بقلم حسن عبّاس:
في أول محاضرة ألقاها في هولندا بعد رحيله من مصر، بعد تكفيره، بدأ كلامه بتلاوة الشهادة. لم يرد أن يظنّ الجمهور الغربي أنه ضد الإسلام. كان ذلك عام 1995.
هو نصر حامد أبو زيد، المفكّر الذي تطرّق بشجاعة إلى إشكاليات لها علاقة بالتراث وبالنصوص الدينية، ودعا إلى فهم عصري للإسلام.
التحرّر من "سلطة" النصوص
دعا أبو زيد إلى "الانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا"، وقال "علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً قبل أن يجرفنا الطوفان".
وعمل في كتاباته الكثيرة على إنجاز منهج للتأويل "يفتح معنى النص للإجابة عن أسئلة معاصرة". واعتبر أن حظر التعاطي مع النصوص الدينية بجرأة "يعني أن يؤبِّد الفكر حالة التخلف والانغلاق بدل أن يواجهها نقدياً".
موضوعات متعلقة:
مرصد الفتاوى في مصر: الجهاد بريء من المتطرفين
“آية السيف”.. الآية التي قسمت العالم
كثيرة هي الإشكاليات التي تصدّى لها المفكّر المصري ومنها طريقة تفاعل المؤسسات الدينية الرسمية مع تحدّي الإرهاب. وقد اتهم الفكر الديني السائد بأنه "يدين الإرهاب بلاغياً"، أي ينتقده من دون أن يتجرأ على مساءلة منطلقاته.
ونبّه أبو زيد مراراً إلى أنه لا يدعو إلى نقض الدين، وشرح أن "التحرر من سلطة النصوص هي دعوة يجب أن تُفهم بالتركيز على كلمة سلطة لا بالتركيز على كلمة نصوص".
فالنصوص، برأيه، تتحوّل إلى سلطة حين يُقنَّن الإيمان لاهوتياً، وهذا يحدث في سياقات تاريخية ترتبط غالباً بالخلافات السياسية والاجتماعية في مرحلة صدور النص.
ولفت إلى أن ما يحدث هو أن "السلطة السياسية تقوم بفرض عقائدها واعتبار العقائد والممارسات الأخرى بدعا أو هرطقات. وقد رأينا في تاريخ الدولة العباسية مثلاً كيف كانت عقيدة المعتزلة في خلق القرآن عقيدة الدولة، ثم استحالت هرطقة ترقى إلى درجة الكفر بعد أقل من ثلاثة عقود ليس إلا".
لم يقل أبو زيد يوماً أن فهمه للنصوص الدينية هو الحقيقة. وأكّد أن "كل تأويل مشروع طالما ينطلق من التواضع وعدم ادعاء الموضوعية المطلقة التي لا وجود لها". ولكن كلامه لم يعجب كثيرين لأنه ينتزع منهم ادّعاءهم بقول الحقيقة.
فهم جديد للقرآن
يعتبر أبو زيد أن "القرآن نص سردي بامتياز". ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنه "يحكي قصصاً كان المعاصرون يعرفونها، وهو يخاطب معاصريه على قدر تصوراتهم التي تتمثل العالم عجائبياً وغرائبياً، مليئاً بالملائكة والجن...".
وهكذا، فإن حكايات وقصص المعجزات الواردة في القرآن كانت جزءاً من الواقع الثقافي، أي أنه خاطب الناس بحسب المفاهيم والتصورات الموجودة في وعيهم.
وليس أبو زيد شاذاً بقوله هذا. فقد سبقه الشيخ محمد عبده بقوله إن القصص القرآني يقصد به التنبيه والاعتبار. بل إن عبده يذهب إلى اعتبار أن نزول الملائكة لمؤازرة المسلمين في معركة بدر لم يحدث حرفياً، بل هو مجرد بشارة للنصر ولتقوية عزيمة المسلمين.
ومن المفاهيم التي حللها أبو زيد مفهوم الجهاد. فيقول إن مسألة فرض القتال لها سياق لا ينبغي إهماله أو تجاهله. فحتى وفاة النبي كانت عمليات القتال يُطلق عليها اسم "غزوات"، وهو الاسم المعروف في الصراعات القبلية. وبعد أن توسّع الإسلام، صار القتال المنظّم يُسمّى "فتوحات".
أما مصطلح "الجهاد" فلم يؤصّل إلا مع استقرار الإمبراطورية الإسلامية ومع تجدد المناوشات بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية.
وبرأيه فإن "الإرهاب المنبثق من عمليات الأسلمة" قام بـ"عملية قرصنة على مفهوم الجهاد وأعاد تدويره"، وراح يكفّر الحكام في العالم الإسلامي لأنهم لا يحكمون بما أمر الله، ويكفّر المجتمعات البشرية كلها ويصفها بأنها "جاهلية".
تاريخية القرآن
يتحدث أبو زيد عن "تاريخية النص القرآني"، وعن أن "أجزاءً منه سقطت بحكم التاريخ وأصبحت شاهداً تاريخياً". ويضرب مثالاً على ذلك "تحوّل آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرق من حياتنا".
لم ينظر المفكّر المصري إلى التراث لا بطريقة سلبية ولا إيجابية. "كل تراث به جوانب إيجابية وجوانب سلبية أيضاً. ولا بد من مواصلة تطوير الجوانب الإيجابية، أما الجوانب السلبية فلا بد من مناقشتها نقاشاً مفصلاً لكي نعرف ما إذا كانت بالفعل من العناصر الجوهرية للعقيدة أم أنها إضافة بشرية لاحقة"، قال.
وقوله بتاريخية القرآن كان دعوة إلى الأخذ بعين الاعتبار الآيات القرآنية التي تتوجه مباشرةً وصراحةً إلى النبي وإلى المجتمع الذي عاش فيه. فمثلاً، في ما خص قطع يد السارق، اعتبر أنها ليست عقوبة إسلامية يجب أن تُطبّق في كل العصور، ولكن "هذا الحد ما هو إلا اقتباس من المجتمع العربي قبل الإسلام، وكان متجذراً في سياق اجتماعي وتاريخي له خصوصيته المغايرة تماماً عن السياق الراهن".
وبرأيه، "عندما نضع القرآن في سياقه على هذا النحو، عندئذ سنستطيع أن نتغلغل لنصل إلى كنهه الحقيقي الذي يمكن اعتباره صالحاً لكل الأزمنة"، داعياً إلى "أن نقوم بنزع الغلائل عن القرآن، وأن نخلّصه مما علق به خلال سياق تاريخي معيّن لم يعد موجوداً اليوم".
*الصورة: صفحة من المصحف/Shutterstock
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659