بقلم حسن عبّاس:

تشيع اليوم ثقافة الخلاف والاختلاف بين المسلمين السنّة وبين الشيعة، وصار شائعاً أن نرى تقاذفهم بأبشع الأوصاف. لكن الحال لم يكن كذلك دائماً. ففي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، شهدت القاهرة تجربة رائدة خلصت إلى أنه يجوز للمسلم التعبّد بالمذاهب الإسلامية الأربعة أو بالمذهب الشيعي أو الزيدي.

هي أبرز تجارب التقريب بين المذاهب والتي بدأت في نهاية أربعينيات القرن الماضي، مع تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، عام 1947، وهي هيئة عنيت بالتقريب بين المذاهب الإسلامية وضمّت عشرين عالماً كبيراً سنّة وشيعة وزيديين.

ولعلّ أبرز ما نتج عن تلك المناخات التي سادتها روح التحاور والتقارب الفتوى التي أصدرها شيخ الأزهر محمود شلتوت وأجاز فيها للمسلم التعبّد بأي مذهب من مذاهب السنّة الأربعة أو بمذهب الشيعة الجعفرية أو الشيعة الزيدية.

مناخات التقريب

لم تكن تجربة التقريب المذكورة فولكلورية أو لالتقاط الصور بل شهدت عملاً كبيراً أثمر عدّة إنجازات.

فقد خرجت من رحمها مجلة "رسالة الإسلام"، التي كانت تهدف إلى إيجاد جو جديد يساعد على تقبّل فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، واستمر صدورها 14 عاماً وأثارت حفيظة الكثير من المتزمتين.

كما اتفق العلماء المشاركون في الحوارات على اعتماد تفسير موحّد للقرآن هو "مجمع البيان في تفسير القرآن" للشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي.

ومن الخطوات اللافتة التي قامت بها الدار طباعة وتوزيع جدول مفصل عن أحكام الحج بحسب المذاهب الستّة، وذلك كدليل يُقدّم إلى المسلمين عن أن ما يفرّق بعضهم عن بعض ليس كبيراً.

الفتوى الشهيرة

اهتم الشيخ محمود شلتوت بالدعوة إلى إصلاح الأزهر، وخاض سجالات مع المحافظين، ثم عُيّن شيخاً للأزهر عام 1958، وشغل بعد ذلك عضوية مجمع البحوث الإسلامية منذ عام 1962 وتوفي عام 1963.

وكان الشيخ أحد مؤسسي "دار التقريب" وأدخل دراسة المذاهب في كليات الأزهر الشريف، ونال لجهوده لقب "إمام التوفيق والتقريب" الذي أطلقه عليه الأديب عباس محمود العقاد.

ولكنّ أبرز ما قام به شلتوت كان إصداره فتوى تجيز التعبّد بالمذهب الشيعي.

فقد سأل أحدهم الشيخ: "إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عبادته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلّد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذاهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذاهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية مثلًا؟".

فأجاب الشيخ:

"1ـ إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معيّن، بل نقول إن لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادئ ذي بدء مذهباً من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

2ـ إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، ما دام موافقاً للكتاب والسنّة النبوية المطهرة، وإجماع العلماء.

3ـ ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذهب معيّن، فما كان دين الله، ولا شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات".

وعن هذه الخطوة، قال الشيخ إنه "قرّت بهذه الفتوى عيون المؤمنين المخلصين الذين لا هدف لهم إلا الحق والألفة ومصلحة الأمة، وظلت تتوارد الأسئلة والمشاورات والمجادلات في شأنها وأنا مؤمن بصحتها ثابت على فكرتها في الحين بعد الحين".

وأشار إلى أن الأئمة الأعلام في تاريخ الفقه الإسلامي "كانوا يترفعون عن العصبية الضيقة ويربئون بدين الله وشريعته عن الجمود والخمول، فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق الذي لا مرية فيه وأن على سائر الناس أن يتبعوه".

الفتنة والسياسة

مَن ينظر في تلك الحقبة وفي ما وصلت إليه أحوال السنّة والشيعة اليوم في علاقتهم ببعض سيتساءل: لماذا؟

قد تكون الإجابة في مقالة كتبها الشيخ محمد الغزالي بعنوان "على أوائل الطريق" ونشرها في مجلة "رسالة الإسلام". وفيها يقول: "الحقيقة أن هناك أناساً لا يتقون الله في دينهم ولا في أمتهم، أطلقوا غيوماً داكنة من الإشاعات والظنون، كانت العملة الدفينة في تمزيق الشمل، وملء الرؤوس بطائفة من التصورات الباطلة والمشاعر المنحرفة… وجماهير العامة، للأسف الشديد، ضحايا لتجاذب متبادل لا أساس له، ويوم ينكشف الغطاء عن الحقيقة، سيحزن كثيرون لما أرسلوا من أحكام وأطلقوا من عبارات".

وقد تكون في ما كتبه الشيخ محمد تقي القمّي وهو أول الساعين إلى إنشاء "دار التقريب": "إن الفرقة بين المسلمين ظلت غذاءً مناسباً للحكم والحكام قروناً".

والأرجح أن السبب هو كلا الأمرين، المصالح السياسية والأفكار المغلوطة.

*الصورة: مسلمون من جنسيات وأعراق مختلفة في مسجد الأزهر/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك
الخاطفون عمدوا لتحطيم طائرتين في الطوابق العليا من البرجين الشمالي والجنوبي لمجمع مركز التجارة العالمي في نيويورك

بعد 23 عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، يواصل ناجون وعائلات الضحايا معركة قانونية طويلة لمساءلة السعودية التي يقولون إن مسؤوليها لعبوا دورا في التخطيط للهجمات الدامية.

وينتظر الناجون وعائلات الضحايا قرارا هاما لقاضٍ فيدرالي في نيويورك بشأن قضية اتهام السعودية بدعم خاطفي أربع طائرات شاركت بالهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر 2001.

وتنفي المملكة هذه المزاعم بقوة.

ويحيي مسؤولون سياسيون وعسكريون ومواطنون عاديون، الأربعاء، الذكرى الـ23 للهجمات بفعاليات خاصة في نيويورك والعاصمة واشنطن وعدد من المدن الأميركية الأخرى.

وفي جلسة استماع عقدت أمام المحكمة الجزئية في مانهاتن في نهاية يوليو الماضي، للنظر في طلب السعودية إسقاط القضية، عرض محامو الضحايا ما قالوا إنها أدلة عن شبكة الدعم التي تضم مسؤولين سعوديين عملوا في الولايات المتحدة، والتي سهلت تحركات خاطفي الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، والبنتاغون في فيرجينيا، وسقطت واحدة في بنسلفانيا.

وقال محامي المدعين، جافين سيمبسون، خلال جلسة 31 يوليو إن الشبكة السرية "أنشأتها ومولتها وأدارتها ودعمتها السعودية والمنظمات التابعة لها والدبلوماسيون داخل الولايات المتحدة".

وبعد انتهاء الجلسة، طالب أكثر من ثلاثة آلاف شخص من عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر كلا من الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، ونائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، بمعارضة أي اتفاق للسلام بالشرق الأوسط مع السعودية قبل أن تحاسِب الحكومة الأميركية المملكة على أي دور محتمل في هجمات عام 2001

وضمت المجموعة المسؤولة عن هجمات سبتمبر 19 شخصا من "تنظيم القاعدة"، بينهم 15 سعوديا، إلا أن الروابط المحتملة بين الحكومة السعودية والإرهابيين ظلت محل تساؤلات لسنوات.

ونفت السعودية أي تورط حكومي في الهجمات.

ولطالما قالت الولايات المتحدة إن الرياض لم يكن له أي دور وإن "تنظيم القاعدة" تصرف بمفرده.

وفي 2016، أصدر الكونغرس تشريع "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي سمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة السعودية، وهو ما مهد الطريق أمام مطالبات قضائية عدة من عائلات الضحايا بالحصول على تعويضات من المملكة.

وتنتظر عائلات الضحايا قرارا من قاضي المحكمة الجزئية في مانهاتن، جورج دانيلز، بشأن ما إذا كان بالإمكان المضي قدما في القضية، وهو ما قد يفتح المجال أمام ظهور المزيد من الأدلة، وفق "سي أن أن".

وفي جلسة يوليو، اتهم محامو أهالي الضحايا مواطنين سعوديين اثنين بأنها دعما اثنين من خاطفي الطائرات، وهما نواف الحازمي وخالد المحضار، بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000.

وقالوا إن الدبلوماسي السعودي، فهد الثميري، الذي كان يعمل في القنصلية السعودية في لوس أنجلوس، كان جهة الاتصال الرئيسية بين "تنظيم القاعدة" والخاطفين الاثنين في لوس أنجلوس، وفقا لملفات المدعين أمام المحكمة.

وقالوا إن الثميري عمل مع سعودي آخر هو عمر البيومي، في دعم الخاطفين الاثنين أثناء وجودهما في كاليفورنيا، وفقا لملفات المحكمة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رفعت السرية عن مذكرة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) في ديسمبر 2021، كشفت عن شكوك قوية بشأن ارتباط السعودية رسميا بالخاطفين الذين نفّذوا اعتداءات 11 سبتمبر، لكنها لم تتمكن من تقديم الإثبات الذي كانت تنتظره العائلات التي تقاضي الرياض.

وكشفت المذكرة عن وجود ارتباطات بين البيومي، الذي كان حينها طالبا، ونواف الحازمي وخالد المحضار.

وساعد البيومي، الذي كان طالبا وعمل أيضا مع مقاول سعودي، الخاطفين عند وصولهما إلى البلاد، وفقا لتقرير لجنة 11 سبتمبر 2004. وذكر التقرير في ذلك الوقت أنه ساعدهما في العثور على شقة في سان دييغو وفتح حساب مصرفي ووقع على عقد إيجارهما.

وقد دعمت المعلومات التي أصدرها "أف بي آي" في وقت لاحق ادعاء المدعين بأن البيومي والثميري قاما بتنسيق شبكة الدعم في جنوب كاليفورنيا بتوجيه من مسؤولين سعوديين.

لكن تقرير عام 2004 قال إنه لم يجد أي دليل في ذلك الوقت على أن البيومي ساعد الخاطفين عن علم.

وأكدت المملكة أن البيومي كان طالبا وكان يتردد على مسجد في سان دييغو، وساعد بدون علم الخاطفين باعتبارهم قادمين جدد لا يجيدون الإنكليزية.

وفي جلسة الاستماع في يوليو، أثناء مناقشة اقتراح إسقاط الدعوى، ركز مايكل كيلوج، محامي السعودية، بشكل كبير على البيومي، قائلا إن أي مساعدة قدمها للخاطفين كانت "محدودة وبريئة تماما".

وتشير الأدلة التي أعدها محامو المدعين إلى أن البيومي التقى بمسؤول دبلوماسي سعودي في القنصلية قبل لقاء الخاطفين لأول مرة في مطعم في لوس أنجلوس، بعد أسبوعين من وصولهما إلى كاليفورنيا. وساعد البيومي في تسهيل انتقال الخاطفين من لوس أنجلوس إلى سان دييغو في غضون أيام من ذلك الاجتماع.

ويقول محامو المملكة إن البيومي التقى بالخاطفين بالصدفة في مطعم حلال بالقرب من مسجد معروف وكانت اتصالاته بهما "محدودة".

وقال محامي المملكة أيضا إنه لا يوجد دليل على أن الثميري فعل أي شيء لمساعدتهما، لكن محامي عائلات 11 سبتمبر قدم نتائج مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تفيد بأن الثميري كلف أحد المصلين في المسجد باستلام الخاطفين من المطار، وإحضارهما إليه عندما وصلا لأول مرة إلى لوس أنجلوس، في منتصف يناير 2000.

وفي إفادة عن بعد تم إجراؤها في هذه الدعوى القضائية في عام 2021، أقر البيومي بأنه ساعد الخاطفين على الاستقرار في سان دييغو بدون علم بنواياهم، وقال إنه لم يكن متورطا في الهجمات.

وتضمنت الأدلة المعروضة البيومي وهو يلتقط صورا في واشنطن العاصمة، على مدار عدة أيام في عام 1999، وقال المدعون إنها قام بالتقاط الصور بغية معرفة مداخل وخارج مبنى الكابيتول.

ولطالما اعتقد المسؤولون أن الكابيتول ربما كان الهدف الأصلي للطائرة التي تحطمت في بنسلفانيا.

من جانبهم، قال محامو المملكة ان البيومي كان مجرد سائح في إجازة عندما صور جولته في الكابيتول وزيارته لمسؤولي السفارة السعودية.

وفي الجلسة، شاهد القاضي دانييلز فيديو لجولته، ويسمع في الفيديو البيومي وهو يقول: "هؤلاء هم شياطين البيت الأبيض". ووصف محامي السعودية اللغة التي استخدمها بأنها "مؤسفة"، لكنه قال إنها أُخرجت عن سياقها. ورد القاضي بأن العبارة لا تتوافق مع سائح يزور "مبنى جميلا".

وتحدث أهالي الضحايا عن اتصالات هاتفية متكررة بين البيومي ومسؤولين سعوديين، خاصة خلال فترة مساعدته الحازمي والمحضار، وتحدثوا عن دفتر مكتوب يحتوي على معلومات اتصال لأكثر من 100 مسؤول حكومي سعودي.

وقال محامو المملكة إن وجود جهات الاتصالات هذه مرتبطة بدوره التطوعي في المسجد.

وبعد انتهاء جلسة الاستماع، أعلنت وزارة الدفاع عن صفقة إقرار بالذنب مع العقل المدبر المزعوم للهجمات، خالد شيخ محمد، واثنين آخرين من المعتقلين الآخرين معه في سجن غوانتانامو. ووافق هؤلاء على الاعتراف بالذنب بتهم التآمر مقابل الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وأثار إعلان صفقة الإقرار بالذنب ردود فعل قوية من أسر الضحايا بعد خروجهم من جلسة الاستماع.

وبعد يومين فقط، ألغى وزير الدفاع، لويد أوستن، صفقة الإقرار بالذنب في مذكرة مفاجئة وكتب أن "المسؤولية عن مثل هذا القرار يجب أن تقع على عاتقي".

وإلغاء الصفقة يعني إعادة "عقوبة الإعدام" لتصبح مطروحة مرة أخرى بحق هؤلاء.

لكن القضية أثارت جدلا قانونيا. ويقول محامون إن قرار أوستن غير قانوني.

ووسط هذا الجدل، تأمل أسر الضحايا أن تجلب لهم الدعوى القضائية المرفوعة على السعودية "العدالة التي كانوا يسعون إليها لأكثر من 20 عاما".