تزامن تأسيس تنظيم داعش في نسخته الأولى عام 2006 (دولة العراق الإسلامية) مع ثورة رقمية استقطبت فيها المدونات والمنتديات الإلكترونية شريحة واسعة من مستعملي الإنترنت في المنطقة. قبل ذلك التاريخ بخمس سنوات تقريبا، كان "الجهاديون" حجزوا مساحتهم الخاصة على الشبكة، وأسسوا عوالمهم الموازية هناك، وباتوا قادرين على إسماع صوتهم عبر مئات المواقع والمدونات والمنتديات الحوارية. سريعا، تحولت منتدياتهم إلى جامعات افتراضية تجند وتؤهل، وترفد الجبهات بالكوادر والمتطوعين، إلى جانب اضطلاعها بمهمة الربط ومد قنوات التواصل بين مختلف المجموعات "الجهادية" على امتداد العالم.
تفوق تقني
كان التفوق التقني "للجهاديين" ملحوظا حينها، وبراعتهم في تخطي حجب مواقعهم، وإعادتها إلى الخدمة عندما تتعرض للتعطيل أمرا مثيرا للقلق في دوائر الأمن ومؤسسات إنفاذ القانون. كانوا يُشفرون ويغيرون أسماء النطاقات بشكل دوري، ويلجؤون إلى خوادم تقع في دول لا تُقاسِم المجتمع الدولي الموقف نفسه تجاه قضايا العالم. وكانت الأقسام التقنية في المنتديات غاصة بالمواضيع والمواد الإرشادية حول طرق تخطي الحجب وإخفاء الهوية والتواصل الآمن، إلى جانب مواضيع عن الاختراق، وتصميم المواقع، وشرح برامج المونتاج والتصميم وغيرها.
كان مدراء هذه المنتديات يأخذون نسخة احتياطية كاملة للمنتدى ويحتفظون بها في أقراص خارجية. وعندما تنجح الجهود الأمنية في تعطيل المنتدى لم يكن الأمر يحتاج سوى لبضع ساعات أو أيام حتى يعود المنتدى للظهور من جديد بعد رفعه على خادم بديل. هكذا، تناسلت المنتديات والمدونات ومواقع الويب "الجهادية" بسرعة كبيرة، وباتت مهمة مراقبتها وتعطيلها عسيرة جدا، فعبء ذلك كله يقع على عاتق فرق تقنية بشرية تضطلع بمهمة الرصد والمعاينة والفحص والتحليل، ومهما بلغت خبراتها والموارد المرصودة لها فإنها ستعجز قطعا عن احتواء طوفان من الصفحات الإلكترونية الآخذة في الازدياد.
كان مدراء" المنتديات الجهادية" يحتفظون بنسخ احتياطية كاملة لمنتدياتهم. وعندما تنجح الجهود الأمنية في تعطيل المنتدى لم يكن الأمر يحتاج سوى بضع ساعات حتى يعود للظهور بعد رفعه على خادم بديل.
تجلى التفوق التقني "للجهاديين" في قدرتهم على ابتكار حلول مناسبة لمشاكل مثلت تحديا لنشاطهم على الإنترنت. وكان تصميم برنامج للتواصل المشفر خاص "بالجهاديين" وأنصارهم علامة على الخبرة المتقدمة لهم في مجال كتابة البرمجيات. عُد برنامج "أسرار المجاهدين" نقلة نوعية على صعيد التواصل الآمن، وبديلا لبرنامج PGP الرائد حينها في تشفير المراسلات وتأمينها من خطر الاعتراض والتطفل. استمر استعمال "الجهاديين" لبرنامج "أسرار المجاهدين" حتى ظهرت تطبيقات التواصل الفوري المشفرة مثل واتساب وتيليغرام وسيغنال.
الخلافة الرقمية
لسوء حظ "الجهاديين"، سرعان ما أطاحت مواقع التواصل الاجتماعي بالمدونات والمنتديات من صدارة اهتمام رواد الإنترنت، وصارت منصات مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب مجتمعات افتراضية جذبت عشرات الملايين من المستخدمين. وزادت فعاليات الربيع العربي من أهمية هذه المنصات في التواصل ومشاركة الأفكار والاهتمامات، فلم يكن "للجهاديين" خيار آخر سوى الولوج إليها وبث أفكارهم ودعايتهم بواسطتها. هكذا تركوا منتدياتهم مهجورة إلى الأبد.
تزامنت ثورة مواقع التواصل الاجتماعي مع الصعود السريع لتنظيم داعش عام 2013 وأعقبه مباشرة ظهور ما يسمى بـ"مجتمع المناصرين"، وهي تلك الفئة من المتطوعين التي تشارك التنظيم قناعاته الدموية، وتنشط بحماس في ترويج إصداراته على مواقع التواصل الاجتماعي، وتدافع عن أفكاره المتشددة، وتترجم كلمات قادته إلى أهم اللغات.
استمر استعمال "الجهاديين" لبرنامج "أسرار المجاهدين" حتى ظهرت تطبيقات التواصل الفوري المشفرة مثل واتساب وتيليغرام وسيغنال.
بدا في الوهلة الأولى أن الامتيازات التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي لمستخدميها تصب كلها في صالح مناصري تنظيم داعش، مثل، سهولة الاستخدام، وجمع المتابعين بأعداد غير محدودة، وإخفاء الهوية، وتشفير المراسلات الخاصة، ورفع الوسائط المتعددة. فأغرق أنصار التنظيم مواقع التواصل الاجتماعي بشعاراتهم وموادهم المرئية والصوتية والنصية، وصور زعمائهم، ولعبت هذه المواقع دورا أساسيا في دفع آلاف الشباب إلى جبهات القتال.
حتى مناصرو التنظيم الذين "تقطعت بهم السبل" في بلدانهم، ولم يستطيعوا تدبير وسيلة للوصول إلى أراضي "الخلافة"، وجدوا في الفضاء الإلكتروني المؤثث برموز "الخلافة" وشعاراتها بديلا لإشباع نوازع الانتماء لديهم، وتخفيف وطأة "الاغتراب" الذي يعيشونه في مجتمعاتهم. فقد شيد تنظيم داعش وأنصاره "خلافة رقمية" موازية على الإنترنت، فصار بمقدور المتعاطفين مع التنظيم في كل مكان أن يرفعوا بيعاتهم إلى "الخليفة" المزعوم، وينخرطوا في محادثات مطولة وآمنة فيما بينهم، وبإمكانهم أيضا شن "غزوات إلكترونية" منسقة، عبر مجموعات وفرق متخصصة؛ هدفها إغراق الإنترنت بالوسوم (الهاشتاغات) المتضمنة لدعاية التنظيم، والتعليق على الحسابات المشهورة بآراء ومواد تمجد عنفه وتطرفه، وأحيانا اختراق المواقع والحسابات وبث إصدارات التنظيم عليها.
هكذا وعى المناصرون بأدوارهم الحيوية في بقاء "خلافتهم" وتمددها واقعيا وافتراضيا، وتعزز شعورهم بـ"المسؤولية" إثر الإشادات المتكررة بهم من قبل أمراء التنظيم وإعلامه الرسمي، وبالتالي تصاعد زخم النشاط المؤيد لتنظيم داعش على الإنترنت ونجح المناصرون في ابتكار "محاكاة حاسوبية" لخلافة قضمت ثلث العراق ونصف سوريا، وخيم رعبها على القارات الخمس. وبات من الأكيد أن موظفين بدوام كامل، مهما كان عددهم وبلغت خبرتهم، سيكونون عاجزين عن مواجهة "الرعية الرقمية" المتحمسة ونشاطها المتزايد. مواجهتهم تحتاج إلى مارد رقمي لا يغفل ولا ينام.
مارد الذكاء الاصطناعي
وسعت الشركات التقنية المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي خططها منذ 2014 لتطوير خوارزميات تهدف لاكتشاف وحذف المحتوى العنيف تلقائيا، وذلك ردا على قيام تنظيم داعش وأنصاره ببث مقاطع الذبح الموضبة باحترافية على الشبكات الاجتماعية.
لقد اكتشفت هذه الشركات أن هناك كمية هائلة من المحتوى المتطرف أكبر مما تستطيع فرقها التقنية التعامل معه. فمثلا على موقع يوتيوب وحده يتم رفع أكثر من 500 ساعة من الفيديوهات كل دقيقة. إضافة إلى استعمال تنظيم داعش وأنصاره لخوادم أخرى متنوعة لرفع الفيديوهات وصلت في 2017 فقط إلى أكثر من 400 خادم مختلف.

وللتعامل مع عقبة من هذا النوع، مولت وزارة الداخلية البريطانية مثلا مشروعا لتطوير برنامج حاسوبي يعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي هدفه كشف وحذف المقاطع المرئية لتنظيم داعش قبل اكتمال عملية رفعها على الإنترنت. وأظهرت الاختبارات أن البرنامج نجح في الكشف عن 94 في المئة من المقاطع الدعائية التي أنتجتها التنظيم. ويمكن للشركات التي تقدم خدمة رفع الملفات المرئية دمج البرنامج في أنظمتها لتحول دون استفادة التنظيم من خدماتها. ويعتمد نجاح البرنامج في الحد من انتشار دعاية داعش على عدد الشركات الموافقة على إدخاله في أنظمتها. مطورو البرنامج قاموا بتحليل أكثر من 1300 مقطع مرئي صادر عن الإعلام المركزي لتنظيم داعش منذ 2014 من أجل تحديد سمات خفية يمكن الاعتماد عليها في كشف جميع مقاطع التنظيم الأخرى أو التي سيبثها لاحقا. وتهدف هذه العملية إلى تقليص هامش خطأ البرنامج عبر التحديد الدقيق للمواد التي تعود قطعا إلى التنظيم حتى لا يتم حذف مواد لا صلة لها بالدعاية المتطرفة، خصوصا تلك التي توثق جرائم الحرب في بؤر النزاع. نقطة ضعف البرنامج أنه لا يستطيع معالجة المقاطع المرئية في المواقع التي تعود ملكيتها للتنظيم وأنصاره، أو التي يجري تداولها في تطبيقات التراسل المشفر.
مولت وزارة الداخلية البريطانية مشروعا لتطوير برنامج حاسوبي هدفه كشف وحذف فيديوهات تنظيم داعش قبل اكتمال رفعها. وأظهرت الاختبارات أن نسبة نجاح البرنامج بلغت 94 في المئة.
الشركات التكنولوجية الكبيرة شرعت منذ 2017 في الاعتماد كليا على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لرصد وحذف المواد التي تروج للتطرف العنيف على منصاتها، بينما اقتصر دورها في السابق على تكميل جهود فرق بشرية يقع على عاتقها عبء هذه العملية برمتها. شركة فيسبوك في بيان لها أشارت إلى أن 98 في المئة من المحتوى المتطرف الذي تم حذفه على منصتها تم كشفه آليا بواسطة خوارزميات متطورة. واتخذت الشركة إجراءات ضد 9.4 مليون مادة منشورة على المنصة في الربع الثاني من عام 2018 فقط. وأعلن موقع يوتيوب من جهته عن حذف أكثر من 20 مليون مقطع فيديو في 2019 قبل أن يحصل أي منها على مشاهدة واحدة. في السابق، كانت خوارزميات فيسبوك ويوتيوب تستطيع التعرف على صور تتضمن منزلا أو سيارة أو وجه إنسان، لكن ابتداء من 2017 جرى تغذيتها وبرمجتها للتعرف على المحتويات العنيفة بما فيها مشاهد القتل والذبح وغيرها.
وكان "مشروع مكافحة التطرف"، وهي منظمة غير ربحية مقرها نيويورك، قد أعلنت في 2016 عن تطوير خوارزميات ذكية تسمى eGLYPH قادرة على كشف وحذف المحتوى المتطرف على شبكة الإنترنت. وتعتمد هذه التقنية على استخراج بصمة رقمية من المحتويات التي تم التبليغ عنها باعتبارها محتويات متطرفة، وبناء على ذلك يتم التعرف على المحتويات الأخرى المشابهة أو المنسوخة من المحتوى الأصلي حتى وإن تعرضت جودتها أو حجمها للتعديل، ويستطيع البرنامج حذف المواد المشبوهة حتى قبل أن تكتمل عملية رفعها على الشبكات الاجتماعية. وهذا المشروع هو امتداد لمشروع PhotoDNA الذي طوره خبير الكمبيوتر هاني فريد بالتعاون مع شركة مايكروسوفت في 2008 ويهدف إلى محاربة المحتويات الإباحية المتعلقة بالأطفال على شبكة الإنترنت.
ملاذ المنصات المشفرة
أيقن تنظيم داعش وأنصاره أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد المكان المناسب لبث الدعاية ونشر المحتوى، إذ لا يمكن الاستمرار في معاندة أكواد حاسوبية لا تكل ولا تمل، ولا جدوى من إمضاء ساعات في إعداد ونشر مواد لن تعمر أكثر من بضع دقائق وربما أقل. فكانت الوجهة البديلة تطبيقات التواصل المشفر، خصوصا التطبيق الروسي "تليغرام".
بدا التطبيق أكثر من مجرد منصة للنشر وإجراء المحادثات. كان بالنسبة لمناصري تنظيم داعش بمثابة جنة رقمية لا نظير لها، كأنه مصمم وفق رغباتهم الخاصة. يدعم التطبيق إنشاء مجموعات غير محدودة الأعضاء، وإجراء محادثات بمستويات عالية من التشفير، والحفاظ على خصوصية المستخدمين وإبقاء بياناتهم الشخصية مجهولة بما فيها أرقامهم الهاتفية، مع دعم خاصية رفع المواد بأحجام وجودات كبيرة، وغيرها من المميزات التي لا توجد في التطبيقات الأخرى.
شركة فيسبوك قالت إن 98 في المئة من المحتوى المتطرف الذي تم حذفه على منصتها تم كشفه آليا بواسطة خوارزميات متطورة.
انتقل "الجهاديون" في هجرة جماعية إلى تطبيق تليغرام، وأسسوا آلاف القنوات والمجموعات الخاصة بهم. وحجز الإعلام الرسمي للتنظيم مساحته على المنصة الجديدة، وصار بإمكان المهتمين بالحصول على أخباره متابعة إحدى قنواته الرسمية واستقبال تحديثات الأخبار المشفوعة بالصور ومقاطع الفيديو على مدار الساعة. وهي المواد التي يترصدها آلاف المتعاطفين ليقوموا فورا بتحويلها إلى مئات القنوات والمجموعات النشطة الأخرى، قبل أن تنتقل إلى بوتات الأرشفة حيث يتم الاحتفاظ بكل المواد الصادرة عن التنظيم. لكن لم يدم هذا النعيم الرقمي طويلا إذ سرعان ما زحف مارد الذكاء الاصطناعي عليه مجددا، وقوض ما شيده التنظيم وأنصاره عليه.
شنت شركة تليغرام حملة حذف ضد المحتوى الدعائي لتنظيم داعش بعد 8 أسابيع من تأسيس التنظيم لقنواته الرسمية على التطبيق. ومن حينها، والتطبيق يواظب على شن حملات حظر دورية تستهدف المحتوى العنيف المنسوب للتنظيمات "الجهادية" وتنظيم داعش على وجه الخصوص.
أصبحت معاناة أنصار التنظيم على تليغرام مضاعفة، فحذف المواد والقنوات والمجموعات إجراء يلحقه تصنيف الرقم التعريفي للجهاز (ID) الذي أسسها كمصدر للمحتوى المتطرف وبالتالي حظر حساباته الجديدة على التطبيق بشكل شبه تلقائي. ما يعني ضرورة الحصول على جهاز آخر لمن أراد الصمود لفترات أطول في وجه حملات الحذف المتلاحقة.
حاول أنصار "الخلافة الرقمية" إيجاد بديل مناسب لتطبيق تيليغرام، لكن كل التطبيقات التي رشحتها مؤسساتهم المعنية بالأمن الرقمي كمؤسسة "آفاق" لم تكن في مستوى تليغرام من ناحية مرونته وتشفيره وسهولة استخدامه. لقد حاولوا استخدام Tamtam وElement وThreema وConversation، لكن خصائص هذه التطبيقات لا تستجيب لحاجياتهم ولا تناسب طبيعة النشاط الذي يزاولونه. المثير هنا أنهم يفضلون تطبيق واتساب على هذه التطبيقات. ولتفادي الكشف عن هوياتهم، يعمد أنصار التنظيم إلى فتح حساباتهم بواسطة أرقام وهمية توفرها تطبيقات مخصصة لهذا الغرض.
أضرار جانبية
كأي سلاح فتاك يتم الدفع به إلى ساحة حرب مختلطة، تبرز الأضرار الجانبية لخوارزميات الذكاء الاصطناعي كمشكلة حقيقية يتقاسم تبعاتها السلبية كثير من مستخدمي الإنترنت وليس أنصار التنظيمات المتطرفة وحدهم. مشكلة الخوارزميات أنها غير ذكية بما يكفي لتفهم "السياق". فلا تستطيع التفريق بين حساب يوثق جرائم الحرب في مناطق النزاع وبين آخر يروج لمواد تمجد العنف والإرهاب. إنها تفترض أن كل مادة تحتوي على مشاهد عنيفة هي بالضرورة مادة سيئة يجب إزالتها. وهي بوظيفتها هذه من أفضل الهدايا التي يمكن أن يحصل عليها مجرم حرب أو ديكتاتور يريد إخراس ضحاياه وإبقاء فظاعاته طي الكتمان. المئات من الأدلة الحاسمة التي تدين أمراء الحرب في مناطق النزاع جرى حذفها آليا بواسطة الخوارزميات دون أن يعرف أحد بوجودها.
تٌظهر هذه المسألة كيف أن الذكاء الاصطناعي يعزز فرص الإفلات من العقاب ويعرقل إنصاف الضحايا ويحرمهم من حقوقهم في جر جلاديهم إلى المحاكمة. كمثال على ذلك، خصص الناشطون السوريون الكثير من الصفحات لجمع الأدلة على جرائم الحرب المرتكبة بحق المدنيين، وتعتبر هذه الصفحات بمثابة سجلات رقمية وثقت آلاف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان منذ الأيام الأولى للثورة في سوريا. لكن، وبدون سابق إنذار أو استفسار تم حذف هذه الصفحات من قبل الأنظمة الآلية لمواقع التواصل الاجتماعي، فضاعت نسخ قد تكون الأصلية والوحيدة لمواد كانت ستصنع الفارق في عشرات القضايا المعروضة على أنظار القضاء في مختلف أرجاء العالم. وبسبب الخبط العشوائي للخوارزميات وإتلافها آلاف الأدلة الحاسمة في سوريا، ينعم الآن مجرمو حرب وعناصر ميلشيات دموية بالعيش الرغيد في أوروبا، ويستمتعون بمزايا الحكم الرشيد هناك. القليل من الصور والفيديوهات التي نجت من مقصلة الحذف زجت ببعضهم خلف القضبان.
مشكلة الخوارزميات أنها غير ذكية بما يكفي لتفهم "السياق". فلا تستطيع التفريق بين حساب يوثق جرائم الحرب وبين آخر يمجد العنف والإرهاب.
لم تعد رقابة السلطة هي كل ما يقلق الكتاب والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك رقابة أخرى فرضتها الخوارزميات على المستخدمين. فعندما تنتهي من كتابة مقال أو تدوينة وقبل أن تضغط زر النشر سيتوجب عليك أولا إعادة تنقيح ما كتبته وحذف الكلمات والعبارات التي يمكن أن تعتبرها الخوارزميات مخالفة، وبالتالي تقييد الوصول إلى منشورك وربما حظر استخدامك للمنصة.
الكثير من العبارات والكلمات الشائعة في الاستعمال اليومي باللغة العربية صار توظيفها في المنشورات والتدوينات مهمة محفوفة بالمخاطر. هناك قاموس من الكلمات واشتقاقاتها لا يمكنك استعماله بحرية وأنت تكتب على مواقع التواصل الاجتماعي. الخوارزميات السائبة تفترض أن ثمة نية سيئة وراء كل كلمة مخالفة. وللتحايل عليها يعمد الكتاب إلى تعديل الكلمات ومزجها بخليط من الرموز والكلمات الأجنبية. ولأن هذه الحيلة أثبتت فعاليتها نسبيا فقد تمرس أنصار تنظيم داعش في استعمالها، فكانت عاملا ساعدهم على التكيف في بيئة أحيانا لا يميز حراسها بين صراخ الضحية وقهقهة الجلاد.