الجزائر – بقلم أميل عمراوي:
ربّما لم ينجح الكثير منّا في تحقيق أمنيات الصبا بسبب أخطاء المراهقة أو الرسوب المتكرر أمام العقبات التي تعترض طريق النجاح أو ببساطة لسوء التدبير الذي يرهن مستقبلنا بالكامل.
محمد جربال جزائري، في الـ44 من عمره اليوم، ضيّع فرصة الظفر بمنصب عمل يليق بثقافته العميقة وجديته في التعامل مع مسائل الحياة ليس بسبب تعثره بالمشوار الدراسي أو ضعف تحكمه في مجال الصيدلة الذي يحبه، فقد التحق بالجامعة بمعدل يسمح له بالتسجيل في أرقى المعاهد والكليات. لكن حصوله على الباكالوريوس سنة 1992 تزامن مع تصاعد العمليات الإرهابية وتهاوي أحلام العديد من شباب الجزائر في تحقيق الذات.
يحكي محمد لموقع (إرفع صوتك) كيف غيّر الإرهاب وجهته بعدما كان شابا مفعما بالحياة يأمل بالحصول على شهادة جامعية تتيح له العمل بصيدليته الخاصة والتي كان ينوي فتحها مباشرة بعد التخرج بمساعدة أبيه.
"ليتني قتلت معهما ولم أغادر مدرجات الجامعة، أقسم أنني أفضّل لو قتلوني"، يقول عن مقتل أبيه وأخيه.
تعابير وجه محمد تنم عن أسى عميق يصاحبه منذ سنوات. وهو يصافحك، لا يكاد ينظر إليك محاولا التخفي بنظرات جانبية تفاديا لما قد تترجمه عيناك من شفقة وتفهم تجاه هذا الرجل الذي لا يكاد يغفل عن محنته التي أصابته.
صراعٌ أحمق
"ليس العيب أن تضيع فرصة عمرك ما لم يتدخل في ذلك أي شخص آخر، لكن أن يتصرف آخر في مستقبلك يشعرك بالضعف والأسى طوال سنين حياتك المتبقية".
يقول محمد إن الإرهابيين اعترضوا سيارة أبيه وأخيه في نيسان/أبريل 1994 وهما في طريق العودة إلى البيت. ويتذكر الرجل كيف انهارت أمه لما بلغهم خبر ذبح الأب والإبن ليلاً في حاجز مزيف بين ولاية البليدة والعاصمة.
"كنت أذاكر محاضراتي في غرفتي لما سمعت صراخ أمي وأختي الصغرى، حينها خرجت مسرعا، ولا أتذكر أنني قد شعرت بشيء بعدها حتى انتهت مراسم الدفن".
وبما أن محمّد أصبح الرجل الوحيد في البيت، قرر ترك الدراسة بالجامعة والانضمام لصفوف الحرس البلدي لإعالة العائلة وحمايتها على الرغم من إصرار أمه على إكمالها حتى النهاية (ثلاث سنوات أخرى)، لكن نية محمد لم تكن كذلك في حقيقة الأمر كما أسرّ لموقع (إرفع صوتك).
"نعم، لم يكن بوسعي حينها البوح بأنني قررت الثأر لأبي وأخي، لأنه كان بوسعي بحكم مستواي الانضمام لصفوف الجيش وليس للحرس البلدي".
"لماذا لم أتزوج برأيك؟"
خلال روايته، لم يتوقف الرجل عن إشعال السيجارة تلو الأخرى. وحين لم يفعل، كان يعضّ على أظافره، وكأنه متوجس من أمر قد يحدث، علامات القلق لا تكاد تغادره.
ويبرر محمد كل ذلك بالقول "لم أعد أعرف نفسي، لماذا لم أتزوج برأيك؟".
لما سمع آنذاك بالطريقة التي اغتال الإرهابيون بها أباه وأخاه، زادت حدة أزمته النفسية. "لقد عذب الإرهابيون أخي أمام أبي ليتنازل لهم ويعطيهم مبالغ معتبرة حيث كان تاجرا في ذاك الوقت. وحين رفض ذبحوا أخي أمامه وقطعوا يديه أمام أعينه ثم ذبحوه هو الآخر".
يؤكد محمد أنه اختار الانضمام للحرس البلدي، لأنه لم يكن يعلم أن أزمة الجزائر ستطول. "لم أقدر الأمر جيدا، كنت أعتقد أن المسألة تتعلق بأشهر معدودات فقط ".
طمعا في العودة يوما ما
تفاجأنا لما قطع الرجل حديثه إلينا ليدخل غرفته، محضرا بيديه كراريس وكتب قديمة ليتبين أنها مجموعة محاضرات كان يراجعها بين الفينة والأخرى. "لقد صمدت هذه الأوراق أمام ظلامية سنين الإرهاب. احتفظت بها بعناية فائقة.. كنت أنوي العودة للجامعة. كثيرا ما تابعت نشاطات زملائي لأنني كنت أطمع في العودة".
بصوت خافت حينا وبصوت مرتفع حينا آخر، يؤكد محمد أنه وخلال دوريات التمشيط والاستطلاع التي كان يقودها، تبين له أنه دخل بسبب الإرهاب في دوامة عنف لم يعرفها ولم يتخيلها قط. "كثيرا ما أخطأت في حق عوائل المجرمين بسبب ما كان يفعله أبناؤهم بالجزائريين. أصبحت عنيفا لا آبه بأي شيء سوى قتل الإرهابيين مهما كلفني الأمر".
شخص آخر
في نهاية حديثنا له، تركنا محمد ولم يرد الجواب حول سؤالنا "هل استطعت التخلص من شعور الثأر بسبب تضييعك الدراسة وموت الأب والأخ؟".
محمد جربال اليوم شخص آخر كما يصف نفسه. "لا أرى أي أفق، أنا لا أعمل ولا أفكر حتى في التعرف على فتاة قصد الزواج وتحقيق انطلاقة جديدة كما تصر أمي على القول كلما دخلت علي الغرفة".
ويؤكد الرجل بحسرة كبيرة أنه لم يعد يفكر في الدراسة ولا حتى العمل بعدما تراجعت العمليات الإرهابية بالجزائر.
*الصورة: "لا أرى أي أفق"/Shutterstock
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659