بعد ثلاثة أشهر عن مقتل زعيمه أبي بكر البغدادي، أعلن تنظيم داعش بدء "مرحلة جديدة" في تاريخه، عنوانها الرئيسي استهداف إسرائيل.
كُشِف عن هذا التحول الجديد في تسجيل صوتي من 37 دقيقة للمتحدث باسم التنظيم أبي حمزة القرشي، قال فيه إن زعيم داعش الجديد أبا إبراهيم الهاشمي القرشي "عزم على مرحلة جديدة.. ألا وهي قتال اليهود واسترداد ما سلبوه من المسلمين".
وتزامن التسجيل مع إطلاق الولايات المتحدة لخطتها للسلام في الشرق الأوسط. وهي الخطة التي تعهد أبو حمزة القرشي بإفشالها، مهددا بهجمات كبيرة "في قادم الأيام".
وخص القرشي بالذكر فرعي داعش في سيناء (ولاية سيناء) وسوريا (ولاية الشام) بالذكر. ودعاهما إلى قصف إسرائيل بأسلحتهما وصواريخهما، بما فيها "الكيماوية".
لكن، هل يبدو تنظيم داعش فعلا قادرا على تهديد أمن إسرائيل؟ وهل يمتلك القدرة لتنفيذ عمليات في قلب الدولة العبرية؟ وما هي أدواته في المنطقة، سواء داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها؟
العدو القريب والبعيد.. مرة أخرى!
شهدت الساحة الفلسطينية، خلال السنوات الأخيرة، ظهور فصائل جهادية متعددة: جيش الإسلام، لواء التوحيد والجهاد، جيش الأمة، كتائب سيوف الحق، جند الله، الجبهة الإسلامية لتحرير فلسطين، جيش القدس الإسلامي، فتح الإسلام، عصبة الأنصار. إلخ.
وفي الوقت الذي لم يتم التحقق ميدانيا من بعض هذه الفصائل، كان للبعض الآخر، خاصة جيش الإسلام ولواء التوحيد والجهاد، حضور واضح. بل إن الأخيرين بايعا داعش سنة 2015.
على أنه رغم تعدد الفصائل الجهادية، لم تسجل عمليات تستحق الذكر داخل الأراضي الفلسطينية أو إسرائيل نفذها تنظيم داعش أو خلايا مرتبطة به.
وظل الأمر في غالب الأحيان محصورا في إعلان إسرائيل أو السلطة الفلسطينية اعتقال خلايا لداعش قبل تنفيذها أية عملية، مثلما حدث عندما كشف جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي توقيف خلية لداعش في مدينة الخليل بالضفة الغربية في نوفمبر 2014، أو إحباط السلطة الفلسطينية لهجوم داخل إسرائيل كانت تخطط له فتاة من الضفة بالتواصل مع عناصر من "داعش" قطاع غزة.
ويبقى أقوى حضور لداعش داخل الأراضي الفلسطينية هو خروج نحو 200 شاب من مؤيدي التنظيم في مسيرة علنية في غزة بداية سنة 2014، ثم العملية الانتحارية التي أودت بثلاثة عناصر من الشرطة الفلسطينية التابعة لحماس في القطاع في صيف سنة 2019.
كل هذا يدفع أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأمة بغزة، والمتتبع لشؤون الجماعات الجهادية في فلسطين، عدنان أبو عامر إلى الاعتقاد بأنه "من الصعب لا في إسرائيل ولا في المنطقة العربية أن يتم أخذ تهديد داعش الأخير باستهداف إسرائيل على محمل الجد".
"داعش كانت لسنوات على حدود إسرائيل في منطقة الجولان وفي سيناء. ولم تستهدف إسرائيل إلا في مرات متباعدة جدا وفي عمليات متواضعة"، يقول أبو عامر. ويشدد أيضا أن وضع داعش الحالي يجعلها أضعف من أن تنفذ عمليات مؤثرة.
وكان نادرا قصفُ التنظيم، في أبريل ثم أكتوبر 2017، انطلاقا من سيناء لمستوطنة أشكول المحاذية لقطاع غزة، وكذلك قصف مدينة إيلات الإسرائيلية في فبراير من العام نفسه.
وبدوره، يؤكد الباحث الأردني حسن أبو هنية أن احتمال شن داعش لعمليات عسكرية نوعية ضد إسرائيل يبقى ضعيفا، خاصة "أن إسرائيل لديها خبرة طويلة في التعاطي مع التهديدات الأمينة راكمتها من التعامل مع المقاومة الفلسطينية سواء الإسلامية أو الوطنية".
لكن مؤلف كتاب "تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية" يشدد مع ذلك أن دعوة داعش الأخيرة ليس مجانية، بل على العكس ملفتة.
"أهم من القيام بعمل عسكري هو هذا التحول في الخطاب. انتقل داعش من العدو القريب إلى العدو البعيد"، يقول.
وتُطلق تسمية "العدو القريب" في أدبيات الحركات الجهادية على الأنظمة المحلية في الدول العربية والإسلامية. وهو خيار المواجهة الذي يتبناه حاليا تنظيم داعش وقبله تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية المصرية. أما "العدو البعيد" فهو أساسا الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، وهو خيار المواجهة لدى تنظيم القاعدة.
لكن منير أديب الباحث المصري في شؤون الحركات الجهادية يعتبر أن التحول إلى العدو البعيد، إن حصل فعلا، فلن يعدو أن يكون مؤقتا. "في الأخير، لن يحيد داعش عن استراتيجية مواجهة الأنظمة العربية"، يقول.
وحسب الباحث المصري، فإن إعلان داعش الأخير هو في الحقيقة محاولة لاستغلال الرفض الشعبي في الدول العربية لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط.
"داعش يحاول أن يحيي تنظيمه من جديد باستغلال سلوك الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل في صفقة القرن، وذلك عبر تبني خطاب يحقق إجماعا عربيا وإسلاميا"، يقول منير أديب.
وبغض النظر عما إذا ما كان رفع شعار الحرب على إسرائيل مؤقتا أو دائما، يقول جاسم محمد رئيس المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب إنه "يبقى في مثل هذا التوقيت بالذات وبالتزامن مع إعلان صفقة القرن خطوة ذكية في ظل التراجع الذي يعرفه التنظيم".
ويجمع هؤلاء الباحثون على أن تنظيم داعش غير قادر فعليا على مهاجمة إسرائيل، ولا يمتلك القدرة لتنفيذ عمليات عسكرية.
داعش داخل فلسطين؟
تنفي الشرطة الإسرائيلية وجود تنظيم فعلي وحتى خلايا نشطة لداعش داخل إسرائيل. وفي الضفة الغربية، تنفي الأجهزة الأمنية الفلسطينية ذلك أيضا.
أما في قطاع غزة، فحاول داعش أن يقيم بعض الخلايا هناك مستفيدا من وجود تنظيمات سلفية صغيرة على الأرض، مثل جيش الإسلام الذي ينشط في القطاع منذ 2006 والذي أعلن بيعته لداعش في 2015، وبعض بقايا تنظيم "أنصار جند الله".
وجيش الإسلام تنظيم جهادي فسلطيني يقوده ضابط سابق في جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني يدعى ممتاز دغمش.
شارك جيش الإسلام قبل القطيعة مع حماس في عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط سنة 2006. لكن تورطه في اختطاف مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) آلان جونسون في غزة سنة 2007 زرع فتيل التوتر بينه وبين حماس التي استطاعت تحرير الصحافي الأسكتلندي بعد أشهر من اختطافه. وفي سنة 2008، تحول التوتر بين الطرفين إلى مواجهات مسلحة قتل خلالها 11 عضوا من مؤيدي ممتاز دغمش.
واستفاد داعش أيضا من بقايا تنظيم "جند أنصار الله" الذي أسسه أبو النور المقدسي، وهو طبيب فلسطيني سلفي اسمه عبد اللطيف موسى. أعلن التنظيم سنة 2009 قيام "إمارة إسلامية" انطلاقا من مسجد ابن تيمية بمدينة رفح، لتندلع معركة بين مؤيديه ومقاتلي حركة حماس بمقتل المقدسي المرتبط بالقاعدة حينها مع 24 آخرين من أنصاره. وبعد تشتت التنظيم، بايع أفراد منه داعش.
أخذت هذه التنظيمات على حماس مشاركتها في انتخابات سنة 2006 والقبول بالنظام الديمقراطي الذي تعتبره التنظيمات الجهادية "نظاما كفريا".
لكن عدنان أبو عامر يقول إن هذه التنظيمات، رغم إعلان بعضها بيعة داعش، لم يعد لها وجود حقيقي اليوم. "هذه المسميات لم تعد قائمة في قطاع غزة. كانت في فترات بين 2007 و2010، لكن منذ سنوات قليلة لم تعد هذه المسميات قائمة بشكل تنظيمي. استطاعت حماس تحجيمها".
وحتى في حالة وجودها فإنها "لن تكون سوى مجموعات متناثرة دون أن تتوفر على أجسام تنظيمية وتشكيلات هرمية"، يؤكد الباحث الفلسطيني.
وشددت حماس من ملاحقتها الأمنية لهذه التنظيمات أكثر بعد تفجيرات أغسطس 2019 التي استهدفت عناصر من الشرطة الفلسطينية التابعة لحماس في قطاع غزة وأودت بحياة ثلاثة عناصر منها.
لذلك، يعتبر أبو عامر أنه في ظل السيطرة الأمنية القوية لحماس "من الصعب الحديث عن خلايا نائمة لداعش في القطاع، إلا في حالة أفراد متناثرين بشكل استثنائي. وفي هذه الحالة لا يستطيعون تشكيل تهديد حقيقي لإسرائيل".
ولا يتردد تنظيم داعش في تكفير حركة حماس (أعلن ذلك رسميا منتصف سنة 2015). وهو ما أكده المتحدث باسم داعش في شريطه الأخير واصفا الحركة بـ"حماس الردة والعمالة".
وسبق لداعش في سيناء أن نشر، بداية 2018، شريط فيديو يظهر إعدام أحد عناصر كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحماس. ونفذ عملية الإعدام مقاتل سابق في الحركة.
وفي سوريا أيضا، شهد مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين على أطراف دمشق إحدى حلقات الصراع بين داعش وحماس، حيث قام التنظيم في أبريل 2015 بالقضاء على فصيل "أكناف بيت المقدس" المؤيد لحماس والذي كان يسيطر على المخيم قبل اقتحامه من داعش.
سيناء.. مركز تهديد؟
ظلت إسرائيل طوال السنوات الماضية تتهم حماس بالتعاون مع فرع تنظيم داعش في سيناء. وفي يوليو 2015، قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعالون إن حماس تحارب داعش في القطاع لكنها تتعاون معه في سيناء. وهي الاتهامات التي تنفيها حماس بشدة.
وتزعم تقارير صحافية إسرائيلية أيضا أن حماس استقبلت في 2015 زعيم تنظيم "داعش" في سيناء شادي المنيعي في قطاع غزة سرا.
ففي مقال على موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يقول إيهود يعاري المعلق الإسرائيلي المتخصص في الشؤون العربية على القناة الإسرائيلية الثانية إن التعاون بين حماس وداعش يتم "تحت إدارة عدد قليل من القادة رفيعي المستوى في كتائب عز الدين القسام كمبادرة شبه مستقلة، من دون الحصول على موافقة مسبقة من زعيم حماس (حينها) خالد مشعل في قطر أو حتى من نائبه إسماعيل هنية في غزة".
ويشير مقال آخر على موقع كارنيغي إلى أن "حماس لا تحبّذ المجموعات الجهادية في سيناء.. إلا أن تأمين الحماية للقياديين في محافظة سيناء، أو على الأقل الموافقة على وجودهم في غزة، يسمح لأجهزة الاستخبارات التابعة لحركة حماس بأن تكون على علم بأماكن تواجدهم في حال حدوث متاعب".

لكن هذه العلاقات، إن صحت، من الصعب أن تبقى متواصلة اليوم في ظل العداوة الشديدة بين الطرفين وعمليات الاستهداف المتبادلة (إعدام عنصر القسام في سيناء، العمليات الانتحارية ضد شرطة حماس، حملة حماس ضد مؤيدي داعش في غزة).
ويُصَعِّب الوضع الجديد مهمة أي استهداف لإسرائيل انطلاقا من سيناء يقف خلفه تنظيم داعش، خاصة مع التحسن الملفت في العلاقة بين حماس ومصر.
"منذ سنة 2017 هناك حالة من التنسيق الأمني المصري الحمساوي عالي المستوى، سواء في تبادل المعلومات الأمنية أو في ضبط الحدود المشتركة بين سيناء وغزة، أو منع تسلسل أي من عناصر داعش للقطاع أو العكس"، يقول عدنان أبو عامر.
أما عن دعوة أبي حمزة القرشي "ولاية" داعش في سيناء إلى قصف إسرائيل بـ"الصواريخ الكيماوية"، فيقول المحلل المصري منير أديب: "هذه مبالغة.. هم لا يمتلكون صواريخ ولا أسلحة كيماوية".
ويؤكد محمد جاسم رئيس المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب بدوره أن العمليات العسكرية للجيش المصري في صحراء سيناء خلال السنوات الثلاثة الأخيرة مكنت من القضاء على الكثير من ملاذات داعش.
ويبقى أقصى تهديد لداعش لإسرائيل انطلاقا من سيناء، حسب عدنان أبو عامر، هو استهداف مدينة إيلات على البحر الأحمر في أقصى جنوب إسرائيل. لكن هذا الخطر يبقى محدودا.
سوريا.. داعش بدون "خالد بن الوليد"
فقد تنظيم داعش في سوريا قبل عامين أي وجود له بمحاذاة الحدود الإسرائيلية. ففي صيف سنة 2018، أحكمت القوات الحكومية السورية سيطرتها على منطقة حوض نهر اليرموك بريف درعا على الحدود مع إسرائيل والأردن والتي كان يسيطر عليها جيش خالد بن الوليد المبايع لداعش.
وتأسس جيش خالد بن الوليد، منتصف سنة 2016، بعد اندماج ثلاثة فصائل جهادية في المنطقة هي لواء "شهداء اليرموك" وحركة "المثنى الإسلامية" و"جماعة المجاهدين". واستطاع السيطرة على مناطق في جنوب شرق هضبة الجولان الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
لكنه لم يشكل طوال سنتين أي تهديد لأمن إسرائيل، بل إن وزير الأمن الإسرائيلي موشيه يعالون قال سنة 2017 إن داعش "اعتذر" عن إطلاق صاروخ تجاه هضبة الجولان!.
"كانت هناك حالة واحدة فقط فتح فيها داعش النار. لكنهم اعتذروا"، قال يعالون الذي كان يتحدث للصحافيين في مدينة العفولة شمال إسرائيل، دون أن يوضح كيف تم الاعتذار.
ومباشرة بعد الهجوم، قامت إسرائيل بقصف مواقع جيش خالد بن الوليد، متسببة في قتل أربعة من عناصره.
اليوم، يبدو أن تهديد داعش لإسرائيل انطلاقا من سوريا ضعيف تماما بعد استسلام مقاتلي جيش خالد بن الوليد للقوات الحكومة السورية التي أحكمت سيطرتها مجددا على المنطقة الحدودية مع إسرائيل والأردن.