تطرف

داعش، القاعدة وإيران.. عداوة باردة

خالد الغالي
17 يوليو 2019

خمسة مقاتلين فقط أعلنوا وجود داعش رسميا في إيران. في الحلقة السابعة من سلسلة "العاقبة للمتقين" التي يصدرها داعش منذ أسابيع، ظهر المقاتلون الخمسة بلباس عسكري وهم يتوعدون الحكومة الإيرانية بـ"الأفعال لا الأقوال".

يأتي هذا بعد أشهر من الهجوم الذي نفذه التنظيم المتطرف ضد استعراض عسكري للحرس الثوري الإيراني في مدينة الأحواز، وقتل 25 شخصا.

وقبل عامين، نفذ داعش هجومين متزامنين ضد البرلمان الإيراني وضريح زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخميني أسفرا عن مقتل 17 شخصا.

لكن هذه الهجمات، رغم الرمزية الكبيرة للمواقع المستهدفة (البرلمان، الحرس الثوري، ضريح الخميني)، تخفي وراءها الكثير من مناطق الظل في "العلاقة" بين داعش، وقبلها تنظيم القاعدة، مع إيران.

عذرا أمير القاعدة!

تسبب إعلان أبي بكر البغدادي قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، في بداية سنة 2014، ليس في انفصال داعش عن القاعدة فقط، بل في الكشف عن الكثير من تفاصيل وأسرار التنظيمين، ومن بينها علاقتهما معا بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وفي حمى الملاسنات العلنية بين وأيمن الظواهري وأبي محمد العدناني الناطق الرسمي باسم داعش، أصدر الأخير شريطا صوتيا في ماي 2015 من أكثر من نصف ساعة بعنوان "عذرا أمير القاعدة"، نفى فيه بشدة أن تكون داعش فرعا للقاعدة. لكنه أكد أن تنظيمه كان يلتزم بتوجيهات القاعدة ويحرص على عدم مخالفتها احتراما لرموز وقادة "الجهاد العالمي".

في سنة 2015، خاض الظواهري والعدناني حربا كلامية حادة حول العلاقة بين داعش والقاعدة.

​​

​​من بين هذه التوجيهات، عدم تنفيذ ضربات على الأراضي الإيرانية. "لم تضرب الدولة الإسلامية الروافض في إيران منذ نشأتها.. امتثالا لأمر القاعدة للحفاظ على مصالحها وخطوط إمدادها في إيران"، يقول العدناني في رده على الظواهري، ويضيف "نعم، فليسجل التاريخ للقاعدة دين ثمين في عنق إيران!". والتزاما بتوجيهات القاعدة أيضا، لم تنفذ داعش لفترة طويلة هجمات في مصر وليبيا وتونس والسعودية.

لكن هذا كله انتهى، فقد صار لداعش فرع بكامله في مصر (داعش في سيناء) وفي ليبيا، ونفذت أكثر من هجوم في تونس والسعودية. ونفذت ثلاث هجمات على الأقل في إيران، قبل أن يظهر مقاتلوها في شريطهم الأخير، معلنين بيعة البغدادي.

مصالح وخطوط إمداد

لم يفصح العدناني عن طبيعة "مصالح" القاعدة أو "خطوط إمدادها" في إيران، ولا عن حقيقة "الدين الإيراني" تجاه تنظيم أيمن الظواهري، والذي مكن إيران من الإفلات من ضربات داعش لسنوات طويلة.

في الواقع، ما يقصده العدناني يعود إلى سنوات طويلة للوراء، وبالضبط إلى الفترة التي تلت الاجتياح الأميركي لأفغانستان. فبعد 2001، توزع قادة القاعدة إلى مجموعتين: تبعت الأولى زعيم التنظيم أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري إلى داخل باكستان، فيما عبرت مجموعة ثانية الحدود إلى إيران. ضمت المجموعة الأخيرة عددا من كبار قادة القاعدة، مثل سيف العدل وأبو حفص الموريتاني وسليمان أبو غيث وأبو يحيى الليبي وحتى أبو مصعب الزرقاوي زعيم القاعدة في العراق وناصر الوحيشي زعيمها في اليمن.

​​تحول هؤلاء القادة إلى أشبه بالأسرى في يد إيران. ومكن وجودهم طهران من ضمان عدم قيام القاعدة بأي ضربة على الأراضي الإيرانية. وهو ما نجح فعلا. ففي رسالته لسنة 2005، يحتج أيمن الظواهري على زعيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي (كان أفرج عنه من إيران سنة 2002) لاستهدافه المدنيين الشيعة في العراق بأن لدى إيران أكثر من 100 أسير من القاعدة.

لجأ ناصر الوحيشي (يمين) وأبو مصعب الزرقاوي (يسار) إلى إيران عقب الاجتياح الأميركي لأفغانستان.

​​

​​وإلى جانب هؤلاء القادة، استقبلت إيران العشرات من المقاتلين وعائلاتهم، بما فيهم عائلة أسامة بن لادن (ستة من أبنائه وإحدى زوجاته على الأقل).

ورغم تأكيد طهران تحفظها على هؤلاء القادة واعتراف القاعدة بذلك منذ وقت مبكر، إلا أن تفاصيل "إقامة" هؤلاء القادة في إيران وعلاقتهم بالسلطات الإيرانية ظلت محاطة بالكثير من السرية.

إحدى وثائق "أبوت أباد"، التي عثر عليها في مخبأ أسامة بن لادن في باكستان ونشرت سنة 2017، توحي بأن أعضاء القاعدة في إيران كانوا أكبر من مجرد "أسرى". والوثيقة عبارة عن رسالة من 19 صفحة كتبها أحد قياديي القاعدة، لكن اسمه لم يرد فيها.

حسب الرسالة، كانوا هؤلاء الأعضاء يتحركون بحرية (لكن تحت الرقابة) على الأراضي الإيرانية، "فاشتروا السيارات وأخذوا يتحركون كما يحبون ويتجمعون وصارت لهم في مدة وجيزة شبه مضافات ونحوها".

​​هذه العلاقة الغريبة بين إيران والقاعدة عقب 2001، رغم الخلاف الديني الحاد، يفسرها المسؤول الكبير في القاعدة في رسالته بأنها مصلحية تماما. فـ"النظام الإيراني من أوضح النماذج والأمثلة لباب البراغماتية في السياسة.. إنهم على أتم الاستعداد للتعاون حتى مع أكثر الناس سلفية ووهابية، حيثما رأوا أن هذا التعاون والتعامل يحقق لهم مصلحة ولو مؤقتة".

أما بالنسبة للقاعدة، فهذه العلاقة لا تلغي العداوة المتأصلة مع إيران. "فما حصل من محاولة تفاهم مع إيران في وقت مخصوص لأجل إقامة بعض إخواننا أو عبورهم، كان له ظرفه الخاص وكان بمنزلة الضرورة". وإيران تبقى بالنسبة للقاعدة عدوا في جميع الأحوال. لكنها مقارنة بأميركا "عدو مؤجل". "كلاهما عدو لنا.. لكن أحدهما عدو ناجز، الآخر مؤجل"، يقول القيادي في القاعدة.

وعلى هذا الأساس، انتقل قادة القاعدة إلى إيران عقب الاجتياح الأميركي لأفغانستان، حسب ما تقترحه الرسالة. لكن الحكومة الإيرانية نفت تماما أي تعاون مع القاعدة، ووصف وزير خارجيتها جواد ظريف وثائق أبوت أباد بأنها "انحدار (أميركي) وضيع للتقرب من أنظمة البترودولار".

مودة تليها حرب

كان أول من دخل إلى إيران من قيادات القاعدة كبير فقهائها أبو حفص الموريتاني. وحسب الرسالة، كان التفويض الذي يحمله أبي حفص من قيادة الأزمة في القاعدة (انقطع الاتصال ببن لادن والظواهري حينها) هو أن يتولى التفاهم مع الإيرانيين للسماح لمقاتلي القاعدة بالعبور والإقامة في إيران.

وافق الإيرانيون على طلب أبي حفص، لكنهم حددوا مجموعة من الشروط الأمنية: الامتناع عن الاتصالات الهاتفية، والامتناع عن نشاط داخل الأراضي الإيرانية.

ويبدو من الرسالة أن إيران سمحت بنوع من الحركة لأعضاء القاعدة على أراضيها، فقد كان بإمكانهم أن يؤجروا بيوتا بأنفسهم، وأقام بعضهم علاقات مع سكان المناطق السنية. لكن هذه التحركات ظلت تحت المراقبة دائما، بحيث يمكن لطهران أن تتدخل ضد أعضاء القاعدة في أية لحظة.

حسب رسالة القيادي في القاعدة، أوكلت مهمة التفاوض مع إيران إلى أبي حفص الموريتاني.

​​​​وهذا ما حدث فعلا، فقد شنت السلطات الإيرانية أكثر من حملة مداهمات ضدهم في سنة 2002 وبداية 2003، ورحلت الكثير منهم، بينهم أبو مصعب الزرقاوي وعبد الله الصادق أمير الجماعة الليبية المقاتلة (اعتقل في تايلند سنة 2004). ومع اشتداد الحرب على الإرهاب (بعد دخول أميركا إلى العراق) وبروز نجم القاعدة في العراق وزعيمها الزرقاوي، نفذت السلطات الإيرانية مرة أخرى سلسلة اعتقالات وترحيلات جديدة ضد أعضاء القاعدة. لكنها هذه المرة احتفظت بقادة القاعدة كورقة ضغط ضد التنظيم.

من بين من تم الاحتفاظ بهم، سيف العدل وأبو حفص الموريتاني وسليمان أبو غيث وأبو الخير المصري. وكان هؤلاء حينها قادة الصف الأول.

وفعلا، لم تنفذ القاعدة أية هجمات في طهران. تقول الرسالة "الإخوة المأسورون من القاعدة لدى إيران لا شك أنهم شكلوا عبئا وتقييدا لقدرات الإخوة وإعاقة لهم. فمثلا تلحظون سكوت الشيخ أسامة عن إيران وعن الرافضة. وفي ظني أن من أسباب ذلك مراعاة وجود الإخوة المأسورين في إيران".

لا تشير الرسالة، التي يفترض أنها داخلية، إلى أن العلاقة بين إيران والقاعدة وصلت إلى التعاون الفعلي لتنفيذ عمليات إرهابية، بسبب فقدان الثقة وغياب أي تقارب فكري أساسا. لكنها مع ذلك، تكشف عن محاولة مفترضة من طهران لاستقطاب عدد من أعضاء تنظيم القاعدة السعوديين، فقد أبدت إيران استعدادها لتدريبهم في معسكرات حزب الله في لبنان مقابل ضرب أهداف أميركية في السعودية. لكن هؤلاء الأعضاء، الذين وصفهم كاتب الرسالة بأنهم "شباب جدد" وفيهم "مرونة" و"ليونة"، رفضوا العرض، فتم ترحيلهم في أول حملة ترحيل.

تبادل رهائن

مثل ما كشفت الخلافات بين داعش والقاعدة أسباب تفادي الأخيرة تفادي هجمات إرهابية في طهران، كشفت الخلافات بين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) والقاعدة عن صفقة عقدتها القاعدة مع إيران سنة 2015، وأسفرت عن الإفراج عن ستة من قادة التنظيم الذين ظلوا معتقلين في إيران.

ففي معرض دفاعه عن انفصال تنظيمه عن القاعدة، قال عبد الرحيم عطون "الشرعي العام" لهيئة تحرير الشام، إن إيران نفذت عملية تبادل رهائن مع فرع القاعدة في اليمن تم بموجبها الإفراج أبي الخير المصري القيادي الكبير في القاعدة وصهر أسامة بن لادن وخمسة من كوادر التنظيم مقابل إطلاق سراح دبلوماسي إيراني.

وأبو الخير هو من منح جبهة النصرة لاحقا الضوء الأخضر للانفصال عن القاعدة.​

​​وتسربت أنباء الصفقة مع إيران حينها، إلا أن طهران قالت إن مخابراتها نفذت عملية في اليمن لإنقاذ الدبلوماسي.

وعقب الإفراج عنه، غادر أبو الخير الأراضي الإيرانية نحو سوريا قبل أن يقتل بداية 2017 بصاروخ أميركي.

صورة نادرة لسيف العدل القيادي الكبير في القاعدة.

​​

​​وورد في الصفقة أيضا اسم سيف العدل، القيادي العسكري في القاعدة (جندي مصري سابق). فحسب برنامج المكافآت التابع لوزارة الخارجية الأميركية، "أطلق سراح العدل وأربعة آخرين من قادة منظمة القاعدة من الحجز الإيراني مقابل دبلوماسي إيراني كانت منظمة القاعدة قد اختطفته في اليمن". وتضع أميركا مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض عليه.

لكن تقارير صحافية تشير إلى إطلاق سراح سيف العدل منذ سنة 2010، وعودته إلى باكستان.  ويعزز هذا ما نشر عن اختياره زعيما مؤقتا للقاعدة عقب مقتل أسامة بن لادن.

وفي سنة 2012، أطلقت إيران أيضا سراح أبي حفص الموريتاني ورحلته إلى بلده موريتانيا.

داعش والقاعدة والشيعة

عقديا، تبدو القاعدة أقل حدة من داعش تجاه إيران والشيعة عموما. فهي تحاول ألا تشذ عن الموقف السني السلفي من التشيع بشكل عام والذي يميز بين "عوام الشيعة" و"أئمتهم وفقهائهم".

ويحكم هذا الموقف بإسلام "عوام الشيعة" واعتبارهم "من أهل القبلة على ما فيهم من ضلال بل وكفر".  لكنه يكفر أئمتهم وفقهاءهم. وهذا بالضبط ما ورد في رسالة القيادي المجهول في القاعدة للتأكيد أن لا شيء تغير في موقف التنظيم من التشيع وأن التقارب بين الطرفين كان للضرورة فقط، وليس تقاربا فكريا.

في الواقع، تسبب الموقف من الشيعة في خلاف حاد بين تنظيم القاعدة وداعش. في شريطه "عذرا أمير القاعدة"، دعا الناطق باسم داعش أبو محمد العدناني أيمن الظواهري إلى "تصحيح منهجه بأن يصدع بتكفير الروافض"، بل اعتبر تجاهل داعش لتوجيهات القاعدة بالكف عن استهداف الشيعة في العراق دليلا على أن تنظيمه لم يكن يوما تابعا للقاعدة. "لو كنا مبايعين لك، لامتثلنا أمرك حتى لو كنا نخالفك الحكم عليهم والمعتقد فيهم"، قال العدناني مخاطبا الظواهري.

يعود الخلاف في الحقيقة إلى ما قبل ظهور داعش بوقت طويل. فمنذ سنة 2005، بعث أيمن الظواهري برسالة إلى زعيم القاعدة في بلاد الرافدين أبي مصعب الزرقاوي يطالبه بعدم استهداف "عوام الشيعة". وهو الطلب الذي لم يلتزم به الزرقاوي، ويبدو أن داعش ما تزال وفية له.

ما قبل القاعدة

 تتهم الولايات المتحدة إيران بربط علاقات مع القاعدة حتى قبل عمليات هجوم 11 سبتمبر 2001.

يقول تقرير اللجنة المكلفة بالتحقيق في الهجوم (نشر سنة 2004) إن "مسؤولين إيرانيين التقوا مع زعماء القاعدة في السودان عام 1991 أو أوائل عام 1992، وأن مسلحين من التنظيم تلقوا في وقت لاحق تدريبا في لبنان على يد حزب الله اللبناني الذي لا يزال يحظى بدعم طهران".

جدراية كبيرة لخالد الإسلامبولي في أحد شوارع طهران

​​وحتى قبل القاعدة، ربطت طهران علاقات مع جماعات سنية متطرفة رغم الخلاف العقدي الحاد. فقد استضافت طهران عددا من قادة "الجماعة الإسلامية" المصرية عقب مشاركة التنظيم في اغتيال الرئيس المصري أنور السادات. وكان من الذين استضافتهم إيران محمد شوقي الإسلامبولي شقيق خالد الإسلامبولي قاتل السادات، بل أطلقت اسم خالد الإسلامبولي على أحد الشوارع الرئيسية في طهران.

وهذا ما تشيره إليه رسالة القيادي في القاعدة: "وقد سبق إليها الإخوة المصريون من الجماعة الإسلامية.. تكلموا مع الدولة الإيرانية وتفاهموا معها على الإقامة عندهم بشكل رسمي، مستغلين التناقض والتنافر بين دولتي إيران ومصر". لكن هذه التجربة، مثل تجربة القاعدة لاحقا، لم تكن ناجحة تماما. بل، كانت "تجربة فاشلة ومريرة! وسبب الفشل والمرارة أنك اضطرتك الظروف والصعوبات أن تتعامل مع ناس ليسوا مرتدين فقط، بل رافضة يسبون مقدساتك".​

​​وحتى على أعلى مستويات القيادة في إيران، لا ينفي الخلاف العقدي الحاد مع الإسلام السياسي السني، بما في ذلك الجهادي، إمكانية التقارب بل إبداء الإعجاب أحيانا. فقد كان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي منذ فترة طويلة معجبا بسيد قطب، وهو الذي ترجم كتابه "المستقبل لهذا الدين" سنة 1966. وجاءت الترجمة الفارسية بعنوان "بيان ضد الحضارة الغربية".

وأثنى خامنئي في مقدمة الكتاب على سيد قطب، ووصفه بـ"المفكر المجاهد". وعاد لاحقا وترجم جزءا من كتاب "في ظلال القرآن" أهم مؤلفات قطب.

 

 

خالد الغالي

مواضيع ذات صلة:

Red Cross volunteers bury the remains of civilians killed in the Democratic Republic of Congo North Kivu province village of…
متطوعون من الصليب الأحمر يدفنون ضحايا هجوم مسلح مرتبط بداعش في جمهورية الكونجو- أرشيفية

بينما تبذل جهات إنفاذ القانون، ومؤسسات الرقابة المالية في العالم جهوداً مضنية لعزل أنشطة تنظيم "داعش" الاقتصادية عن النظام المصرفي العالمي، كان التنظيم ينسج في الظل شبكته المالية الخاصة، مستفيدا مما راكمته التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة من تجارب، ومستغلاً الثغرات المتاحة في المنظومة المالية العالمية، لتوسيع وإنعاش أنشطته المدرّة للدخل، وتحقيق فعالية أكبر في حركة الأموال بين "ولاياته" وخلاياه المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم.

استطاع تنظيم "داعش" من خلال خططه الاقتصادية، وشبكاته المالية المعقدة  تحقيق اكتفاء ذاتي لأخطر فروعه النشطة في وسط إفريقيا، (فرعي الكونغو والموزمبيق)، وعبر وصلهما بخطوط شبكة دعمه الممتدة بين أوروبا  وجنوب إفريقيا والصومال والخليج والشرق الأوسط. وهي شبكة محمية بطبقات من الوسطاء والشركات الاستثمارية ومكاتب تحويل الأموال، لكن جزءاً منها جرى تفكيكه وتعطيل فعاليته.

تحويلات مالية من جنوب افريقيا

في 7 من نوفمبر الماضي أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية بياناً ثانياً بشأن الانشطة المالية لداعش في جنوب افريقيا، وفرضت بموجبه عقوبات على خلية من 4 أفراد و 8 شركات استثمارية. الشخصيات الخاضعة للعقوبات وهي نوفل أكبر، ويونس محمد أكبر، ومحمد أكبر، وعمر أكبر، تعمل تحت إشراف فرهاد هومر وهو جهادي كانت الخزانة الأمريكية قد فرضت عقوبات عليه في مارس من العام الماضي، واستهدفت العقوبات شركاتهم العاملة في مجالات تعدين الذهب والبناء، ويضطلعون بدور حيوي في الاسناد اللوجستي لفروع "داعش" في وسط إفريقيا والموزمبيق، وتحويل الأموال إليها عبر نظام "الحوالة".

ومن خلال نظام "الحوالة" تم تحويل حوالي 342 مليون دولار من جنوب إفريقيا إلى فروع وخلايا داعش في الصومال وكينيا ونيجيريا وبنغلادش باستخدام آلاف الشرائح الهاتفية غير المسلجة للتملص من الرقابة، وتمويه هوية القائمين بالمعاملة، وكل ذلك حدث بين عامي 2020 و 2021 بحسب صحيفة "صنداي تايمز" الصادرة في جنوب إفريقيا. ويتم تحويلات الأموال على دفعات صغيرة حتى لا تثير الشكوك.

وكشفت دراسة نشرتها جامعة جورج واشنطن في يونيو الماضي عن جانب من المعاملات المالية التي تتم بين خلايا داعش في جنوب إفريقيا وبين "ولاياتها" في الصومال والموزمبيق وشرق الكونغو. وفنّدت الدراسة نموذجاً لهذه التحويلات التي تتم برعاية شركة Heeryo Trading Entrprise وهي شركة صومالية وجنوب افريقية مسجلة في جوهانسبرغ وتقوم بعملياتها في العاصمة الصومالية مقاديشو. الشركة سهّلت نقل مئات الآف من الدولارات من الصومال إلى جنوب إفريقيا ومن جنوب إفريقيا إلى كينيا حيث ينتظرها الموزعون الماليون لنقلها إلى أوغندا، ويعبرون بها الحدود لتسليمها إلى فرع "داعش" في شرق الكونغو، أو تنقل إلى تنزانيا ومنها إلى فرع داعش في الموزمبيق.

 

سبق لقيادة تنظيم "داعش" المركزية في سوريا والعراق أن اعتمدت نظام الحوالة المالية أواخر 2017 لدعم "القوات الديمقراطية المتحالفة" في الكونغو عشية إعلان ولائها للتنظيم، وكان وليد أحمد زين المواطن الكيني الذي التحق والده وأخوه بالتنظيم في سوريا، قد تلقى مبالغ مالية ضخمة عبر حوالات مالية(حوالي مليون وخمسمئة ألف دولار)، من أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط، وقام بإعادة تحويلها إلى فروع داعش في وسط وشمال إفريقيا.

وجاء في تقرير أعدته مجموعة أبحاث الكونجو بجامعة نيويورك ومؤسسة بريدجواي التي نقلت عن مصادر أمريكية ومنشق من القوات الديمقراطية المتحالفة في الكونجو أنّ  زين، الذي وصف بأنه "ميسّر مالي" دفع المال للقوات الديمقراطية المتحالفة على الأقل مرة واحدة.

 

زكاة وجزية

إلى جانب الحوالات المالية التي تتلقاها فروع داعش في وسط افريقيا، توجد أيضا أنشطة ذاتية تعتمد عليها محليا في تعزيز دخلها المالي، وتمويل عملياتها، ومنها فرض الرسوم والضرائب وجباية ما تسميه "الزكاة" من الأهالي الذين يعيشون في مناطق سيطرتها. ولأن فرعي داعش في الكونغو والموزمبيق ينشطان في مناطق يعيش فيها المسلمون والمسيحيون فإن عوائدهما في هذه الحالة تكون مضاعفة، من خلال فرض "الزكاة" على المسلمين و"الجزية" على المسيحيين.

ففي العام الماضي حذر فرع داعش في المزمبيق، عبر بيان خطي تداولته صفحات محلية، المسيحيين من عواقب عدم دفع الجزية، وخيرتهم بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو "الاستعداد لحرب لا نهاية لها" بحسب البيان.

تلجأ فروع داعش في إفريقيا إلى فرض الضرائب على السكان المحليين وابتزاز الشركات والمقاولات وفرض رسوم باهضة عليها ضمن خطة تمويلية عممتها قيادة داعش في سوريا والعراق على كل ولاياتها البعيدة، ويشكل مردودها جزءاً من ميزانيتها الضخمة. ففي الصومال مقر "مكتب الكرار" الذي يدير شؤون ولايات وسط إفريقيا ويمدها بدعم مالي سخي، يقوم فرع داعش في إقليم بونتلاند شمال الصومال بفرض رسوم شهرية على الشركات التجارية تحت التهديد بتخريب ممتلكاتها ومصالحها. وفي 2018 كانت عوائده الشهرية من هذه الرسوم حوالي  700 ألف دولار. وفي أبريل الماضي أحرق التنظيم مقاولة محلية بعدما رفض أصحابها دفع 500 ألف دولار له.

تنخرط أيضا فروع داعش في وسط أفريقيا في أنشطة تجارية مشبوهة، مثل التهريب، وتجارة الذهب والأخشاب والكاكاو وغيرها، وأكدت دراسة جامعة جورج واشنطن المشار إليها سابقاً أن هذه الأنشطة تشكل نسبة قليلة جداً مقارنة بالأموال التي تصل من الخارج، وأن عوائد تجارة الأخشاب التي يديرها فرع الكونغو لا تتجاوز 15 ألف دولار سنوياً.

تجارة السبي والرهائن

يشكل الاختطاف بغرض الفدية تقليداً مشتركاً بين الارهاب والجريمة المنظمة، غير أن فرع داعش في وسط افريقيا أضاف إلى هذا الاقتصاد الإجرامي المربح، قطاعاً مربحاً آخر وهو تجارة "السبي".

فقد كشفت مراسلات داخلية للتنظيم أن فرع داعش في الموزمبيق فرض مبالغ مالية معينة مقابل تحرير "السبايا" اللواتي يحتفظ بهن في معاقله. وهذه المعاملة تشمل فقط "السبايا" اللواتي لا يصلحن، بحسب التنظيم الإرهابي لـ"المتعة" الجنسية، كالمصابات بمرض الإيدز، أو الكبيرات في السن. وتم تخيير أهاليهن بين دفع الأموال أو إعدامهن.

ينهض اقتصاد الارهاب في جزء كبير منه على عوائد الاختطاف واحتجاز الرهائن.

لا توجد أرقام محددة عن العوائد التي يجنيها تنظيم داعش في وسط إفريقيا من اقتصاد الفدية، لكن لا شك أنها إضافة إلى أرقام الحوالات قد أحدثت طفرة في النشاطات الارهابية لفرعي داعش في شمال الموزمبيق وشرق الكونغو. حوالي 68 ألف دولار من أموال الحوالات سلمت مباشرة لأفراد في خلايا تورطت في سلسلة من الهجمات الانتحارية في أوغندا في 2021، وهجمات في رواندا والكونغو.

عزّز اقتصاد الإرهاب الذي رعاه مكتب "الكرار" في الصومال بقيادة عبد القادر مؤمن  ميزانية داعش في شرق ووسط إفريقيا، فكان يرسل بشكل دوري دفعات مالية إلى عدد من ولايات وخلايا داعش في إفريقيا والشرق الأوسط واليمن وتركيا. ووصف المكتب في رسالة له إلى أمير إدارة "الولايات" البعيدة في سوريا وضعه المالي بالقول: "الأموال التي تصلنا من مفصل الاقتصاد كافية للضروريات والكماليات"، ووافق على إرسال فائضها إلى اليمن مباشرة، وسيبحث عن وسيلة آمنة لإرسالها أيضا إلى الخليج وتركيا. وهي مفارقة لافتة أن تذهب أموال الإرهاب في زمن داعش من إفريقيا إلى الخليج بعدما كان العكس هو الشائع في العقود الماضية.