مشاركة من صديق (إرفع صوتك) توفيق هيشور:
على الرغم من كل هذا التيه الحضاري والانحدار الاقتصادي الذي تعيشه الجزائر، وفي ظل هذه الأزمة الخانقة التي سببها تهاوي أسعار النفط من جهة وسوس الفساد الذي نخر عميقا في جذع الدولة بدعم من منظومة قوانين تثقل كاهل المواطن البسيط وتزيد من حدة الصراع من جهة أخرى، لا تزال النخب في حالة جمود وركود كبيرين لا سيما فئة الكتاب والمؤلفين الجزائريين بدرجة أشد.
فلحد كتابة هذه السطور، لم نسمع بصدور كتاب له قيمة يشخص واقع الأزمة الحضارية المزمنة التي نعيشها ويقترح أفكارا ومشاريعا تخرجنا من زاوية التخلف إلى رحابة التقدم والنهضة. أو على الأقل نقرأ مؤلفا يحاكي الواقع وينوّر جمهور القراء بفضح ما يحدث من اختطاف للوطن ودفن للمواطن وحرياته باسم تشريعات التقشف وتجاوز الأزمة في حين تقر السلطة التشريعية لنفسها علاوات فلكية تندرج ضمن منطق شراء السلم الاجتماعي وضمان تمرير قوانين استبدادية تخنق المواطن البسيط وتزيد من معاناته.
أكثر من ذلك، لم نسمع عن اعتقال أي مؤلف أو مثقف في الجزائر، ليس لعلو سقف الحريات بل لجمود النخبة عن محاكاة واقع الشعب المرير وعزلتهم عن حياة عامة الناس، أو كما سماهم الوزير الأول الجزائري "بالفقافير"، مشكلا بذلك طفرة في حق اللغة لا تغتفر. فما سبب هذه اللافاعلية الإبداعية والبكم الطويل الذي أصاب المؤلفين؟ هل هو اليأس من التغيير أم الخوف من آلة الاستبداد أم الطمع في نيل بعض النقود لسد رمق العيش؟
أظن أن السبب وراء أفول النخب الجزائرية واعتزالها لحلبة الصراع الحضاري هو الخوف واليأس والجشع مجتمعين ولكل منهم جمهوره. فلليأس من التغيير جمهور عريض يلتحم بعمق مع تلك الطبقة المطحونة في عمق الجزائر، التي استسلمت للجلاد ولم تتحرر بعد من فوبيا العشرية السوداء ومشهد الموت وهو يجوب شوارع البهجة وبونة وتيهرت وكل أصقاع الجزائر العميقة.
هؤلاء خرسوا يأسا حينا وخوفا حينا آخر. لكنهم لم يبيعوا ذممهم وأقلامهم، بل قايضوها بالأمن. هم يعتقدون ذلك زاعمين، فسحبوا أقلامهم من ساحات النضال وغرسوها في صدورهم ساكتين ليقتات على ظهورهم أولئك الذين باعوا نفوسهم وأفكارهم ببعض البقشيش الرسمي الذي تمنحه وزارة الثقافة ويدعمه شيوخ السلطان بفتاوى تشريع الانبطاح وحرمة انتقاد السياسات الرسمية المتغولة. لتبقى فئة أخرى تلعن الحكومة في السر وتمجدها في العلن، يحول بينها وبين قول لا اختلاط غريب بين الجبن والطمع.
كل هذا الاستسلام من النخب جعل رفوف المكتبات خالية من تلك الكتب الثائرة على الفساد والمروجة لتحدي النهضة والازدهار، لتعج السجون بمعتقلين دفعهم الضغط المعيشي. ويتم التأطير الفكري إلى الصراخ في واد سحيق بأقصى الوطن أو بمرتفعات شبكات التواصل الاجتماعي الخاضعة للرقابة والمسائلة القانونية والتي تشهد حيوية وجرأة في الطرح من طرف المدونين.
هذه الجهود لن تكون كافية وحدها. ودليلي فيما أزعم ما خلده التاريخ وسننه. فكل ثورة نهضوية قامت رافقها كتابها وقصاصوها ومؤرخوها وباقي النخب الوطنية. فقد رافقت نهضة ماليزيا مثلا كتابات محاضير محمد ومنعت كتبه من السوق بل وأثارت جدلا واسعا عام 1972 لا سيما كتابه المعنون باسم "الأزمة المالاوية" الذي تناول فيه قضية التخلف الاقتصادي للعنصر المالاوي ودافع عن مبدأ تدخل الدولة للارتقاء بشأنه. وقد منع هذا الكتاب بقوة من التداول في ماليزيا آنذاك لأنه كان تحديا حقيقيا لدحض الأفكار الاستبدادية وفضح التعريفات المتعلقة بالدين والتربية والديموقراطية والشيوعية. بل كانت كتبه قاطبة توضح الخطوط العريضة لصورة كفاح ماليزيا من أجل نهضتها ومستلزمات هذا الكفاح الطموح من وقود فكري وهندسي بسيرورة واثقة نحو دولة ناهضة قوية العام 2020 نرى ثمارها اليوم.
في نفس المضمار، عرفت البوسنة في عز القمع الصربي والتآمر الأوربي اصطفافا نخبويا حصينا قاده الرئيس المفكر علي عزت بيجوفيست بترسانة مؤلفات جابهت ترسانة الغرب المسلحة على غرار كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" وكذا كتابه "هروبي إلى الحرية" وغيرها من المؤلفات التي ساهمت في حماية الشعب البوسني من الاقتلاع العقائدي أو الانعزال الكفاحي.
قد يقول القارئ أنني أعلل بنماذج ناجحة لثورات فكرية خالدة كان منطلقها الكتاب ورصانة النخب بحكامة التخطيط، في حين هناك ثورات فشلت رغم مرافقة نخبها لها.
أقول صحيح. فالثورة المصرية الأخيرة كانت مدعومة بكتاب ومفكرين كثيرين من شتى التيارات والأطروحات وعلى جميع أصعدة الكتابة، سواء سياسيا أو أدبيا خاصة ما تعلق بالأدب الثوري، فقد عرفت الساحة الثقافية المصرية عديد الكتب والروايات التي منعت لاحقا بعد فشل الثورة والتي صار طلبة الجامعات يستعينون بها في بحوثهم الأكاديمية لدراسة مدى تأثير النخب في المجتمعات العربية والعكس.
أكثر من ذلك، فثورتنا التحريرية كانت زاخرة بنخب وكتاب دعموا عضدها النضالي وخاضوا معركة الوعي ضد المستعمر الفرنسي، فنجد درر الشيخ عبد الحميد بن باديس والمجاهد البشير الإبراهيمي ونلامس لضى الثورة في أشعار الكبير مفدي زكرياء ونستشرف طموح وطن كبير في كتابات المفكر مالك بن نبي الذي أبدع في ابراز شروط نهضة الأمم والمجتمعات، والذي لا تزال مؤلفاته لم تجد رجال ميدان وأعين لتنفيذها واقعا ونقل رؤيته الحضارية إلى حياة عموم الناس.
ما أريد إيصاله أن عجلة الرقي ومضمار النهضة يجب أن ترسم معالمها النخب بشجاعة ووضوح، وأن ثقل التغيير بداية يقع على كاهل الكتاب قبل غيرهم. إنه واجب أولئك الذين لا يعبرون على أفكارهم على استحياء بل بشجاعة في مستوى تطلعات هذا الوطن القارة.
إن بداية نهضتنا تحتاج كتابا يحاكي واقعنا ويحرج صناع الفساد والاستبداد ليكسر جدار الصمت ويخلد عبارة يجب أن تحفظها النخب "الجزائر في المستوى". فلنكن نحن في مستوى الجزائر التي تعلو فوق الرؤوس والرؤساء.
عن الكاتب: توفيق هيشور، محامي وناشط حقوقي جزائري.
لمتابعة الكاتب على فيسبوك إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.