بقلم وميض القصاب:

يعد العنف الأسري واحداً من أكثر الجرائم المسكوت عنها في العراق والشرق الأوسط. وتبذل مؤسسات المجتمع المدني في العراق جهودا مضنية للفت أنظار الحكومات إلى تنامي هذه الظاهرة، وذلك عبر حراك يهدف لحض الحكومات على تشريع قانون حماية الأسرة لتجريم العنف ضد المرأة والطفل، فهما الأكثر تعرضا للعنف حسب محاكم الأسرة في العراق التي تشير إلى أن النساء هن الضحايا في 90 في المئة من القضايا المستلمة.

ورغم الجهود المدنية القانونية والنسائية، لا تزال بعض القوى ترى أن هكذا قانون لا يتماشى مع أعراف المجتمع المحافظ وموروثه الاجتماعي، لتتجسد لدينا نقطة خلاف أزلية لصدام الشرائع مع الموروث القبلي.

اقرأ أيضاً:

بالصور… آثار سنجار التي دمرها داعش

مواطنون عراقيون: الصراعات الدينية مرآة للسياسة

 فالعنف في مجتمعنا يستند في كثير من الأحيان إلى نص ديني لتبرير عنف الرجل لفرض القوامة والتربية. ومن يدافع عن العنف يقدم نصوصاً دينية تبرر استعمال الضرب كأحد وسائل التربية وتنظيم الأسرة. ويستند أيضاً إلى تفسير مفاده أن الضرب معناه اللغوي هو الهجر كوسيلة للضغط لحين حل النزاع العائلي، أو أنه ضرب رمزي بعصا بحجم السواك كمعنى نفسي، مستندين إلى نصوص تدعو للتراحم وحسن العشرة وتنهى عن الإيذاء الجسدي. كلا الخصمين يستشهدان بأدلة وروايات عن حسن أو سوء العشرة في التراث الإسلامي.

 الواقع أن العنف الأسري منتشر في مجتمعاتنا. وجذوره تعود لهيكلية العائلة القبلية القديمة، التي تعتمد على هيمنة الذكر على مقدرات حياة المحيطين به وخصوصا الضعفاء، النساء والأطفال.

أشار رجال الدين في ورشة عقدت مؤخرا في محافظة كركوك إلى أن الأعراف الاجتماعية استغلت التفسير الديني لترسخ مفاهيمها. فالعائلة نموذج مصغر للقبيلة في مجتمعنا. وقائد القبيلة حريص على توزيع الأدوار فيها بما يضمن هيمنته على صنع القرار. ولأن القيادة ذكورية، فإن من المفيد أن يكون التفسير الأكثر انتشارا يعتمد على ترجمة تمنح السلطة والقوة بيد القائد، مقارنة بتأويل أقل انتشاراً يجعل القوامة والرأي أكثر مشاركة.

العنف يستمد شرعيته من الموروث. فهو حالة تكرارها مقبول والسكوت عنها من احترام الخصوصية. ولن تتدخل قوى القبيلة الأخرى سوى في حالات وقوع ضرر قد يسيء لشكل العائلة ومكانتها أمام أصهارها. والعنف كوسيلة مقبولة للتربية يجعل الجيل أكثر تقبلا للعنف. فالعنف يغير طريقة تعامل المخ مع المشاكل التي تواجهه، وتجعل مناطق المتعة والاستمتاع تختلف في تحفيزها عن المخ الأقل تعرضاً إلى العنف.

الطبيعة العنيفة جزء مهم في تشكيل شخصية الفرد. فالأم التي تتعرض للعنف لن تجد مانعاً في أن تنقل هذا العنف إلى الأطفال لفظيا أو جسديا. ولن تجد غضاضة في أن تطلب من أبنائها أن يتعاملوا بعنف مع زوجاتهم، وتخفف عن بناتها بالتقليل من أهمية تعرضهن للعنف. فالفكرة العامة أن العنف جزء من هويتنا الاجتماعية، طالما كان هناك شرعية له في العرف. من نحن لنجادلها؟

يميل الكثيرون إلى تعميم فكرة ارتباط العنف الديني بنشوء النزعة الإرهابية. لكن النظرة الفردية لكل حالة من معتنقي الإرهاب ستجعلنا نلمح مشاكل أسرية وتربوية تحركه نحو تقبل استعمال العنف كوسيلة للتعبير عن أفكاره. فمن يرى الموت والدمار حالة عامة يومية ويعاني الإساءة في حياته العامة والخاصة، سيكون أكثر قدرة على إعادة تصنيع هذا العنف. وأولئك الذين نشأوا في بيئة مسالمة فهناك جذور لتعرضهم للإساءة، كحالات التنمر ضد الأطفال من أصول مهاجرة أو فشل الاندماج بسبب تمزق الطفل بين ثقافة تُدين العنف في الخارج وثقافة القبيلة في المنزل المهاجرة مع والديه.

العنف في التربية يلغي الشعور بالرحمة ويزيد التلذذ بتعذيب الأخر. ونرى نزعات سادية لدى مرتكبي الجرائم المتسلسلة والإبادة تعود أصولها لتاريخ طفولة تشبّع بالإساءة والتعنيف.

تحديات مجتمعنا اليوم على أصعدة الأمن والاقتصاد تقول إن مشاكل التطرف والإرهاب لها جذور داخل مجتمعنا، و التربية لها دور في تقبل الآخر والتعايش. واحترام المرأة كجزء حيوي في الحياة يتطلب أن نحارب تهميشها والإساءة لها، ويجعل من تشريع قوانين لحمايتها وحماية أطفالها مهمة أساسية مثلها مثل مكافحة الإرهاب، وتأهيل مؤسسات لمعالجة قضايا الأسرة عبر ورش وعلاج نفسي وتربوي، ودفع النقاش حول شرعية نصوص العنف الأسري والوصول لتفسير موحد. ينبغي علينا تحقيق كل ذلك لو أردنا أن نبني مجتمعات تنبذ الإرهاب وتطرح نموذجاً مشرفاً لتراثنا.

عن الكاتب: وميض القصاب، كاتب وباحث عراقي. حاصل على شهادات دولية في مجال حل النزاعات وبناء السلام. له عدد من الكتابات المنشورة في مواقع مختلفة.

لمتابعة الكاتب على تويتر إضغط هنا، وعلى فيسبوك إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".