بقلم علي عبد الأمير:

لم تكن الفلوجة والمجتمع العراقي بعامة حتى تسعينيات القرن الماضي، إلا صورة عن التعددية الدينية والاجتماعية التي تشكل ملامح وجوده الأساسية والطبيعية.

ويكشف الباحث في التاريخ العربي والإسلامي الدكتور رشيد الخيون، في مقالة له نشرها في العام 2004 تزامناً مع معركة الفلوجة، أن إحصاء السكان لعام 1947 يظهر انفتاح المدينة الديني والاجتماعي، وذلك بتواجد "كل شرائح أديان العراق فيها وهي البلدة الصغيرة، فعاش في قصبتها 446 يهودياً، لم يبرحوها حتى هجرتهم الجماعية في بداية الخمسينات في ظروف حددها أحد المهاجرين قهراً".

ويضيف الباحث "عاش فيها 87 مسيحياً، و100 مندائي، وعدد قليل من الأيزيديين. ويعد التواجد الديني غير المسلم كثيراً، إذا علمنا أن عدد السكان الكلي للفلوجة وتوابعها كان 48,162 فرداً".

ويقول الكاتب سمير كامل شهاب، في مقالة بصحيفة "المدى" إنّه مع آواخر القرن التاسع عشر، "قرر والي بغداد ارسال مدير بلدية بغداد الحاج محمود التكريتي إلى منطقة الصقلاوية لمسح المنطقة واختيار مكان ملائم على النهر يقام عليه جسر خشبي يسهل عليه العبور إلى الجهة الغربية من نهر الفرات وبالعكس".

وفي العام 1933، قام الملك فيصل الأول بافتتاح جسر الفلوجة الحديدي القديم"، الذي عرف لاحقا في الصحافة العالمية على نحو واسع، حين علقت على دعائمه الحديدية، جثث الأميركيين الأربعة القتلى، في نيسان/أبريل 2004.

التحولات الاجتماعية والسياسية المتطرفة؟

"الفلوجة، مثلها مثل كل المدن، مرّت بتحولات كبيرة ومؤثرة في بنيتها العمرانية وتركيبتها الثقافية ونسيجها المجتمعي. قربها من بغداد أنتج، من بين أمور كثيرة، مدينة تختلف عن بقية مدن الأنبار"، هذا ما يلفت إليه الصحافي محمد الدليمي، لموقع (إرفع صوتك)، مستدركاً "لكن تغير وجه المدينة منذ خمسينيات القرن الماضي، مع وصول الشيخ عبد العزيز السامرائي، رائد الحركة الإسلامية المعتدلة في المدينة، وتأسيسه لمدرسته الدينية التي تخرج منها أعلامٌ منهم، على سبيل المثال، الشيخ أحمد الكبيسي والراحل الشيخ حمزة عباس العيساوي (مفتي الأنبار)، الذي قتله إرهابيون بباب مسجده لدعوته الشباب إلى الانضمام إلى صفوف الجيش والشرطة بعد العام 2003".

بحسب الدليمي، هذه الحركة الدينية، تأثرت في تسعينيات القرن الماضي بـ"الحملة الإيمانية" التي أطلقها صدام حسين، ووصول المد الجهادي القادم من أفغانستان، والذي اجتاح المنطقة بأسرها، وتزايد الضغينة والمعارضة للنظام والجوع والحرمان الذي انتشر في الأحياء، مما تسبب بتصاعد التيار السلفي الجهادي في المدينة على نحو غير مسبوق. فتم في تسعينيات القرن الماضي عدة عمليات تفجير استهدفت دار عرض سينمائي وحيدة (والتي أصبحت مقراً للحزب الإسلامي فيما بعد)، محلات الكوافير ومحال إيجار كاسيتات الصوت الموسيقية والفيديو السينمائية، ومقر حزب البعث.

وتزايدت كذلك الاعتقالات وأحكام الإعدام بحق العديد من المنتمين لهذا التيار، فلاذوا بالفرار إلى خارج العراق. ولم يكونوا وحدهم بل شمل غيرهم ممن أدين باتهامات باطلة. وكعادة العنف والأحكام الجائرة والمشددة، فقد ساهمت بتأصيل الرد العنيف والإيمان به وعدم جدوى الحراك السلمي، على الأقل بين أولئك الذين لم يكونوا مؤمنين أصلاً بالرد العنيف، كما يروي الدليمي.

ويضيف الدليمي "بعد الاحتلال الأميركي، برز نجم التكفيريين الذين كانوا يمتلكون التمويل، والرغبة في تسويق أيديولوجيتهم بقوة السلاح واستغلوا عدم قدرة الأميركيين على دخول المدينة في معركة الفلوجة الأولى، نيسان/أبريل 2004، ليؤسسوا للظروف المواتية لمعركة الفلوجة الثانية، والتي شهدت، ولأول مرة، مشاركة واسعة لمقاتلين عرب منتمين لتنظيم القاعدة من غير العراقيين. تلا هذه المعركة، في بداية 2005، حملة شنيعة لتهجير التنوع من الفلوجة، من مسيحيين وصابئة وشيعة، لتنتهي هذه الحملة في عام 2006، في أوج الحرب الأهلية العراقية، وحملات التطهير العرقي والطائفي التي شهدتها بغداد، والفلوجة، ومدن الجنوب".

"كل هذه التطورات، أدت فيما أدت إلى تغيير عميق في وجه الفلوجة، وهو تغيير داهم مدن العراق ووجها الناصع. والفلوجة، لربما مثال تتركز فيه هذه التغيرات"، ويستدرك الدليمي "لكن مدناً مثل هذه لا تنسى وجهها الناصع، فهي المدينة التي تتباهى بأسماء مرت بها مثل شيخ المدربين عمو بابا، الذي ساعد فريق كرتها عرفاناً لذكريات طفولته، وهي نفسها الفلوجة التي كتب عنها الرصافي الوفي لذكرياته فيها (فثناءً للرافديـن وشكراً... وسلاماً عليك يا فلوجة)".

مدينة السلام!

وفي حين تبدو المدينة اليوم على مفترق حاسم آخر من حياتها في نحو ربع قرن من الاحداث والتحولات العاصفة، فإن ثمة إجماعاً بين معظم أبناء المدينة على مساندة عملية تحرير الفلوجة من داعش، على الرغم من مواقفهم المتباينة من الحكم في بغداد، وهو ما تكشفه بوضوح صفحة على فيسبوك بعنوان "الفلوجة مدينة السلام".

*الصورة: مشهد عام لمدينة الفلوجة من الجو/تصوير علي عبد الأمير

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".