المجتمع المتعدّد.

وهذا يشبه ما حدث مثلاً عند صعود "نجم" الشيخ اللبناني ذو التوجه السلفي أحمد الأسير قبل أن تضطر القوى الأمنية إلى التدخّل للحدّ من نفوذه وترويجه للأفكار التحريضية، وخوض اشتباكات عنيفة مع مناصريه.

فهل يتطلّب تحقيق الديموقراطية في العالم العربي التخلّص من سطوة الدين أو أنّ هذه السطوة نتيجة لغياب سلطة الدولة؟ وهل تضعف المؤسسات الدينية الحكومات أو أنّ الأخيرة توظّفها لخدمتها؟ موقع (إرفع صوتك) توجّه بهذه الأسئلة والنقاش إلى باحثين في المجالين الاجتماعي والديني.

يتحدّث الباحث الأردني محمد أبو رمّان لموقع (إرفع صوتك) عن "تزايد سلطة رجال الدين في الآونة الأخيرة في العالم العربي أو سطوة من ينتمون إلى المؤسسة الدينية الرسمية أو غير الرسمية". ويعزو ذلك إلى "ضعف الدولة الوطنية على أكثر من مستوى".

يشير أبو رمّان إلى مكامن الضعف في الدول العربية ومستوياتها المختلفة "على الصعيد الحياتي وعلى صعيد المؤسسات السياسية والثقافية وعدم قدرتها على التأثير". كما يضيف إلى هذه العوامل "ضعف الشرعية في الدولة العربية"، قائلاً "هذا ما ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة وبدت الدول العربية كأنّها لا تملك الشرعية الديموقراطية والمؤسساتية بل فقط شرعية الترهيب".

"مرّت فترة طويلة استخدمت فيها هذه الدول الحرب على الإرهاب أو قضايا أخرى للتغاضي عن التحديات الحقيقية التي عليها أن تواجهها والفرص التي يجب أن تؤمنها للمواطن"، بحسب أبو رمّان، "إلى أن جاءت الثورات العربية لتكشف أنّ قوة هذه الأنظمة وهمية وتشكّل حالة من الشك وعدم يقين الشعوب بقدرة هذه الدول على تلبية طموحاتهم".

اختفاء هيبة الدولة

"عند اختفاء هيبة الدولة وغياب البديل، يتوجّه الناس إلى الهياكل القديمة ويظهر من يوظفون الدين ورمزيته لحشد الناس. من الطبيعي أن يتصاعد نفوذ رجال الدين في أوقات الفوضى"، يقول أبو رمّان.

الباحث المصري بهاء سالم يرى أنّ "رجال الدين كانوا فاعلين أيضاً عندما سادت الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي. كانوا أحياناً بمثابة موظفين لدى هذه الأنظمة ولا يمكن نسيان الشيخ فريد واصل الذي كان بمثابة مفتي نظام حسني مبارك حتّى أنّه أصدر فتوى تكفّر من لا ينتخب مبارك في ولايته الرابعة في إحدى المراحل".

"هناك سطوة لرجال الدين حتّى في ظلّ الدولة المستبدة، كأنّهما يتقاسمان الاستبداد بالمحاصصة، فتجد مثلاً نفوذ إداري ومؤسساتي للسياسيين ونفوذ لرجال الدين من جهة السيطرة على الأوقاف أو حتى المناهج التعليمية"، يقول سالم.

"لكن عندما تضعف الدولة أحياناً، يحاول المتاجرون باسم الدين تحقيق قدر أكبر من المكاسب".

الميليشيات الطائفية

يعطي أبو رمّان الميليشيات الطائفية التي تحارب في سورية والعراق واليمن وبلدان أخرى كمثال عن انهيار الجيوش النظامية وبالتالي تمثل رمزاً لاندثار الدولة. ويشير إلى أنّه "عندما تضعف الدولة، ندخل في مرحلة النفق (المظلم) وتصبح المجتمعات العربية تحت وطأة العشائر والدين".

والحل بحسب ما يقول يعتمد على "شروط المستقبل". "فإذا ما تمّت إعادة إنتاج الدول العربية على أسس أخرى، من الممكن أن تتحسّن الأوضاع". الحل لهذه العلاقة الملتبسة، يقول أبو رمّان، ليس في التيار العلماني المتطرف الذي لا يحمل الجواب ولا في التيار الإسلامي الذي لا يحمل الجواب كذلك بل في الاعتدال.

بالنسبة لسالم، "لن تتحقق الديموقراطية على المدى المنظور طالما أن المجتمع خاضع لسطوتين: الدين والزعماء السياسيين الفاسدين. لكن من الضروري نشر الوعي بين الشباب حول فشل الميليشيات الطائفية في بناء المستقبل كما فشلت الأنظمة المستبدة".

السعودية كمثال مختلف

وإن كانت هذه العلاقة بين الدين والسياسة تنافسية على صعيد السلطة في العديد من الدول العربية، فالوضع مختلف في المملكة العربية السعودية، بحسب أبو رمّان، "تاريخياً، هناك تقاسم أدوار بين المؤسستين السياسة والدينية في المملكة".

الباحث السعودي حمزة الحسن يوافق على أنّ السعودية "حالة خاصّة". ويقول إنّ "رجال الدين في المملكة ليسوا طارئين على الدولة، بل هم صنّاع للدولة ومن مؤسسيها".

يعود إلى تاريخ تأسيس المملكة السعودية التي يقول عنها "الدولة النجدية" كون تأسيسها ارتبط بالنخبة ورجال الدين في منطقة نجد وآل سعود. "ما كانت المملكة لتقوم لولا سلطة رجال الدين واستمرّت السعودية باستخدامهم في ضبط البلاد الآن، وهم الذين يظهرون في الأزمات لأنّه بإمكانهم قول ما لا تقوله الطبقة السياسية".

يعتبر الحسن أن تداخل الدين بالسياسة في المملكة أضعفها. ويوضح "رجال الدين أضعفوا الدولة على الرغم من إفادتهم لها، فالدولة السعودية كما المجتمع مخنوقة. كان قيام الدولة على الأسس الوهابية نعمةً والآن تحوّلت هذه النعمة إلى نقمة لأنّ شرعيتها محصورة بنجد".

ويمضي بالقول "الطبقة التي حكمت لا تريد الإصلاح السياسي ولا الإصلاح الاجتماعي والدولة بحاجة إلى النفوذ الاجتماعي لأنّ المجتمع السعودي ممزّق ومفكّك. ومن المستحيل الوصول إلى هذا النفوذ في ظل السطوة الدينية".

*الصورة: من مؤتمر سابق في الأزهر/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".