صنعاء- بقلم غمدان الدقيمي:

يثير الصراع الدامي الذي بدأ يأخذ منحًى طائفياً وجهوياً جلياً في اليمن، الكثير من المخاوف بشأن مستقبل التعايش مع بروز “هويات مشوهة"، تقوض فكرة الدولة الوطنية الجامعة.

وتكاد تكون الحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2014 آخر “مسمارا في نعش هوية يمنية تحتضر”، على حد تعبير الناشط السياسي اليساري مطيع دماج.

توحيدية

يقول دماج، وهو عضو في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني إن “التراجُع عن تراكمات الحركة الوطنية، التي شكلت الهوية اليمنية، وكان ملمح نجاحها قائماً على الإقرار بالممارسة الديموقراطية مهما كانت مشوهة، بتحويلها إلى غلبة القوة القائمة على التنظيم الميليشاوي المسلح واجتياح المدن شكل ضربة هي الأعنف في جسد الهوية اليمنية المريض والمنهك”.

وأضاف مطيع دماج، الذي ينحدر من أسرة سياسية وأدبية عريقة تصدرت مسار الحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، في حوار لموقع (إرفع صوتك) أن الهوية اليمنية تحولت من "توحيدية مستقبلية قادرة على لم الناس ورصهم وراء مشاريع سياسية تدافع عن حقوقهم، إلى هوية مشوّهة مبنية على عداء وخصام مع هويات أخرى”.

هوية حديثة

وحذر من عواقب كارثية على مستقبل التعايش في بلاده، جراء انتشار الهويات الطائفية والمذهبية والجهوية، والتعابير المناطقية، أكثر من أي وقت مضى، في “ظل اندفاع اليمنيين وراء خيار السلاح كخيار وحيد” على حد قوله.

وحسب دماج، فإن بناء هوية يمنية حديثة موحدة، مرتبطة بمفاهيم الديموقراطية وقائمة على المواطنة المتساوية، يعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، من خلال العمل السياسي والثقافي والاجتماعي لنخب ومفكرين ومثقفين وسياسيين يمنيين حاولوا إلحاق اليمن بالعصر الحديث.

ورغم أن أفقها كان إشكالياً في الأساس، يقول دماج، إلا أنه يؤكد أن هذا الطابع المستقبلي كان يعزز يومياً إمكانية بناء الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع الحديث، ويقلل من حظوظ البنى العشائرية العتيقة والمتقادمة.

ويدلل على ذلك “نجاح هذا التشكل للهوية الموحدة كما طرحت من قبل الحركة الوطنية في إنتاج مشاريع المجتمع الكبرى" كالثورتين العظيمتين 26 أيلول/سبتمبر 1962، و14 تشرين أول/أكتوبر 1963، في شطرين مختلفين (ضد الحكم الإمامي في الشمال، والاستعمار البريطاني جنوبي اليمن).

ويرى أن الشخصية اليمنية استطاعت أن تتواجد داخل الشطرين بحقوق متفاوتة، لكنها متقدمة على الشرط السابق للثورتين، وصولاً إلى الوحدة اليمنية عام 1990، رغم ما لحق ذلك من تخريب لمشروع الوحدة وتدمير لفكرة الهوية اليمنية الجامعة.

الثورة الشبابية

وعلاوة على ذلك، قال مطيع دماج إنّه وفي ظل غياب وضعف مشروع الوحدة منذ منتصف التسعينيات إلا أن شعاراته كانت هي المحرك للثورة الشبابية الشعبية الضخمة (2011) التي أطاحت بالرئيس السابق بعد 33 عاماً من تشبثه بالسلطة، “وجدنا أن الهوية اليمنية تعود وإن بدون مضامين وقوى تدافع عنها، عادت كشعار تستقطب المجتمع ضد سلطة مستبدة، قبل أن تنتكس مجدداً”.

تدمير

ويرى دماج أنّ الحركات ذات الطابع التقليدي حاولت منذ ما قبل الستينيات أن تنقلب على هذا التصور، “لكنها لم تستطع أن تكسر انتماء هذه الهوية للعصر، وبالتالي اضطرت أن تتعامل معها، وتعمل على تدميرها خلال سنوات طويلة وبخطوات متعاقبة”.

ويذهب إلى أن الانهيار الذي لحق بالهوية اليمنية هو جزء من الانهيارات التي طالت الهوية القومية في المنطقة العربية "لمصلحة هويات ذات طابع ديني وطائفي إقصائي”.

الكارثة الكبرى

ويؤكد دماج أن انهيار المشروع السياسي ذو الطابع الاجتماعي والوطني، والذي بلغ ذروته بحرب صيف عام 1994، عندما اجتاحت قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح محافظات الجنوب، شكّل “الكارثة الكبرى”.

“مجموع ممارسات النظام التي أعقبت ذلك الانتصار من قمع وتهميش وتفقير واضطهاد أقنعت مساحات واسعة من المجتمع أن الاشكالية القائمة ليست سياسية وإنما ذات طابع جهوي وتشطيري”، يقول دماج الذي كان حزبه شريكاً رئيساً في إعلان الوحدة الاندماجية بين شطري اليمن عام 1990.

وحمّل مطيع دماج النظام السابق المسؤولية الأكبر عن تدمير الهوية وإفراغها من مضامينها "من خلال استبداده المخيف والاستئثار بالثروة وتدمير الأجهزة المسؤولة التي تمثل مصالح الناس”.

وأشار إلى أن أزمة الهوية الوطنية لعبت دوراً حاسماً في مختلف الأزمات المزمنة في اليمن، “كانت دائماً عائقاً في تشكل دولة حديثة لليمنيين”.

وهم.. ولسنا عاجزين

وبشأن قراءته لمآلات الحرب، يرى مطيع دماج أن “اليمن سقط في هاوية حرب أهلية تبدو طويلة، والحديث عن فرص عالية لكي تنتهي هو جزء من الأمنيات والوهم”.

 ويرى دماج، الذي كان عضواً في مؤتمر الحوار الوطني عام 2013- 2014، قبل انزلاق البلاد في أتون الحرب الدامية أن تعزيز الهوية اليمنية مرتبط ببناء حركة سياسية ذات طابع وطني، وإنهاء الحرب لمصلحة تشكّل الدولة الوطنية، يحكمها دستور قائم على المواطنة المتساوية والحرية والديموقراطية.

ويختتم حديثة قائلاً “لسنا عاجزين عن تجاوز الهويات الضيقة. لكن القضية أننا لم نخلق شروط ذلك على مستوى التنظيم والتفكير”.

*الصورة: مطيع دماج، عضو في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني/تنشر بإذن خاص منه/إرفع صوتك

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".