بقلم د. مصطفى النجار:
في القاهرة، كان هذا الشاب يتخلى عن عزلته الشعورية والحياتية ويخرج وسط الجموع الثائرة في جمعة الغضب 28 يناير 2011 ليهتف مع الناس مطالبا بالعيش والحرية والكرامة الانسانية.
تزحزحت أفكاره عن مكانها القديم الذي خطته محاضرات السلفيين وأدبياتهم حول الديموقراطية كمنهج يعادي الدين وضرورة موالاة الحاكم اتقاءً لبطشه وحرمة المظاهرات.
وفي نهاية عام 2011، كان نفس الشاب يقف في طابور الانتخابات الطويل وهو يأمل في اختيار نواب يمثلون أفكاره. كان سعيدا بالعملية الانتخابية وسيلة سلمية لتغيير المجتمع من وجهة نظره وبات مقتنعا أن الديموقراطية ليست بهذا السوء الذي كان شيوخه يصفونها. عاش هذه الفترة آملاً بمناخ جديد ومستقبل مزدهر لبلاده. بدأ يميل إلى الاعتدال شيئا فشيئا، سواء في طريقة ملابسه وهيئته وتعامله مع الآخرين، أو نظرته لكثير من الأمور.
تصاعدت الأحداث وتكسرت أحلامه وهو يرى فض اعتصام رابعة ومقتل المئات وما أعقبه من استهداف واسع وعشوائي لكل الإسلاميين من قبل السلطة. كان يشعر بالخطر والإحباط والصدمة من هول ما جرى بمصر.
حسم أمره وخرج إلى تركيا مثل كثيرين ممن خرجوا. هناك بدأت أفكاره تنتقل بسرعة شديدة إلى مفاهيم المفاصلة العقائدية وفسطاط الإيمان والكفر ووجوب التغيير بالقوة والسلاح. وجد في النموذج الداعشي تطابقا مع هذه الأفكار وإرضاء لرغبة الانتقام بداخله. شيئا فشيئا قرر أن يكون واحدا من هؤلاء الملثمين الذين يقتلون بلا شفقة. كان يقول لنفسه أن هذه الأنظمة الاستبدادية تعادي الدين ولن يصلح معها سوى لغة السلاح والنكاية.
استقر في الأراضي السورية. وتلقى تدريبا عسكريا صار معه مؤهلا للاشتباك وممارسة القتل بلا رحمة. لم يعد يفكر فيمن يقتلهم وهل يستحقون القتل أم لا؟ هو يمتثل لأوامر قيادته وكل رأس يقطعها صار يراها قربى الى الله وتقريب لساعة النصر على هذه الأنظمة الكافرة!
صار يسخر من نفسه كلما تذكر مشاركته يوما في العملية السياسية التي أصبحت في نظره خداع وعبث لا طائل منه. عندما بدأ القصف الجوي للتحالف الذي تقوده أميركا على مواقع داعش في سورية والعراق، ترسخ بداخله أن هذه حرب على الإسلام وأنهم يريدون منع دولة الخلافة - المزعومة – من التمدد والانتشار.
لم يطل به الوقت وسقط صريعا إثر تفجير استهدف مجموعته. واروه التراب ليستقر جسده في بلد غير بلده بعيدا عن أهله. هذه قصة من الواقع تكررت فصولها مع شباب كثيرين سلكوا هذا الطريق.
يعتقد تنظيم داعش أنه يرفع الظلم عن المقهورين بإجرامه. وتعتقد الأنظمة القمعية أنها بريئة من تشجيع الشباب المحبط والمقهور من الانضمام لصفوف داعش. والحقيقة أن هذه الأنظمة تنتج الإرهاب وتمد روافده بمزيد من الوقود ممثلا في جموع اليائسين الذين يسهل اجتذابهم.
لا يتحجج أحد بأن داعش تضم بين صفوفها أفرادا جاءوا من بلاد غربية ديموقراطية. لكننا هنا في معرض الحديث عن التطرف في الشرق الأوسط، وبالتحديد في الدول العربية.
تحتاج الأنظمة المستبدة إلى متطرفين وإرهابيين يساهمون في بقاءها وإقناع الجماهير بحاجتهم لهذا الاستبداد بحثا عن الأمن. إذا لم تجد الأنظمة المستبدة الإرهاب الذي تستخدمه كذريعة لبقائها وبطشها، ستوجده وتخلقه!
نحن العرب ضحايا التطرف والاستبداد وكلاهما وجهين لعملة واحدة. ساهمت داعش بوأد الربيع العربي بتوفير الذريعة والمبرر للثورات المضادة والأنظمة القمعية لقهر الشعوب واغتيال الديموقراطية وخلق الفزاعة. وساهمت الأنظمة في خلق مناخ يساعد هؤلاء القتلة على ضم مزيد من الشباب.
المأساة الكبرى أننا لا ندري كم داعشي يحيا بيننا ولا نعرفه. لذلك، لا بديل عن صحوة مجتمعاتنا العربية لمواجهة هذه الأفكار وتفنيدها ودحضها عبر نشر قيم الاعتدال والتسامح لتجفيف المنابع وتضييق الخناق على هؤلاء القتلة. قدرنا أن نواجه الإرهاب ونتصدى له دفاعا عن مستقبلنا ومستقبل أبنائنا.
قبل المواجهة العسكرية التي لا مناص منها ومن دعمها بكل قوة، لا بد من حصار الأفكار المتطرفة ليس بالحلول الأمنية فقط بل بفتح المجال العام وتحرير العقول واحترام إرادة الشعوب ووقف مسببات اليأس والإحباط لدى الشباب العربي. فلنحذر من اليائسين فإنهم خطر على الجميع.
لا تتعاطف مع داعش بأي صورة ولا تصدق دعاياتهم المضللة. التعاطف مع القتلة مشاركة في القتل وتشجيع لهم لقتل المزيد. المستبدون لا يحاربون المتطرفين والإرهابيين بل يدعمونهم بشكل غير مباشر. والمتطرفون يحتاجون لهذه الأنظمة لتبرير إرهابهم وإجرامهم. فلنسلك الطريق بينهما بحثا عن المستقبل ولنحارب الإرهاب بالديموقراطية ودولة القانون.
عن الكاتب: الدكتور مصطفى النجار، طبيب أسنان ومدون مصري ونائب برلماني سابق. يكتب النجار للعديد من المواقع والجرائد اليومية، كموقع (المصري اليوم). نشط في التدوين والكتابة عن قضايا حقوق الإنسان. وفاز بجائزة أحد أفضل خمسة مدونين عرب في مجال حقوق الإنسان عام 2009. وكرّمه مركز معلومات حقوق الإنسان ببيروت.