كان لافتا أن تندّد حركة طالبان بالهجوم الذي استهدف حفل زفاف في أحد الأحياء الشيعية غربي العاصمة الأفغانية كابول. في المقابل، تبنى تنظيم داعش الهجوم.
وصفت طالبان الهجوم، الذي أدى إلى مقتل 63 شخصا، بـ"المحرم وغير المبرر"، وقالت إنه "لا يجوز".
أما داعش فاحتفى به وقال إنه استهدف تجمعا كبيرا من أقلية الهزارة الشيعية الذين وصفهم بالمشركين.
في 2015، حدث الشيء نفسه تقريبا. نفذ تنظيم داعش هجوما على مسجدين شيعيين في العاصمة اليمنية صنعاء، وقتل 140 شخصا، إلا أن تنظيم القاعدة أعلن مباشرة إدانته للهجوم وأكد التزامه بتوجيهات أيمن الظواهري "بعدم التفجير داخل المساجد والأسواق والأماكن المختلطة".
الخلاف بين داعش، من جانب، والقاعدة وحليفتها طالبان من جانب آخر، حول العلاقة مع الشيعة ليس مجرد خلاف سياسي أو ميداني بسيط، بل هو خلاف عقدي عميق يعود إلى فترة ما قبل ظهور داعش نفسها.
القاعدة وداعش والشيعة
يلتزم تنظيم القاعدة بالموقف السلفي العام من التشيع والذي يميز بين "عوام الشيعة" و"أعيان الشيعة".
يحكم هذا الموقف بإسلام "عوام الشيعة" تحت مبرر "العذر بالجهل". لكنه يكفر أئمتهم وعلماءهم بدعوى "قيام الحجة".
تقول رسالة لأحد قادة القاعدة، عثر عليها ضمن وثائق أبوت أباد عقب مقتل أسامة بن لادن سنة 2011، إن تنظيم القاعدة يلتزم في مسألة تكفير الشيعة بـ"المشهور عن علمائنا" فـ"أئمتهم وكبراؤهم.. نحكم عليهم بأنهم كفار.. وأما عوامهم فهم مسلمون من أهل القبلة".
وبناء على هذا الحكم الفقهي، لا تُجيز القاعدة استهداف عموم الشيعة خاصة في المساجد والحسينيات والأسواق.
في المقابل، يرى تنظيم داعش الأمر من زاوية مخالفة تماما. يقول حسين بن محمود، وهو منظر جهادي اشتهر على المنتديات الجهادية، إن داعش لا يميز بين "عالم وعامي"، ولا يقبل من الشيعة "حتى الجزية".
وعلى أساس هذا التكفير، لا يتردد التنظيم في استهداف التجمعات الشيعية كما حدث في حفل الزفاف الأخير في كابول.
وقبل ذلك، شهد العراق هجمات دموية ضد المناطق ذات الأغلبية الشيعية، خاصة في مدينة الصدر، حيث سقط 200 قتيل في 2006 في هجوم لتنظيم الزرقاوي (سلف داعش)، وفي حي الكرادة (أكثر من 320 قتيلا سنة 2016).
الزرقاوي يتمرد على القاعدة
يعود الخلاف في الحقيقة إلى ما قبل ظهور داعش. وبالضبط إلى مرحلة نشاط أبي مصعب الزرقاوي في الساحة العراقية (بين 2003 و2006).
حينها، أعلن الزرقاوي الموقف ذاته الذي يعلنه داعش اليوم، والقاضي بتكفير كل الشيعة، رغم اعتراضات زعيمي القاعدة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وتحفظات منظرين جهاديين معروفين كالفلسطيني الأردني أبي محمد المقدسي، أستاذ الزرقاوي ورفيقه في السجن.
في رسالة علنية إلى المقدسي، يرفض الزرقاوي فكرة "إسلام عوام الشيعة". يقول مخاطبا شيخه السابق "إن المُطلع على أحوالهم في العراق يعلم علم اليقين أنهم ما عادوا عواما بالمفهوم الذي تريد".
وكان الزرقاوي ينظر إلى ضرب الشيعة كوسيلة لإثارة حرب طائفية بين سنة العراق وشيعته، كما يقول بشكل صريح في رسالته إلى أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في شباط/فبراير 2004.
لم يوافق تنظيم القاعدة على هذا التوجه، مدفوعا بموقفه الفقهي وتقديره للوضع السياسي في العراق. فبعث أيمن الظواهري، في تموز/يوليو 2005، رسالة إلى الزرقاوي يطالبه بالكف عن استهداف الشيعة. لم يلتزم الزرقاوي، ولا يزال داعش وفيا لموقف الزرقاوي إلى اليوم.
يقول الظواهري مستغربا: "لماذا الهجوم على عوام الشيعة؟ .. لماذا يقتل عوام الشيعة مع أنهم معذورون بالجهل؟".
لكن هذا لا يعني مطلقا موقفا وديا من القاعدة تجاه الشيعة. فالرسالة نفسها تصف مذهبهم بأنه "قائم على الغلو والكذب".
كان تنظيم القاعدة حينها متخوفا على صورته في العالم الإسلامي، وهو ما يؤكده الظواهري نفسه. "يتساءل كثير من المحبين من العوام المسلمين عن سبب مهاجمتكم للشيعة، ويزداد هذا التساؤل حدّة إذا كان الهجوم على مسجد من مساجدهم.. ومهما حاولت أن توضح فلن يقبله العوام، وسيظل النفور قائما"، تقول الرسالة التي استطاعت المخابرات الأميركية القبض على حاملها في باكستان، ونشرتها لاحقا.
إضافة إلى ذلك، كان تنظيم القاعدة يتخوف من أن ينعكس استهداف شيعة العراق سلبا على مصير قادته المحتجزين على الأراضي الإيرانية: سيف العدل، أبو حفص الموريتاني، سليمان أبو غيث، أبو الخير المصري، أبو يحيى الليبي وآخرون (الزرقاوي نفسه كان معتقلا في إيران قبل إطلاق سراحه في نهاية 2002).
رغم ذلك، لم تمنع الخلافات حول الموقف من الشيعة حينئذ الزرقاوي من إعلان بيعته للقاعدة وتحويل تنظيمه من "جماعة التوحيد والجهاد" إلى "القاعدة في بلاد الرافدين".
تنظيم القاعدة نفسه غضّ الطرف عن هذه الخلافات، رغم استمراره على موقفه المبدئي، فقبل بيعة الزرقاوي المشروطة والتي احتفظ فيها باستراتيجيته في استهداف الشيعة، كما تقول رسالة البيعة الموقعة في تشرين الأول/أكتوبر 2004.
داعش يرث الزرقاوي
أعلن أبو مصعب الزرقاوي في بداية سنة 2006 تشكيل "مجلس شورى المجاهدين". وهو تكتل لجماعات جهادية مسلحة على رأسها تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بزعامة الزرقاوي نفسه و"جيش الطائفة المنصورة" بزعامة أبي عمر البغدادي (يختلف عن أبي بكر البغدادي).
لم يكمل المجلس سنته الأولى حتى حُلّ، وجرى إعلان تنظيم "دولة العراق الإسلامية" بزعامة أبي عمر البغدادي. في تلك الأثناء، كان الزرقاوي قد قتل في غارة أميركية (حزيران/يونيو 2006).
وبعد أربع سنوات، تولى أبو بكر البغدادي الزعيم الحالي لداعش قيادة التنظيم خلفا لأبي عمر البغدادي الذي قتل هو الآخر (نيسان/أبريل 2010). وهكذا ورث داعش إرث الزرقاوي في تكفير كل الشيعة وفي تجويز استهدافهم.
ومع اندلاع الحرب بين داعش والقاعدة، ابتداء من 2014، تحول "تكفير الشيعة" إلى موضوع للملاسنات الكلامية بين أيمن الظواهري والناطق باسم داعش أبي محمد العدناني. ففي أيار/مايو 2015، أصدر داعش شريطا صوتيا تجاوز نصف ساعة بعنوان "عذرا أمير القاعدة" دعا فيه العدناني الظواهري إلى "تصحيح منهجه" وأن يصدع بتكفير الشيعة.
وأكد العدناني في الشريط أن داعش ظل لفترة طويلة يلتزم بتوجيهات القاعدة في عدم تنفيذ أية عملية ضد الشيعة في إيران. لكن مع انهيار العلاقة بين التنظيمين، تخلى داعش عن هذا الالتزام ونفذ مقاتلوه هجومين متزامنين ضد البرلمان الإيراني وضريح آية الله الخميني (2017)، وهجوما ثالثا ضد استعراض عسكري للحرس الثوري في مدينة الأحواز (2018).
وقبل أسابيع قليلة، أعلن التنظيم عن وجوده رسميا في إيران. وظهر خمسة من مقاتليه بلباس عسكري وتوعدوا الحكومة الإيرانية.
ابن تيمية لم يعد صالحا!
في تقديمه لكتاب "الشيعة" لأبي أنس الشامي (جهادي فسلطيني قتل سنة 2004 في العراق)، يؤكد أبو محمد المقدسي التزامه بموقف ابن تيمية الفقهي في الحكم على الشيعة. وهو الموقف الذي يميز بين "عوام الشيعة" وبين "أعيانهم".
وهذا التمييز "يؤدي ولا بد إلى القول بأنهم لا تحل دماؤهم ولا يقتلون بالعموم"، يقول المقدسي.
ويضيف السلفي الفلسطيني الأردني في مقدمة الكتاب: "فما للمسلم والانشغال بقتل نسائهم وصبيانهم وعجائزهم وعوامهم الذين لا يقاتلون أهل السنة؟ وما له ولاستهداف عموم مساجدهم؟ فليس هذا هو الذي دعا إليه مشايخنا وليس هو الذي أفتوا به".
ولم يخف المقدسي فرحه بأن يرحل أبو أنس الشامي إلى العراق للانضمام إلى جماعة "التوحيد والجهاد" بزعامة الزرقاوي، خاصة أن الشامي "طالب علم" جيد، أما الزرقاوي فـ"لم يكن ذلك الطالب المتقدم في العلم"، كما يقول المقدسي.
ومن زنزانته في سجن قفقفا بالأردن، وجه أبو محمد المقدسي في تموز/يوليو 2004 رسالة "مناصرة ومناصحة" علنية إلى الزرقاوي، جدد فيها رفضه للهجوم على الشيعة. وهي الرسالة التي يعترف زعيم القاعدة في بلاد الرافدين أنها أحزنته كثيرا.
ومرة أخرى، بعد إطلاق سراحه، أكد المقدسي في لقاء تلفزيوني أن "إباحة دماء عوام الشيعة خطأ لا ينبغي أن يتورط فيه المجاهدون، خصوصا إذا كانت التفجيرات تجري في المساجد".
لم يمر الأمر دون أن يثير رد فعل من الزرقاوي الذي كتب بيانا مفصلا من 16 صفحة قال فيه إن فتوى ابن تيمية التي يتمسك بها المقدسي غير صالحة اليوم.
الشيعة من منظور سلفي
ظلت المدرسة السلفية تصوّر الشيعة، تاريخيا، بازدراء شديد. وتكيل لهم الاتهامات، بأسلوب يقترب من نظرية المؤامرة، بالوقوف وراء أعظم "المصائب" في التاريخ الإسلامي، بما ذلك التسبب في إسقاط الخلافة العباسية، والتحالف مع الصليبيين زمن الدولة الفاطمية، بل والتآمر ضد الخلافة العثمانية.
أما عقديا، فظل تصنيفهم دائما لا يخرج عن خانة "الفرق الضالة" في الحد الأدنى، و"المرتدة" المتآمرة على الإسلام في الحد الأقصى.
ولم تستطع الأجيال اللاحقة من المدرسة السلفية أن تكون سوى "حلقة تكرارية" لما صاغه المؤسسون الأوائل، بتعبير الباحث السعودي فؤاد إبراهيم في الكتاب الجماعي "نواصب وروافض: منازعات السنة والشيعة في العالم الإسـلامي اليوم".
لكن هذا الموقف السلفي، أساسا المرتبط بتكفير الشيعة، لم يكن دائما محل قبول في الأوساط السنية حتى قديما. وينقل الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي محمد عمارة عن أبي حامد الغزالي قوله إن جمهور "أهل السنة والجماعة" لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، ولا يكفرون الشيعة الإمامية بقولهم في الإمامة.
أما في الوقت الراهن، فتواجه فتاوى تكفير الشيعة برفض أشد. وظهرت أكثر من مرة دعوات للتقريب بين المذاهب الإسلامية، مثل دار التقريب بين المذاهب (1947) التي تأسست في العاصمة المصرية القاهرة بإشراف كبار فقهاء الشيعة والسنة مثل آية الله حسين البروجردي المرجع الشيعي في إيران ومحمد شلتوت شيخ الأزهر. بل إن شلتوت أصدر في 1959 فتوى شرعية بجواز التعبد وفق المذهب الجعفري.
وعلى موقع دار الإفتاء المصرية اليوم، تؤكد الدار أن الشيعة "مذهب إسلامي من جملة مذاهب المسلمين" وأن "الشيعة الإمامية الاثني عشرية وكذلك الزيدية جزء أساسي في الأمة الإسلامية".
ودعت الفتوى الجميع، سنة وشيعة، إلى "تحرير مواطن الخلاف" حتى "نقف على ما كان الخلاف فيه لفظيا فنتجاوزه، ونعرف ما كان الخلاف فيه تاريخيا فلا نقف عنده، فنتعاون معا فيما اتفقنا عليه، ونعمل على التعايش البناء بيننا".