بقلم علي عبد الأمير:

بدا قرار وزارة الخارجية الأميركية بجعل أفعال تنظيم داعش ضد الأقليات وبعض الطوائف في العراق وسورية، جرائم إبادة جماعية، إثر قرار من مجلس النواب الأميركي يدعو إدارة الرئيس باراك أوباما إلى وصف انتهاكات داعش ضد الأقليات بأنها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة جماعية، وكأنه قرار دبلوماسي وتوصيف قانوني مجرد.

لكن ما أوضحه الوزير الأميركي جون كيري كان مهماً لجهة أن "حقائق الإبادة الجماعية تفرض مقاربة دولية موحدة لهزيمة داعش". من هنا جاءت أهمية هذا الإعلان الذي سمّى الأقليات الدينية والقومية في العراق وسورية، وبينها المسيحيون والأيزيديون والتركمان والكاكائيون والكرد، ضحايا تلك الجرائم.

ويؤشر الخبير في شؤون الأقليات في العراق، وعضو "المجلس العراقي لحوار الأديان"، سعد سلوم، أربع حلقات متسلسلة استهدف فيها الإرهاب الهوية التعددية للبلاد.

الحلقة الأولى: تمزيق الهوية العربية

ويقصد الباحث في مداخلة مع موقع (إرفع صوتك)، خروج الهوية الشيعية والسنية من "المقدس" الذي تم تفجيره في سامراء 2006، مطلقاً "جنون الصدام الشيعي - السني".

وبدأ ذلك يشكل هوية الصراع الرئيس خلال السنوات التالية، فقد الشيعة والسنة ثقتهم بعضهم، وفتح المجال أمام الكرد للعب دور بيضة القبان، فالهوية القومية الوحيدة التي برزت في عالم ما بعد 2003 كانت هي الهوية الكردية. ومن يومها تم ترسيم الحدود الثقافية بين ثلاث قبائل إثنية كبرى: الأكراد، السنة، الشيعة. أما ما دونها من جماعات فقد أسند لها دور الكومبارس على مسرح التاريخ، فهي منذ الآن ليست سوى "أقليات".

بموازاة ذلك، تم ذوبان الهويات الصغرى للجماعات الإثنية والدينية في هوية كبرى لإحدى القبائل الإثنية الكبرى (الأكراد، السنة، الشيعة) في نوع من الإبادة الثقافية غير المعلنة: الشبك والكاكائيون والأيزيديون يذوبون في هوية كردية، هم (كرد أصلاً) والتركمان الشيعة والكرد الفيليون والشبك الشيعة يذوبون في هوية شيعية جامعة، فهم مجرد أقليات شيعية غير عربية. أما من لا يدخل في لعبة التقسيم بين القبائل الإثنية الكبرى، فسيكون مشروعاً لمهاجر أو مهجر أو نازح.

الحلقة الثانية: تدمير التعايش الإسلامي المسيحي

أعادت جريمة "كنيسة سيدة النجاة" ببغداد عام 2010، سيناريو تفجيرات المعابد اليهودية في بداية خمسينيات القرن الماضي، وهدفها دفع من تبقى وتمسك من مسيحيي الوسط والجنوب بالتفكير بالهجرة كخيار حتمي. فشهدنا خلال الأسابيع التي تلت الجريمة أكبر هجرة لمسيحيي بغداد في تاريخها المعاصر.

مسيحيو الموصل الذين تدفقوا إلى بغداد في نهاية الخمسينات بعد هجرة يهود العراق وبعد ثورة الشواف بشكل خاص عام 1959، فأحدثوا تحولاً نوعياً في جو بغداد الثقافي وبيئته الاجتماعية والاقتصادية، عادوا في هجرة عكسية إلى الموصل وسهل نينوى بشكل خاص، وملاذاتهم المؤقتة في عينكاوه ودهوك.

منذ الآن أصبح الوجود المسيحي استثناء في الجزء العربي المسلم من البلاد، وهو خطاب تبناه بشكل علني أو مضمر اليمين المتشدد في أوروبا ممن يعملون على إيجاد توازن ديموغرافي مع الأقلية المسلمة المتنامية في الغرب، في استمرار لمشروع الحروب الصليبية التي هدفت إلى "كثلكة" المسيحية الشرقية. المسيحيون هنا (أقلية نحافظ عليها) كما المسلمون هناك (أقلية تحافظون عليها) كما ذهب إلى ذلك جوهر خطاب السيد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في افتتاح كنيسة سيدة النجاة.

الحلقة الثالثة: تدمير آخر معقل للتعددية

مثلّها احتلال داعش للموصل عام 2014، وإطلاق ماكنته التدميرية لآخر معقل للتعددية في العراق، ومن ثم وضع أوراق تقسيم البلاد كأمر واقع على الطاولة، تهجير المسيحيين وبقية الأقليات من سهل نينوى، وسبي نساء وأطفال الأيزديين في سنجار.

الحلقة الرابعة: استهداف العراق الرمزي

وكانت تهدف إلى غلق الطريق تماماً أمام أية عودة لخطاب وطني أو تشجيع على هوية مشتركة أو جامعة، من خلال تصفية التراث المشترك للعراقيين. تفجير الأضرحة والمزارات الدينية وتدمير متحف الموصل، ونهب المواقع الاثرية.

إذا كان العراقيون قد فقدوا خلال سنوات العنف الدامي ومتوالية أعوام 2003، 2005، 2006، 2010، 2014 أسباب الوحدة وبناء المشترك الإنساني وتوحيد الخطاب والمصير، وأصبحوا مجموعة كائنات خرافية تدعى (مكونات) نفخ فيها الحياة سماسرة الهويات المتخيلة من أحزاب الإسلام السياسي السني والشيعي والأحزاب القومية الكردية، وتقسيمهم حسب أديانهم وقومياتهم ومذاهبهم،  فقد حان الوقت أخيراً  للقضاء على آخر شيء يجمعهم: ماضيهم وذاكرتهم.

العراقيون جميعاً مهما اختلفوا، من العرب والكرد والتركمان والشبك والسريان والكلدان والآشوريين، ومهما اختلفوا دينياً، مسلمين ومسيحيين وأيزيديين، كاكائيين، مندائيين، زرداشتيين أو كانوا يرطنون بأية لغة عربية أو كردية أو تركمانية أو سريانية أو لورية... الخ، تسمروا أمام الشاشات وهم يرون تدمير متحف الموصل. كان هذا شيئاً يخصهم جميعاً، كان هذا قلباً انتزع من جميع صدورهم، كان هذا بكلمة واحدة: ماضيهم.

*الصورة: كنيسة العذراء مريم في ساحة الميدان في العراق وهي مزار للجميع/إرفع صوتك

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".