بقلم جان صالح:

لو كُتب للبريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو فرصة رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط، لما فعلا ذلك. فالشرق نفسه دخل في هذه المهمّة، عبر الصراعات التي قوّت قوى التطرف والإرهاب، فظهر داعش ليحطم الحدود المُصطنعة بين العراق وسورية، ويتمدد نحو ليبيا واليمن ومصر، وإعلان "دولة الخلافة الإسلامية"!

هذا الشرق الجديد بات بيئة مُنقسمة، وأصبح ناضجاً بما فيه من الكفاية أن ينقسم لدول جديدة! فسايكس بيكو لم يُنفّذ تماماً، حسب السفير الأميركي السابق ألبرتو فرنانديز، نائب رئيس مركز الشرق الأوسط للبحوث الإعلامية (ميمري):

 "سايكس بيكو لم يُنفذ أبداً بالكامل. فقد أصبح كقميص عثمان لمجموعة من النقاد، فهناك مشاكل كثيرة في المنطقة وهي الديكتاتورية، والقمع، والتطرف، والفساد، وليس هناك أي شيء يمكن عمله تجاهها، أعتقد أن الحدود الرسمية الحالية ستكون أطول أمداً كما يظن الكثير من الناس".

سورية والعراق تعيشان التفكك السياسي والجغرافي والمذهبي وحتى القومي. هذه الحالة وصفها الصحافي ديفيد إغناشيوس بإرث سايكس بيكو، في مقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست في 3 أيار/مايو 2016، باحثاً عن آلية لإعادة تجميع أجزاء الشرق الأوسط الهش المُفكك "العراق وسورية يتمزقان: فالعراق مقسم عملياً إلى ثلاث مناطق متحاربة؛ منطقة سنية تحكمها مجموعة "الدولة الإسلامية"، ودويلة كردية تتمتع بحكم شبه ذاتي، ومنطقة في جنوب العاصمة يسيطر عليها النظام الذي يقوده الشيعة. وثمة هيكل مُمزق على نحو مماثل في سورية. وقد اختفت الحكومة المركزية في كلا البلدين".

هذا الشرق المُنهار لم يعد مؤهلاً للعلاج، ولن تستطيع واشنطن وأوروبا وقف نزيف الحروب والإرهاب الديني. لكن إغناشيوس يدعو أميركا أن تلعب دور المُنقذ "ابدأوا في إرساء الأسس لنظام جديد في الشرق الأوسط، والذي يمكن أن يوفر أمناً وحكماً ورفاهاً اقتصادياً أفضل للسنة والشيعة والكرد، وللأقليات الأصغر المنضفرة في نسيج المنطقة. ساعدوا شعوب هذه المنطقة المحطمة على بناء وإدامة هياكل الحكم التي يمكن أن تكون عاملة. سوف يكون إصلاح الشرق الأوسط الممزق عمل جيل كامل بالتأكيد. لكن الوقت حان لكي تشرع الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والسعودية وإيران في التفكير بشكل عاجل مع شعوب سورية والعراق حول البنى الجديدة التي يمكن أن تتمكن أخيراً من معالجة الأخطاء والمظالم التي وقعت قبل قرن من الزمن".

هنا ما مصير الأقليات القومية والدينية بعد أن خذلهم سايكس- بيكو، وباتوا ضحايا الأمس واليوم بفعل حكومات مُستبدة، ومنظومات إسلامية متطرفة، تمارس تطهيراً عرقياً بحقهم، وتسبي نساءهم، وتدمر كنائسهم ومعتقداتهم!

يرى فرنانديز "منطقياً هذا يعني تقسيم سوريا على الأرجح" في المنطقة الساحلية وجبل الدروز "لحماية العلويين، المسيحيين، الدروز. تقسيم مشابه يمكن أن يحمي الأكراد والمسيحيين في شمال شرق سورية، في حين هذا الأمر يبدو منطقياً على الورق، ولكن لا أعتقد أن هذا يمكن تطبيقه في الواقع، لأن السنّة لن يسمحوا بذلك. القضية الأهم التي لم تحل بالطبع هي (كردستان المستقلة)، والتي يجب أن يكون لها الأولوية في أي تسوية مستقبلية. أرى أنه من الصعب القيام به ،وخاصة كردستان العراق بسبب معارضة تركيا وإيران الشديدة".

 شرق أوسط جديد يقسّم نفسه بنفسه، عبر حروب بالوكالة عن طهران وأنقرة والرياض، كمخاضات عن مشروع الهلال الشيعي، وصراعه مع النفوذ السُنّي، والذي سيدفع بالمزيد من الطائفية، وعدم إمكانية العيش المشترك، وبالنتيجة قد تنشأ دولة شيعية، أو دويلات سُنّية، والتي يرى المراقبون أنها قد تصل إلى 14 دولة جديدة في الشرق الأوسط. يُعلّق فرنانديز على ذلك:

" أيّ دولة شيعية ستكون تحت نفوذ إيران ،على الأقل في البداية. إن تشكيل جزء من دولة عربية سُنّية من بقايا سورية والعراق سوف يكون مشكلة، حتى لو لم يسيطر عليها الجهاديون، كما ستسعى دائما للانتقام والاستيلاء على الأراضي المفقودة، مثلاً حين نرى بعض المسلمين يتحدثون عن الأندلس، ولكن بدرجة أكثر".

مائة عام على سايكس وبيكو، والحروب والدماء لم تتوقف، قد يكون ذلك لعنة تاريخية، لكن الشعوب في الشرق لا تتعلم أبداً. فالتقسيم البريطاني والفرنسي  كان يدرك أن هذه المنطقة المثيرة في العالم لن تهدأ أبداً، وستبقى غير مُستقرة.

عن الكاتب: جان صالح، كاتب وصحافي سوري متخصص في شؤون الشرق الأوسط  والقضية الكردية والأقليات. حائز على إجازة في الحقوق من جامعة حلب" قانون دولي ودبلوماسية عامة". يعمل  مساعد معد برامج في قناة الحرة بواشنطن.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".