بقلم حسن عبّاس:

في أيلول/سبتمبر 2008، احتفلت السلطة العراقية بإزالة الحواجز الكونكريتية التي انتصبت لمدة 15 شهراً وفصلت بين بعض أحياء بغداد السنّية وبعض أحيائها الشيعية. كانت تلك إشارة على عودة العلاقات الطبيعية بين أبناء تلك الأحياء بعد مرحلة اقتتال طائفي عنيف.

لكن في الفترة الماضية، وعلى ضوء الفوضى الأمنية التي تسبب بها انتشار المجموعات المتطرّفة، خاصةً داعش، عادت الظاهرة القديمة لا بل اتسعت لتشمل كل العراق.

جدران وخنادق

في العام الماضي، ثار سجال واسع على خلفية حفر محافظة بابل خندقاً يفصل بين بابل وكربلاء وبين محافظة الأنبار.

ولعلّ ما أثار السجال هو الشروع في مرحلة الحفر التي تفصل بين كربلاء ذات الرمزية الشيعية والتي تضم مقامي الإمامين الحسين والعباس وعامرية الفلوجة السنّية.

واعتبر البعض أن هذا الخندق يهدف إلى الفصل بين المحافظات على أساس طائفي، فيما أكّد داعمو المشروع أن هدفه أمني فقط لمنع داعش من التقدّم.

كما أثير سجال مماثل على خلفية حفر قوات البيشمركة الكردية خندقاً بطول 100 كيلومتر، ويمتد من جنوب كركوك إلى غربها.

وترى البيشمركة أن هذا العمل ضروري للحماية من داعش، بينما يرى آخرون أن هدفه الحقيقي ترسيم حدود إقليم كردستان العراق بعد توسيعها دون اتفاق مع باقي العراقيين.

وفي بداية العام الحالي، ثار سجال مماثل بعد أن باشرت الحكومة العراقية ببناء جدار أمني حول بغداد، طوله 100 كيلومتر وتتخلله بوابات يمكن مراقبة العابرين عبرها.

وكما في الحالات السابقة، أشاد مؤيدو بناء الجدار بفعاليته المرتقبة ضد الهجمات الإرهابية، فيما اعتبر معارضون أنه يفصل العاصمة التي تغيّرت ديموغرافيتها وصارت تسكنها أغلبية شيعية عن المناطق السنية القريبة.

إجراءات بحجة داعش

تعليقاً على هذه السجالات، قال رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية واثق الهاشمي إن "هنالك إجراءات احترازية تقوم بها أطراف مختلفة بحجة محاربة داعش، ولكن هنالك ما يجري وراء الستار ويهدف إلى إحداث تغييرات في جغرافيا العراق وديموغرافيته".

مسألة العوازل والجدران وصلت إلى داخل المدن نفسها. ففي بغداد هنالك جدران تفصل بين أحياء العاصمة. وفي مدينة طوزخرماتو في محافظة صلاح الدين، تنتصب المتاريس لتفصل شطر المدينة الكردي عن شطرها التركماني الشيعي.

ولفت الهاشمي إلى أن ما يحدث "خطير على مستقبل العراق. فالسؤال الأساسي هو: ماذا بعد داعش؟"، مشيراً إلى أن "هنالك مخطط لتقسيم العراق أو فدرلته وما يجري الآن هو خطوات تمهيدية لذلك".

وحمّل الهاشمي "الطبقة السياسية التي أثبتت فشلها بامتياز" مسؤولية ما يحدث مؤكداً أن المواطنين ليسوا من محبّي أفكار الفرز السكّاني "ولكن الوقائع تُفرض بقوة السلاح".

غير مرغوب بهم في عدن

مشهد مماثل تدور أحداثه في اليمن منذ عام 2011. وخلال الشهر الماضي، كشفت تقارير أن جماعات مسلحة أجبرت مئات المواطنين الشماليين على النزوح عن مدينة عدن. وأكّد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي هذه التقارير عندما ندّد بما حدث.

وكان اليمن الجنوبي دولة مستقلة باسم جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية قبل توحيد شطري اليمن عام 1990، ثم هزيمة حركة جنوبية طالبت بـ"الاستقلال" عام 1994.

ومنذ ذلك الحين، يشكو اليمنيون الجنوبيون من التمييز ضدهم، ويتهمون الشماليين الذين نزحوا إلى عدن، عاصمة الجنوب، بالاستفادة من نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح.

فرز حاد في سورية

وفي سورية، يتهم كثيرون النظام السوري بالعمل على تغيير البنية السكّانية لمناطق محيط العاصمة دمشق ومدينة حمص وبعض مناطق حماة المجاورة للشريط الساحلي والمناطق المجاورة للحدود السورية-اللبنانية، استعداداً لإمكانية التقسيم.

ويتهم آخرون الأكراد بالتضييق على بعض العرب القاطنين في المناطق التي أعلنوا فيها "إدارة ذاتية"، إلا أن الأكراد يردّون بأن العرب شركاء في كل تفاصيل إدارة هذه المناطق.

وقال الحقوقي السوري ومدير المعهد العربي للتنمية والمواطنة في لندن، عبيدة فارس، لموقع (إرفع صوتك) إن "التعايش المشترك يواجه صعوبات بالغة قد لا يتمّ تجاوزها لعدّة أجيال في كل الدول التي تشهد جرائم حرب واسعة النطاق".

وأشار إلى أنه "في الكثير من المناطق، قد نشهد نوعاً من التطهير العرقي الاختياري، حيث تنتقل أقليات طائفية إلى مناطق أخرى حتى ولو لم تجبر بشكل مباشر على ذلك، وهذا يحصل نتيجة للحالة العدائية الواسعة التي تواجهها".

ويدلّ حصار قريتي الفوعة وكفريا في محافظة إدلب وقريتي نبّل والزهراء في محافظة حلب، وهي قرى شيعية، على رفض فصائل المعارضة السورية وجود جيوب غير سنّية داخل المناطق الخاضعة لسيطرتها، في تعبير عن ثقافة تبدو رائجة هذه الأيام ويمارسها الجميع.

على ذلك، علّق فارس بأن "جرائم الحرب والإبادة الجماعية واسعة النطاق التي تمّت ممارستها في سورية خلال السنوات الماضية أدّت إلى موجة تطرف ورفض للآخر لدى مختلف الأطراف، بالتوازي مع التطرّف المستورد الذي أحضرته تنظيمات داعش والنصرة وحزب الله وغيرها".

لكنه اعتبر أنه "في الجانب المعارض، لم نشهد عمليات تغيير ديموغرافي بعد، برغم قيام أطراف معارضة بحصار أربع قرى صغيرة في ريفي حلب وإدلب على خلفية طائفية".

وتابع أن "ذلك لا يعني أن هذه القرى يمكن أن تتعايش لاحقاً مع محيطها السكاني، وربما تستخدم كجزء من صفقات للتغيير الديموغرافي مع مناطق أخرى".

التغيّرات التي تجري في ظل الحرب لن يُمحَ أثرها سريعاً. وبرأي فارس، إذا لم تتم محاسبة مرتكبي جرائم الحرب وتنفيذ برامج للعدالة الانتقالية "ستُشرّع الأبواب أمام أفراد وجماعات للقيام بعمليات انتقام".

*الصورة: أضرار خلفها هجوم سابق في طوزخرماتو/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".