حارث
حارث

بقلم حارث حسن:

في السنوات الأخيرة، تصاعد الجدل بشأن الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية في مواجهة التطرف الإسلاموي والحركات الجهادية.

في العام 2007، صدر عن (مؤسسة راند)، التي تقدم استشارات للمؤسسات الحكومية الأميركية، تقرير يدعو إلى بناء ودعم "الشبكات المعتدلة" في العالم الإسلامي، والتي تضم تيارات ليبرالية ومنظمات مجتمع مدني، فضلاً عن الهيئات الإسلامية التقليدية والطرق الصوفية. وبينما رأى كثيرون أن التيارات العلمانية ليست لديها حظوظ كبيرة في مواجهة التيار الإسلاموي ما لم تستند على أجهزة الدولة القمعية (كما تمثل في التجربة المصرية)، فإن للتدين التقليدي غير المسيّس فرصة أكبر في طرح نموذج معتدل للإسلام يُشبع الحاجات الروحية للأفراد والمجتمع من دون أن ينتج حركات راديكالية عنفية تسعى للتغيير الجذري وتستخدم "العنف المقدس" لغايات سياسية.

اقرأ أيضاً:

عراقي ينادي عبر (إرفع صوتك): أغيثوا ضحايا الإرهاب وذويهم

لماذا أكثرية جرائم داعش ارتُكبت بحق السنّة؟

لقي هذا الطرح رواجأ متزايداً. وتشكلت على هامشه حركة ثقافية تسعى لبعث الطابع الروحاني للإسلام. بينما اتجه بعض الدبلوماسيين الغربيين إلى محاولة فتح قنوات التواصل مع شيوخ وزعامات الطرق الصوفية، كما حصل في المغرب مثلاً.

لكن هذا الاتجاه قوبل بالتحفظ وبالنقد أحياناً من عدة جهات. فبعض الباحثين جادل أن الغرب أخذ يبتدع صورة غير تاريخية ومبسطة عن وجود "إسلام صوفي" يمكنه أن يحد من اندفاع "الإسلام السلفي" وينتج اعتدالاً في الصيغ السائدة لفهم وممارسة الدين الإسلامي. وأن هذه الصورة "المختلقة " لا تعكس التاريخ الحقيقي للعالم الإسلامي والتنوع الشديد في داخل هذين المنهجين الدينيين، الصوفي والسلفي، وكذلك وجود تيارات تعتبر نفسها صوفية وسلفية في الوقت نفسه. كذلك فإن معظم الحركات المناوئة للاستعمار، كالمهدوية والسنوسية والقادرية، كانت تقودها زعامات محلية صوفية. بينما لم يكن التيار السلفي على الدوام تياراً عنيفاً يقوم على الراديكالية السياسية، بل إن السلفية الجهادية بشكلها المعاصر هي صيغة منشقة عن السلفية التقليدية التي توجد فيها مدارس لا تميل إلى العنف.

لايعني ذلك عدم وجود تمايز بين إسلام معتدل وسلمي وغير تبشيري، تقولبه ظروف البيئة المحلية واحتياجاتها، وبين إسلام أيديولوجي معولم وتبشيري وعنيف تجسده الحركات الجهادية اليوم. لكن ما يركز عليه النقد الموجه لثنائية صوفي/سلفي، هو أن هذه الثنائية شديدة التبسيط وتوحي بأن مصدر التطرف الوحيد هو الاختلاف في النهج العقائدي، أو أن هذا الاختلاف ليس له علاقة بعوامل وظروف غير دينية أو ليست دينية في جوهرها.

هذا ما ذهبت إليه مجموعة من الباحثين من مركز دراسات الدين والصراع في جامعة أريزونا الولاية، في مقالة مشتركة عن مغالطة "العنف السلفي والتسامح الصوفي"، مجادلين أن المنهج الديني لا يصلح كأساس لتحديد ما إذا كانت جماعة معينة تميل إلى العنف أو إلى السلم، وأن الانتماء للصوفية أو السلفية ليس بحد ذاته محركا أساسياً لقبول أو رفض العنف ضد الآخر، لكن هذا الانتماء قد يستخدم لشرعنة وتبريرميل مسبق تجاه قبول أو رفض العنف، وأنه بقدر تعلق الأمر بالجماعات المتطرفة في عنفها فإن الاتجاه الديني قد يصبح أحياناً أداة عقائدية لتبرير شيطنة عدو ما ، وفي أحيان أخرى لتعزيز التسامح والقبول بالتعددية الدينية.

المسألة الأخرى الجديرة بالاهتمام هي العلاقة بين محاولة الترويج لاتجاه ديني معين، وبين ظهور الحركات الراديكالية. وقد ظهر في العقدين الأخيرين اتجاه في الدراسات الدينية يؤكد على عنصر "العرض" بدلأً من عنصر "الطلب". أي أنه يعتقد بأن صيغة دينية معينة من تفسير وتداول العقيدة تصبح أكثر قوة حينما يتم ترويجها بشكل واسع النطاق في سوق السلع الدينية. وفي الغالب ينظر إلى انتشار التيار السلفي باعتباره نتيجة لتوظيف الثروة النفطية الهائلة في السعودية لبناء مدارس في مختلف أرجاء العالم الإسلامي تروّج للفكر الوهابي والتعاليم السلفية.

بهذا المعنى، فإن محاولة نشر صيغة أكثر اعتدالا للإسلام عن طريق دعم المؤسسات الدينية التقليدية ونشر الكتب التي تجسد الإسلام الروحاني أو الفلسفي على حساب الإسلام الأيديولوجي أو الفقهي، تبدو محاولة مفهومة للتأثير على ما مطروح في سوق السلع الدينية. مع ذلك، ينبغي عدم الركون لهذا التوجه باعتباره وصفة مثالية لمواجهة الإسلام الراديكالي. فكما أثبتت عدة تجارب حديثة، فإن الصيغ التقليدية من التدين واجهت رفضاً من قطاعات واسعة من الشباب منذ منتصف القرن العشرين لأنه نظر إليها على نطاق واسع بأنها صيغ قديمة ومنعزلة عن الواقع الاجتماعي وعن الحاجة لعقيدة تعمل على التغيير الاجتماعي ومحاربة الفساد ونشر العدالة. وفي الحقيقة، إن انتشار تيارات الإسلام السياسي اقترن بمحاولتها تحدي المؤسسات الدينية التقليدية المتهمة بالكهنوتية وسعيها لتقديم الإسلام كأيديولوجية سياسية معنية بالعدالة، كما يمكن تلمسه بسهولة في فكر وخطابات قادة الإسلام السياسي في المنطقة كـ حسن البنا وسيد قطب والخميني ومحمد باقر الصدر.

إن ظهور الإسلام السياسي بصيغته الحديثة، والذي تولدت عنه لاحقا السلفية الجهادية (بتلاقح بين النهج السلفي والنهج الحركي للإخوان المسلمين) هو نتاج لعملية معقدة بأبعاد سياسية واجتماعية ودينية. وأحد عناصرها هو تفكك الإسلام المؤسسي وأزمة الهوية التي نتجت عن تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية لايمكن التعامل مع إفرازاتها عبر نهج يركز حصراً على "العقيدة" ويتجاهل السياق التاريخي الذي يسمح ببروز أو أفول الأفكار والعقائد والحركات.

عن الكاتب: حارث حسن، كاتب وباحث عراقي، يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، وزميل جامعة براندايز، ومتخصص بقضايا العراق والشرق الأوسط، مع التركيز على مواضيع الدولة والعلمنة والهوية وعلاقة الدين بالسياسة.

لمتابعة حارث على فيسبوك إضغط هنا. وعلى تويتر إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".