الجزائر – بقلم أميل عمراوي:
"لم أكن أعلم أن الخطأ في التقدير يمكن أن يودي بحياة الأبرياء، وأن أبناء الحي يمكن أن يجروك للقتل يوماً ما".
الكلمات لفيصل حربيش، شاب جزائري يعمل حارساً ببيت أحد رجال الأعمال وأب لطفلين، أصر على الإدلاء بشهادته حول ما يمكن أن يقترفه الإنسان في أولى مراحل شبابه من دون أن يعي خطورة الأمر الذي يقدم عليه.
فيصل، 44 عاماً، من الشباب الذين استهوتهم خطابات الإسلاميين الرنّانة، كان يرتاد أحد مساجد العاصمة الجزائرية، حيث حضر الكثير من اللقاءات التي تهدف إلى تجييش الشباب والمسماة اصطلاحاً "حلقات"، والتي يقول إنّها كانت منطلقاً نظرياً لتكفير المختلِفِ معهم ثم رفع السلاح في وجهه.
حلقات ذِكر أم مجالس تكفير؟
في حديثه لموقع (إرفع صوتك)، يكشف فيصل كيف تعمل الماكينة التعبوية للجماعات المتطرفة داخل المساجد بالأحياء الشعبية، مستغلة المشاكل الاجتماعية والعاطفية التي يتخبط فيها الشباب.
"تزامنت بداية العقد الثاني من عمري مع التغيرات المباغتة التي عرفتها الجزائر، حيث صادف ذلك الانفتاح السياسي والإعلامي صخب في الخطاب بالأحياء الشعبية والجامعات ودور العبادة. وكنت أنا شاباً نقياً لا أحمل الضغينة لأي كان، لا أدري كيف أصبحت سيئاً!".
ويقول المتحدث إنه كثيراً ما تخللت حلقات حفظ القران تلك دروس يتعلم من خلالها الشاب كيف يخدم وطنه ودينه، لكن الشكل الذي كانت تقدم به والقالب الذي كان يحويها مؤداه "من ليس معنا فهو كافر مرتد يصح قتله".
ثم يضيف "أتساءل اليوم هل كانت حلقات للذكر أم مجالس للتكفير؟".
لا يمكنك الخروج عن السرب.. حتى النهاية
يتذكر فيصل كيف كان يحرص القائمون على تلك "الحلقات" أن يحضر الجميع يومياً بين صلاتي المغرب والعشاء. ويقول في هذا الصدد "كان معظمنا إما عاطلاً عن العمل أو طالباً في الجامعة وهو الأمر الذي ساعدنا على الالتزام بالحضور اليومي، بل كان الجميع يساعد الجميع على تخطي المشاكل اليومية المرتبطة بالمال تارةً، وبمتطلبات العيش اليومية تارة أخرى".
ويشير إلى أنّه "يمكنك الاتكال على الجماعة خلال بحثك عن دواء نادر لأمك مثلاً. هذا أمر يجعلك لا تستطيع الخروج عن السرب، خصوصاً وأنك شاب وأنت فعلاً بحاجة لمن يعينك في كثير من أمور حياتك وهو ما لا تستطيع الدولة أن تكفله لك، خصوصاً في تلك الفترة".
ويكشف فيصل أنه كثيراً ما حاول الابتعاد عن تلك "الحلقات" لما بدأ العمل المسلح يضرب الجزائر، لكنه لم يستطع بسبب الإحساس بواجب "رد الجميل"، وهو ما يستغله أولئك.
عمل فيصل على تأمين الغذاء لتلك الجماعات قبل أن تلتحق بالجبال، حين بدأت قوات الشرطة والجيش تجري عمليات مداهمة لبيوتهم، قصد القبض عليهم مخافة التواصل بينهم والتخطيط لعمليات مسلحة.
وكانت مهام فيصل تتضمن تأمين مستلزمات المأكل والمشرب والملبس إلى حين صعودهم لجبال العاصمة وضواحيها، قبل أن يُقبض عليه ويسجن لمدة خمس سنوات.
"إن طيبة قلب الواحد منّا تجعله لا يفكر في العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجر عن قرار العمل معهم لتيسير تحركاتهم بعد أن طوقت قوات الأمن العاصمة إذ ذاك".
بنبرة صريحة ملؤها الندم، يشرح فيصل كيف كان "يستغفل" قوات الأمن ويوصل المواد الغذائية لأصدقائه دونما أن يحس به أي كان. ويقول "بحكم أنني لم أكن من الملتحين، كان من السهل تخطي الحواجز الأمنية وأنا محمل بمختلف البضائع، أوصلها لأحد المساجد بالعاصمة حيث كان يختبئ (المطلوبون) من رفاقي".
لولا السجن لكنت اليوم إمّا قاتلاً أو مقتولاً
في أحد الأيام، خرج فيصل قاصداً بيت أحد الأصدقاء ممن كانوا يؤمنون المال للجماعات المتشددة، ليسحب منه قسطاً نقدياً وذلك لحاجته للمال. ولما طرق باب البيت خرج والد الصديق ليخبره أن عناصر الأمن تطوق البيت، وأن ابنه في قبضة قوات الأمن وكانت تلك نهاية مغامرته معهم، على حد تعبيره.
يعبر فيصل عن ندمه الشديد لما جرى بعد ذلك في الجزائر. يقول إنه لن يسامح نفسه على الإعانة التي قدمها لمجموعة المجرمين تلك دون وعي. "طبعاً أنا نادم على ما فعلت. كيف لي أن أسامح نفسي! لقد كنت من بين أولئك الذين أعانوا على سفك دماء الأبرياء ولو أن المرحلة تلك لم تشهد العمليات التي عرفتها الجزائر فيما بعد. لكن لو لم أسجن لكنت التحقت بالجبال، ولكنت اليوم إما من القتلة أو من المقتولين".
ويختم فيصل حديثه لموقع (ارفع صوتك) بالنصح لشباب اليوم في جميع البلدان العربية بل والغربية التي تعرف تواجداً مكثفا للجالية العربية والمسلمة عموماً، قائلاً "لا تستهينوا بالذي تقدمونه. يجب أن يكون دوركم في الحياة إيجابياً. لا يمكن أن يعود القتل أو تفجير النفس بالخير عليك وعلى دينك ووطنك. ألا يقول الله في كتابه "من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً؟".
*الصورة: "كيف لي أن أسامح نفسي؟"/Shutterstock
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659