بقلم صالح الحمداني:

وأنت تخرج عزيزي القارئ إلى عملك اليومي متسلحاً ببركة الدعاء والاستفتاح بيوم جديد، تطالعك العشرات من المشاهد الانسانية التي تجبرك على التفكير في ما آل اليه الحال بمجتمعاتنا العربية، في ظل صراع ديني - علماني باتت ظلاله تنسحب على كل مفاصل حياتنا، من دون أن نشعر، أو ربما ونحن بكامل الشعور.

ولعل مشهد الحاج (أبو تبارك) صاحب محل بيع الملابس النسائية في أحد أحياء بغداد، هو أحد هذه المشاهد التي تطل برأسها في مسلسل حياتك الروتيني، مثيرة فيك خليطاً من علامات الاستفهام والتعجب. فالرجل الذي اعتدنا على تذمره من ركود السوق و(هوس) النساء بالحصول على خصومات في السعر، صار تذمره المعتاد محملاً بشتائم غاية في القسوة، تستطعم فيها مشاعر الذل والتهكم، وهو يقوم بوضع ربطات الحجاب على شعور دمى "المانيكان" التي يستخدمها لعرض الملابس لرواد محله.

فقد زاره مؤخراً أربعة شباب ملتحين يرتبطون برجل ديني "نافذ" طالبين منه "بلغة ترغيب و ترهيب" أن "يتماهى" مع حال المدينة التي صارت كل نساؤها محجبات، فيما أطلق أغلب رجالها العنان للحاهم.

وببركة هؤلاء الشباب الأربعة ورجل الدين والآلاف من شاكلتهم، صرنا نعيد التفكير في أبسط أمورنا وأكثرها عفوية من منطق "الحلال والحرام". حتى باتت المعادلة الدينية فرضاً على كل مسلم وغير مسلم يرغب في الحفاظ على سلامة حياته. وفي ظل هذه المعادلة المفروضة عليك - شئت أم أبيت- صار المسعى لإقامة دولة مدنية تكفل الحريات وتنظر للمواطنين بعين المساواة وتسود فيها هيبة القانون، حلماً مؤجلاً، إن لم يكن مستحيل المنال.

ولو أرجعنا النظر في بوادر هذه الهيمنة الدينية المعاصرة، لوجدنا أنها بدأت في البروز مع قدوم الأحزاب الإسلامية إلى المشهد السياسي وتداعي الأنظمة العربية الحديثة كما في الحالة العراقية. فسقوط نظام صدام في عام 2003 أغرى العديد من الأحزاب الدينية في تسلق مؤسسات البلاد التشريعية والتنفيذية، متسلحة بسيل الغضب الذي كان يعتمر في قلوب الملايين من العراقيين جراء السياسات التعسفية التي مورست بحق شرائح واسعة طمساً لهويتهم العقائدية. هذه الأحزاب "المتأسلمة" التي تتربص اليوم لأي ملمح من ملامح المدنية، وإن كان لا يتعارض مع سياقات الدين، وجدت في الديموقراطية الفتية التي يعيشها العراق "الصنارة" التي تضمن له صيد الأصوات الانتخابية التي ستوصلها لسدة الحكم مثلما وجدت في الدين "أفيونا" لاستقطاب الجماهير.

ورغم أن البعض من المواثيق السياسية لتلك الأحزاب الإسلامية تبدو مثالية في رؤاها التنظيرية، إلا أن التطبيق العملي أثبت أنها لا تختلف كثيراً عن "مانيكان" صاحبنا أبو تبارك آنف الذكر. فهي محض وسائل دعائية لترغيب الزبائن، وهم في هذه الحالة بعض النخب الثقافية التي تطلق أبواقها دفاعاً عن خنادق الإسلاميين من العلمانية التي يجري تصويرها بشكل خاطئ على أنها "محاربة" للشعائر الدينية و "منع للحجاب" و"إنهاء لسيطرة العائلة على النساء بعد بلوغهن سن الثامنة عشرة"!.

وربما لا يخفى على القارئ قصة أحد رجال الدين في العراق الذي ظهر في فيديو وهو يفسر لأتباعه معنى تضمين الدستور العراقي الذي كان لا يزال طور الكتابة حينها، مواداً تضمن حقوق المرأة على أنها "محاولة من العلمانيين لتثبيت حقوق للمرأة الزانية" !.

هذا الترهيب والتشويه والتضيق الذي تجري ممارسته على أبجديات الحريات المدنية، بما في ذلك تلك التي يكفلها الإسلام، والإفراغ المتعمد للمجتمع العراقي من عاداته وتقاليده، حتى تلك المرتبطة بالتراث بحجة أنها غير إسلامية، بات طاغياً على كل تضاريس الشارع العراقي، التي اندثرت معالمه أيضاً بفعل قوى الاستقطاب السياسي والديني لدول جوار العراق، التي تحرك تلك الأحزاب الدينية.

في مقابل ترهيب العقل الجمعي هذا من تطبيقٍ (أتاتوركي) للعلمانية، لا يمكن الإغفال عن غياب أو تشظي جهود القوى العلمانية للتصدي لهذه الموجة الكاسحة، وتقاعسها عن إيضاح سوء الفهم والتشويه المتعمد الذي يحيط بها في أذهان المواطن البسيط، على نحو أن العلمانية "رجس من الشيطان" و"تناقض الايمان" و "لا تناسب رجل مؤمن يرغب في تأدية عباداته ويود لنسائه الحجاب!".

وبين هيمنة الأحزاب الدينية وغياب القوى العلمانية، لا يجد المواطن البسيط من عكاز يستند إليه في ركضه وراء لقمة العيش سوى التصبر بالأمثال الشعبية، واسترجاع نبوءة صاحبنا (أبو تبارك) الذي قال في ذلك الصباح البارد "اللي يخاف الفتنة من باروكة مانيكان بلاستيك ما يعمّر بلد!".

في أمان الله.

عن الكاتب: صالح الحمداني: كاتب رأي ساخر وناشط من العراق. له العديد من المساهمات الإعلامية التي تتمحور في مجالات السياسة والمجتمع المدني. كتب لعدة صحف عراقية يومية مهمة مثل جريدتي "الصباح" و"المدى"، فضلاً عن موقع "كتابات" الالكتروني  وجريدة "العالم" المستقلة وموقع "واي نيوز" و "الغد برس". له عمود أسبوعي في موقع جورنال الإخباري. وهو معد لبرنامج إذاعي يبث من إذاعة محلية بمحافظة كربلاء.

لمتابعة صالح الحمداني على تويتر، إضغط هنا. وعلى فيسبوك إضغط هنا.

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

تنظيم داعش أعلن المسؤولية عن 153 هجوما في العراق وسوريا خلال النصف الأول من عام 2024
تنظيم داعش أعلن المسؤولية عن 153 هجوما في العراق وسوريا خلال النصف الأول من عام 2024

كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" تفاصيل جديدة بشأن العملية المشتركة التي نفذتها قوات أميركية وعراقية مؤخرا ضد داعش، وأسفرت عن مقتل 15 من عناصر التنظيم المتشدد غربي العراق، في واحدة من أكبر العمليات لمكافحة الإرهاب في البلاد في السنوات الأخيرة.

وقالت الصحيفة، نقلا عن مسؤولين أميركيين وعراقيين، إن سبعة جنود أميركيين تعرضوا لإصابات خلال العملية التي شارك بها أكثر من 200 جندي من كلا البلدين.

وأضافت أن العملية شملت مطاردة مسلحي داعش داخل أوكار تنتشر في مساحات واسعة وسط تضاريس نائية.

وذكر المسؤولون الأميركيون والعراقيون أن حجم ونطاق وتركيز العملية يسلط الضوء على عودة ظهور التنظيم المتشدد خلال الأشهر الأخيرة.

وفقا للصحيفة فقد كان الهدف الرئيسي للعملية هو الوصول لقائد ميداني كبير يشرف على عمليات تنظيم داعش في الشرق الأوسط وأوروبا.

وأفادت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) التي يقع الشرق الأوسط ضمن نطاق عملياتها، بأنها نفذت وقوات عراقية "غارة مشتركة في غرب العراق في الساعات الأولى من صباح يوم 29 أغسطس"، مما أسفر "عن مقتل 15 من عناصر داعش".

وأضافت في بيان أن "العملية استهدفت قادة داعش بهدف تعطيل وتقويض قدرات التنظيم على التخطيط والتنظيم وتنفيذ الهجمات ضد المدنيين العراقيين، وكذلك ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في جميع أنحاء المنطقة وخارجها".

ورفض المسؤولون الأميركيون تحديد القادة المستهدفين من داعش، بما في ذلك القيادي الكبير، لحين إجراء تحليل الحمض النووي لجثثهم.

وأشارت الصحيفة إلى أن العملية جاءت في وقت أعلن رئيس الوزراء العراق محمد شياع السوداني وقادة الجيش العراقي أن بإمكان البلاد السيطرة على تهديدات داعش من دون مساعدة الولايات المتحدة.

وتتفاوض بغداد وواشنطن منذ عدة أشهر على اتفاق من شأنه إنهاء مهمة التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة في العراق، حيث يتواجد حوالي 2500 جندي أميركي.

ومع ذلك، أعلنت القيادة المركزية الأميركية في يوليو أن عدد الهجمات التي تبنى داعش المسؤولية عنها في العراق وسوريا تزايد بشكل ملحوظ ويكاد يقترب من ضعف الهجمات التي حصلت العام الماضي.

وأعلن تنظيم داعش المسؤولية عن 153 هجوما في البلدين خلال النصف الأول من عام 2024، حسبما قالت القيادة المركزية الأميركية، من دون أن تقدم تفاصيل دقيقة عن أرقام الهجمات حسب كل بلد.

وتنقل الصحيفة عن مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب في معهد الشرق الأوسط تشارلز ليستر القول إن العراق نجح في احتواء تحديات داعش في السنوات الأخيرة، مع انخفاض وتيرة العمليات إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق"، مضيفا أن "التعافي الواضح لداعش في سوريا المجاورة يثير قلقا كبيرا.

وأضاف ليستر: "لذا، فإن هذه الملاذات الآمنة القديمة لداعش، في صحراء الأنبار، ستحتاج إلى المتابعة بشكل مستمر، إذا كنا نريد تجنب تسرب داعش من سوريا إلى العراق في النهاية."

وأفاد مسؤول عسكري أميركي رفيع المستوى بأن الولايات المتحدة والقوات الحليفة الأخرى ساعدت القوات العراقية في تنفيذ أكثر من 250 عملية لمكافحة الإرهاب منذ أكتوبر الماضي.

لكن الصحيفة ذكرت أن هذه الغارة "لم تكن عادية" خاصة في ظل مشاركة  عدد كبير من القوات الأميركية الخاصة التي قادت الهجوم الأولي.

وتضيف الصحيفة أن أكثر من 100 عنصر من قوات العمليات الخاصة الأميركية وجنود آخرين بالإضافة لعدد أقل من الجنود العراقيين شاركوا في الهجوم الرئيسي الذي نفذ بواسطة طائرات الهليكوبتر.

وقالت السلطات العراقية في بيان إن العملية بدأت شرقي مجرى مائي يمر عبر صحراء الأنبار، في منطقة جنوب غرب الفلوجة.

وأكد جهاز المخابرات العراقي أن من القتلى "قيادات خطيرة كانوا يتخذون من صحراء الأنبار ملاذا لهم". وأشار إلى أنها بدأت بـ"ضربات جوية متتالية" لأربع مضافات يتواجد فيها الجهاديون، أعقبتها "عملية إنزال جوي في الموقع ثم اشتباك مع الإرهابيين".

وبحسب ليستر ومسؤولين أميركيين فقد استمرت العملية في اليوم التالي، مع مراقبة الطائرات المسيرة الأميركية للمنطقة، مؤكدين أن أكثر من 100 عنصر من القوات العراقية تايعوا الهجوم واعتقلوا اثنين من مسلحي داعش الذين فروا من الموقع في الليلة السابقة مع وثائق مالية ومعلومات عن التنظيم.

وتشير الصحيفة إلى أن محللين عسكريين أميركيين يدرسون المواد التي تم الاستيلاء عليها، والتي قال المسؤولون إنها قد تؤدي إلى غارات مستقبلية.