بقلم علي عبد الأمير:
كشف إعلان منظمة الثقافة والعلوم الدولية "يونسكو" منطقة الأهوار جنوبي العراق ضمن لائحة التراث العالمي في تموز/يوليو الماضي عن عمل منسق سعى إليه مثابرون أوفياء لبيئة بشرية وجغرافية وحضارية خصبة ومميزة كالأهوار.
صحيح أن الأهوار ليست مجرّد منظومة مائية طبيعية، بل هي، وكما تخبرنا به المعارف الدولية ووثائقها، ذخيرة فكرية وتاريخية، إذ شهدت حضارات قدّمت معطيات غيّرت مسار البشرية، كالكتابة والعجلة، كما أنها مصائر إنسانية وموارد اقتصادية وفضاءات جغرافية تمتد إلى عمق ما تعنيه بلاد الرافدين.
اقرأ أيضاً:
الحياة الأميركية بعيون عائلة عراقية
“الهويات القاتلة” لأمين معلوف.. في عيون الأمازيغ والكرد
ومن بين من عملوا بدأب على الإعلان العالمي بتميز الأهوار العراقية وإعلان المسؤولية العراقية والإقليمية والدولية عن حمايتها، هو المهندس الإستشاري والناشط البيئي في مجال الأهوار، جاسم الأسدي، الذي يقول لموقع (إرفع صوتك) إن أهوار جنوب العراق استفاقت في أوائل تسعينيات القرن الماضي على وقع ضجيج معدات حفر ثقيلة وسيارات قلابة ضخمة، وتحت غطاء حماية السلاح لتجريدها من هويتها الثقافية والاجتماعية، وتجفيفها تجفيفاً مريعاً.، مؤكدا "قضى ذلك على أحيائها ونباتاتها المائية، وبدد أحلام أهلها وشرّدهم الى المدن القصية في أميركا، والدول الإسكندنافية، وأستراليا، وأوروبا، وإيران وغرب العراق".
ومع الإقرار العلمي أن الأهوار نظام إيكولوجي (بيئي) متوازن، إلا أن ذلك لم يوقف عملية التجفيف الواسعة التي أقدم عليها النظام السابق في العراق، بل أحال مشهد الأهوار إلى "صورة كالحة لدمار وحطام يبعث على اليأس، وكانت فجيعتنا قاسية ونحن المغرمون بالمياه والأسماك والصباحات الجميلة على وقع أصوات الطيور ومناجاة قطعان الجاموس"، كما يوضح الخبير الأسدي.
المياه بعد سنوات من جفاف الغربة
انتظر السكان المحليون في الناصرية 10 سنوات من الغربة، وقسوة المواجع ليفتحوا أول سدة قاطعة للمياه من تلك السدود التي أقامها نظام صدام حسين في انتقامه الرهيب من سكان الأهوار الذين ثاروا عليه بعد كارثة حرب الكويت 1991. ففي التاسع من نيسان 2003 (يوم سقوط الديكتاتورية)، هدرت الموجات الأولى لنهر دجلة في شط أبو لحية المتفرع من جدول الغرّاف ، لتهدر باتجاه "هور أبو زرك الشمالي"، وتبعهم أهل البصرة بقطع سداد المسحب والصلال ليعود الجزء الشرقي من "هور الحمّار" مترعاً بالمياه، ولم يتوان أهل ميسان برفع سداد جداول الحسيجي، وأم الطوس، والزبير، لتصدح أرجاء "هور الحويزة" ثانيةً بالحياة.
هذا المشهد المتدفق بالمياه والحياة، يواصل المهندس الأسدي رسم ملامحه، موضحا "هكذا توالت الجهود لاستعادة إغمار الأهوار الوسطى وهور الحمّار الغربي في نهاية عام 2003 وآذار 2004 على التوالي. ولم ينتظر السكان المحليون السلطات الجديدة والحكومات الوليدة بإعطائهم الإذن من أجل استعادة المشهد المائي الجميل لأهوارهم، بل قاموا بما يجب القيام به بتحقيق هدف نبيل وعزيز على قلوبهم، هدف استعادة الفردوس الذي فقدوه".
الماء يبارك أور وأريدو وأوروك
وينقلنا الأسدي إلى أجواء العمل ابتداء من حزيران 2003 كـ"ناشطين بيئيين ومهتمين مهنيين بالموارد المائية والتنوع الأحيائي والهوية الثقافية لأبناء الأهوار وجذورهم الموغلة في القدم، حيث لا تبعد جغرافيا مستوطناتهم عن أور وأريدو وأوروك كثيراً، بل أن الأشن (جمع يشن، وهي مجموع البيوت التي يمر بها جدول مائي) التاريخية العديدة تتوزع بين مسارب المياه وقامات القصب في كل مكان من الأهوار"، لتتكون في العاشر من نيسان/أبريل 2004 منظمة "طبيعة العراق"، كمنظمة مجتمع مدني تعنى ببيئة الأهوار والأراضي الرطبة وثقافة وموروثات سكانها".
وعلى مدى الأعوام المنصرمة أشركت المنظمة ضمن فرق مسح ودراسة وتقييم بيئي مهندسي هايدروليك وبيئة وبايولوجيي أسماك ونباتات وقاعيات، ومعماريين في عمل بانورامي ضمن الأهوار العراقية. فكان مشروع الموائل والمراقبة البيئية للأهوار، ومشروع تأثير مياه المصب العام على تغذية "هور غليويين". ومشروع إدارة "هور الحويزة" وتصميم القرى المائية، ووضع خطة إدارة المتنزة الوطني في الأهوار الوسطى، وغيرها مما يعد مثالاً على التعاون المعرفي متعدد الألوان.
الملاذ الآمن للتنوع والمشهد الأثري الرافديني
وبشأن ملف الأهوار الذي قدم لمنظمة اليونسكو لغرض تسجيله على لائحة التراث العالمي، فقد قامت منظمة "طبيعة العراق" بتقديم معلومات مهمة، فالأسدي يوضح "شاركنا في عضوية اللجان المحلية الداعمة للملف، وكذلك في اللجنة التنفيذية التي شكلت لمتابعة العمل. وأقمنا معارض للصناعات الفلكلورية والصور الفوتوغرافية دعماً للتسجيل. وكان لنا دور في عضوية الوفد العراقي في اجتماعات اليونسكو بإسطنبول في تموز/يوليو 2016 والذي توج بالتصويت بالأجماع على قبول (أهوار جنوبي العراق: الملاذ الآمن للتنوع الأحيائي والمشهد الأثري من مدن بلاد الرافدين) ضمن مواقع التراث العالمي".
مع جهد لافت للمنظمة وللدؤوب فيها جاسم الأسدي، وعماده التواصل مع الصحافة المحلية والعربية والأجنبية في التعريف بأهوار العراق امتد عبر "الحرة"، "بي بي سي"، مجلة "دير شبيغل" الألمانية، قنوات "ناشينال جيوغرافيك" ومجلتها الشهيرة، قناة "فوكس نيوز"، صحيفة "نيويورك تايمز"، وعشرات الصحف والمنابر الإعلامية الدولية، إلا أنه يراهن على المستقبل "ستكون الخطوات القادمة مهمة في ترسيخ السياحة المستدامة على صعيد التخطيط وإدارة الأهوار".
الصورة الأولى: الأسدي في واحدة من جولاته العملية داخل الأهوار
الصورة الرئيسية: مشهد بانورامي لأحد الأهوار العراقية/من صفحة المهندس جاسم الأسدي وتنشر بإذن منه