إحراق الكتب.. النار التي تحمي العقيدة
بحلول السنة 16 للهجرة، بسط المسلمون سيطرتهم على سائر بلاد فارس.
كانت فارس إمبراطورية عظيمة متواصلة منذ أكثر من 1000 عام. وكانت لعلوم الحساب والهندسة والفلسفة والفلك والمنطق والموسيقى (العلوم العقلية أو علوم الأوائل) عند الفرس مكانة خاصة.
بعد سقوط المدائن، عاصمة الإمبراطورية الساسانية، والتوغل في عمق فارس، وجد المسلمون أنفسهم أمام آلاف الكتب، والمكتبات، لم يعهدوها ولم يعهدوا ما بها من علوم. فبعث قائد الجيش الإسلامي سعد بن أبي وقاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة يستشيره.
ينقل ابن خلدون في مقدمته رد الخليفة. "فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا االله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا االله. فطرحوها في الماء أو في النار. وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا".
نار تحمي العقيدة
كان رد الخليفة الثاني، وهو صانع مؤسسات الدّولة الإسلاميّة، نابعا من الرغبة في حماية القرآن، كتاب الأمة المقدس، واقتناعه الشديد بأن المسلمين في غنى عما سواه.
في الواقع، وقف هاجس حماية القرآن ليس فقط أمام الاستفادة من علوم الفرس، بل وراء التردد في كتابة السنة نفسها. والأمثلة كثيرة حول إحراق أو إتلاف الصحابة لصحائف الأحاديث. عمر نفسه عزم في البداية أن يكتب السنن، ثم تراجع عن قراره وكتب إلى الأمصار: "من كان عنده شيء فليمحه".
بل إن كتابة القرآن شابها التردد ذاته. وتنقل المصادر التاريخية أن عمرا اقترح على الخليفة الأول أبي بكر جمع القرآن، فرد الأخير: "رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله". لكنه "استبصر ورجع إلى رأي عمر وأمر زيدا بن ثابت بجمعه" (ابن خلدون).
وحتى بعد جمع القرآن كاملا، في عهد الخليفة الثالث عثمان، استخدم الإحراق مجددا لحماية العقيدة.
وتشير القصة المعروفة إلى أن الخليفة عثمان وزع نسخ المصحف الذي جمعه على مختلف بقاع الدولة الإسلامية، ثم أحرق ما سواه. "وذلك ليجمع أمة محمد على قراءة واحدة خوفا عليها من مغبة الاختلاف والانقسام"، يقول خالد السعيد في كتابه "حرق الكتب: تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات".
بعد الاطمئنان إلى سلامة القرآن، انتقل المسلمون إلى تدوين السنة. وكانت كتب الرأي والكلام الضحية الجديدة. سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل: أكتب الرأي؟ فأجاب: لا تفعل عليك بالحديث والآثار.
هكذا، أحرقت كتب الرأي لحماية الحديث. أحيانا قام بذلك ملاك الكتب أو كتابها.
يقول ناصر الخزيمي في كتابه "حرق الكتب في التراث العربي": "في الفترات المبكرة من الإسلام استثني القرآن الكريم من هذا العداء، فدُوّن مصحف عثمان وأتلف ما عداه من المصاحف. ثم تطور الموقف، فاستثني تدوين السنة مع القرآن وكره ما عداه مثل كتب الرأي (الفقه المجرد) والتي استثنيت فيما بعد.. حتى شمل ذلك كتب الأدب والتاريخ واللغة".
لكن هذا لم يمنع أن يتم، خلال هذه الفترة المبكرة من عمر دولة الإسلامية (القرن الأول)، إحراق الكتب لأسباب سياسية محضة لا علاقة لها بالعقيدة.
ينقل الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان استحسن سنة 82 هجرية إحراق ابنه سليمان بن عبد الملك لكتاب يمدح أهل المدينة. وخشي الخليفة أن يطلع أهل الشام على الكتاب، الذي ألفه أبان بن عثمان بن عفان، حول فضائل أهل المدينة. وقال بوضوح إنه لا حاجة له في كتاب "يُعَرِّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها".
حرائق في الشرق والغرب
ظل نطاق إحراق الكتب محدودا في الدولة الأموية ثم العباسية. لكنه توسع بشكل ملفت في الأندلس والغرب الإسلامي، حيث وقعت عمليات إحراق شهيرة لمؤلفات كبار الفقهاء والمفكرين: ابن مسرة، ابن حزم، أبو حامد الغزالي، ابن رشد، لسان الدين بن الخطيب...إلخ.
ومن الخلفاء العباسيين المشهورين في هذا المجال: المهدي. يقول ناصر الخزيمي: "اشتهر عن المهدي شدته على الزنادقة، حتى استحدث ما يسمى بصاحب الزنادقة". كان يمتحنهم ويحرق كتبهم. وكان من ضحاياه شاعران عباسيان معروفان: بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس.
أما في الأندلس، فتحول إحراق الكتب إلى ما يشبه الظاهرة بسبب العداء الشديد للفلسفة بين الناس. يقول خالد السعيد: "ومما يدعو للعجب أن العداء للفلسفة والفلاسفة كان منبعه العوام لا الملوك والحكام. فملوك الأندلس وأمراؤها لم يلاحقوا الفلاسفة ولم يحرقوا كتبهم بغضا فيهم وإرهابا لهم، وإنما لجأوا إلى ذلك توددا للعوام وتزلفا".
وينقل السعيد عن أحمد المقري التلمساني صاحب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب": "إنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه. فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت".
ومن أمثلة من أحرقوا الكتب استرضاء "للعامة" المنصور بن أبي عامر حاجب الخليفة الأموي هشام المؤيد بالله (كان طفلا). يذكر صلاح الدين الصفدي، صاحب الوافي بالوفيات، أنه لما آلت إليه مقاليد الحكم، عمد إلى مكتبة الخليفة السابق المستنصر بالله و"أمر بإفراد ما فيها من كتب الأوائل، حاشا كتب الطب والحساب، وأمر بإحراقها، فأحرقت.. فعل ذلك تحببا إلى العوام وتقبيحا لرأي المستنصر".
أشار إلى هذه القصة أيضا ناصر الخزيمي في كتابه. ونقل خالد السعيد أن مكتبة المستنصر بلغت 400 ألف مجلد.
وفي الأندلس كذلك، أمر السلطان المرابطي علي بن يوسف (كان يحكم الأندلس انطلاقا من المغرب) بإحراق كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، فـ"أحرق بقرطبة على الجانب الغربي من رحبة المسجد بجلوده بعد إشباعه زيتا، بمحضر جماعة من أعيان الناس" (المعيار المعرب للونشريسي).
وجرى الإحراق بتوجيه من فقهاء الدولة المرابطية بعد إصدار قاضي الجماعة محمد بن حمدين فتوى بتكفير الغزالي بسبب ميولاته الصوفية والفلسفية.
واستمرت الحملة على كتاب الغزالي وكتابه "الإحياء" حتى بعد وفاة السلطان علي بن يوسف. فقد وجه ابنه تاشفين رسالة إلى عماله وقضاته يقول فيها: "فمتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة فإياكم وإياه، وخاصة، وفقكم الله، كتب أبي حامد الغزالي. فليتتبع أثرها وليقطع بالحرق المتتابع ضرها".
وفي قرطبة، وقعت محنة الفيلسوف المعروف ابن رشد. اتهم بالإلحاد وأحرقت كتبه، ثم نفي إلى المغرب حتى مات هناك.
وفي ساحة غرناطة سنة 773هـ، أحرقت كتب الوزير والأديب لسان الدين بن الخطيب، وكان أغلبها في العقائد والأخلاق. ولقي صاحب "الإحاطة في أخبار غرناطة" نهاية مأساوية، فقد قتل خنقا في سجنه بالمغرب الذي فر إليه وأحرقت جثته.
صراع المذاهب
ينقل الوزير جمال الدين القفطى في كتابه "إنباه الرواة على أنباه النحاة" واقعة طريفة بطلها الحسن بن أحمد الهمداني، المعروف بابن الحائك.
ألف ابن الحائك كتابا من 10 أجزاء عن عجائب اليمن وأهله وقبائله، وأسماه "الإكليل". ولأن الكتاب يشتمل على عيوب كثير من القبائل، فقد عمد أهلها إلى إتلاف أية نسخة وقعت عليها أيديهم، حتى كاد الكتاب يختفي تماما.
لكن هذه الواقعة استثنائية، فنادرا ما لجأت القبائل إلى إحراق أو إتلاف كتب تذمها. في المقابل، مثل هذه الحوادث متكررة جدا في الصراعات المذهبية.
يحكي المقري التلمساني في "نفح الطيب" أن "القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي ألف كتابا لنصرة مذهب مالك على غيره من المذاهب، في مئة جزء وسماه النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، فوقع الكتاب بخطه بيد بعض قضاة الشافعية بمصر فغرقه في النيل".
وفي الأندلس، دفعت الخصومة بين فقهاء المالكية وابن حزم (إمام الظاهرية) إلى نبذه وإحراق كتبه.
وفي المغرب، دفع التعصب للمذهب الظاهري السلطان الموحدي يعقوب بن يوسف إلى الأمر بإحراق كثير من كتب المذهب المالكي.
عبد الواحد المراكشي صاحب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" عاين عملية الإحراق ووصفها قائلا: "لقد شهدت منها، وأنا يومئذ بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال، وتوضع، وتُطلق فيها النار". (خالد السعيد: حرق الكتب..)
ودفعت الخلافات الشيعية السنية مثلا إلى الهجوم على بيت شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي وإحرِاق كتبُه ومآثره كما يورد ابن كثير في البداية والنهاية.
ولا يثير حرق كتب المخالفين، خاصة إذا ما قرن بتهمة الزندقة أو الإلحاد، أي اعتراضات لدى الفقهاء. فابن كثير يصف الطوسي بأنه "متكلم الشيعة" ويشيد بحرق دفاتره "التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته" ويختم "ولله الحمد".
أما ابن قيم الجوزية، فيؤكد أن "كل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة غير مأذون فيها، بل مأذون في محقها وإتلافها". بل إن ذلك "أولى من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم" (الطرق الحكمية).
مكتبات محروقة
كانت الخلافات المذهبية مبررا كافيا لحرق المكتبات. وكان الحكام الجدد غالبا ما يستحوذون على كتب الطب والطبيعة والرياضيات والفلك، قبل إضرام النار في الكتب الفقهية والفكرية والفلسفية.
ويشير خالد السعيد في كتابه إلى إحراق الفاطميين لمكتبة "المعصومة" بتاهرت مركز الدولة الرستمية (في الجزائر حاليا). وكانت هذه المكتبة تضم 300 ألف كتاب "من صنوف العلم وضروب الأدب".
تعرضت المكتبة للدمار سنة 296 هجرية، "لما زحف أبو عبيد الله الشيعي (مؤسس الدولة الفاطمية) بجيشه.. ودخل المعصومة فأخذ ما فيها من كتب الرياضيات والفلك والهندسة والصناعة، وأحرق ما عدا ذلك. فقضى في لحظات قليلة على ما زرعه علماء المسلمين وفقهاؤهم في عقود طويلة".
في المقابل، تشير أصابع الاتهام إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي بتدمير وحرق مكتبات الفاطميين بالقاهرة بعد الإطاحة بدولتهم.
يقول محمد كامل حسين كامل في كتباه "في أدب مصر الفاطمية": "ونحن لا نتردّد في اتّهام الأيوبيين بجنايتهم على تاريخ الأدب المصري تعمدهم أن يمحوا كل أثر أدبي يمت للفاطميين بصلة، فقد حرقوا كتبهم بما فيها من دواوين الشعر خوفاً من أن يكون بالشعر مديح للأئمة، وهو كفر بزعمهم".
لكن في المقابل، هناك من يرى أن صلاح الدين لم يحرق مكتبات الفاطميين، وإنما اكتفى ببيع وتوزيع كتبها فقط، معتمدين على ما ورد في بعض المصادر التاريخية، مثل المقريزي وابن الأثير.
يقول المقريزي في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (المعروف بالخطط المقريزية) نقلا عن المؤرخ الحلبي يحيى بن أبي طي: "ومن جملة ما باعوه خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا. ويقال: إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة.. ويقال: إنها كانت تشتمل على ألف ألف وستمائة ألف كتاب (أي مليون و600 ألف كتاب)!".
وقال ابن الأثير في "الكامل في التاريخ": "وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يُعد، فباع (إي صلاح الدين) جميع ما فيه".