لم تكد الرصاصات الأولى تستقر في أجساد المتظاهرين السلميين في درعا ومناطق أخرى في سوريا، حتى بدأ الحراك الشعبي يدخل رويدا طور العسكرة معتمدا على خبرة عشرات الضباط والعسكريين الذين انشقوا عن النظام واصطفوا مع قوى المعارضة.
وفي محاولة منه لامتصاص الغضب الشعبي المتزايد وتأكيد "نواياه الإصلاحية"، أطلق النظام السوري مئات المعتقلين السياسيين بمن بينهم الكثير من الشخصيات المحسوبة على "التيار الجهادي"، فساهمت الخطوة في تغليب "الطابع الجهادي" للمجموعات المسلحة التي أخذت على عاتقها صد تقدم الجيش السوري على القرى والبلدات المنتفضة. ثم سريعا بدأت أفواج المتطوعين الأجانب تصل إلى سوريا متأثرة بـ"الشعارات الجهادية" التي رفعتها الفصائل المقاتلة واستجابة لـ"فتوى النفير العام" التي أطلقها عدد من مشايخ العالم الإسلامي لاسيما في مؤتمر القاهرة الذي انعقد تحت إشراف الرئيس المصري السابق محمد مرسي في يونيو 2013.
جبهة النصرة وبيعة الظواهري
خلال العام الأول للثورة بدأت هوية المكونات المسلحة في التمايز، وبدا واضحا أن السلفيين الجهاديين هم المتسيدون للمشهد ممثلين بفصيل "جبهة النصرة" الذي نجح في استقطاب العناصر "المهاجرة" إلى صفوفه. ازداد نفوذ جبهة النصرة مع الوقت وباتت قوة عسكرية كبيرة، وتمكنت بواسطة "مكاتبها الدعوية" ونشاطها التطوعي من الاندماج في المجتمع المحلي. في المقابل، عجزت القوى المدنية ممثلة في الجيش الحر والفصائل المعتدلة عن التوافق على صيغة تنظيمية موحدة للم شتاتها.
مع مرور الوقت، تبين أن النفوذ المتزايد لجبهة النصرة لم يثر فقط حفيظة المجتمع الدولي الذي رأى فيها صعودا غير محمود العواقب لفصيل مصنف على لوائح الإرهاب وإنما أثار أيضا قلق "جماعة جهادية" أخرى اعتبرت ظهور فصيل إسلامي قوي بمثابة تهديد لشرعيتها ومنافسا محتملا لسرديتها. زعم أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم "دولة العراق الإسلامية" حينها أن الجولاني قائد جبهة النصرة كان مبعوثا من طرفه إلى سوريا لتأسيس جماعة مقاتلة تكون امتدادا لـ"دولتهم"، وأن الجولاني باتت تراوده نوايا الانفصال والاستقلال، واستباقا لأي خطوة في هذا الإطار خرج البغدادي في تسجيل صوتي في 9 أبريل 2013 معلنا دمج تنظيمي جبهة النصرة ودولة العراق الاسلامية تحت مسمى "الدولة الإسلامي في العراق والشام" (داعش).
في اليوم التالي، خرج أبو محمد الجولاني في تسجيل صوتي رفض فيه قرار البغدادي، وأعلن في المقابل بيعته لأيمن الظواهري، مدشنا مرحلة جديدة في تاريخ "التيار الجهادي". ستُعرف جبهة النصرة منذ ذلك التاريخ بتنظيم القاعدة في بلاد الشام، وستخوض صراعا داميا على النفوذ ضد تنظيم داعش.
القطيعة مع القاعدة
تدهور وضع الفصائل السورية المسلحة وانحسرت الرقعة الجغرافية التي سيطرت عليها، ثم ازداد وضعها سوءا بتقدم قوات النظام على مدينة حلب أهم معقل للمعارضة المسلحة. أمام وضعها المتردي، قررت الفصائل العسكرية بدء محادثات للتوافق على كيان عسكري تتوحد ضمنه معظم المكونات العسكرية. لتحقيق هذه الغاية طالبت الفصائل جبهة النصرة بفك ارتباطها بتنظيم القاعدة أولا قبل الشروع في إجراءات الاندماج.
في هذه المرحلة، أي بداية 2016، كان التواصل بين أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة وبين جبهة النصرة منقطعا لثلاث سنوات تقريبا. لكن أبا الخير المصري القيادي في القاعدة، والذي أطلقت إيران سراحه في 2015 ودخل إلى سوريا مع قادة آخرين، أبرز وثيقة لجبهة النصرة تشير إلى أنه بمثابة الرجل الثاني في تنظيم القاعدة وأن منصبه كنائب للظواهري يخول له البث في قضية انفصال النصرة عن القاعدة.

اتفق أبو الخير مع قيادة جبهة النصرة على إعلان انفصال شكلي بين القاعدة والنصرة مع بقاء البيعة سرا، فإن نجح مشروع اندماج الفصائل تحول الانفصال الشكلي إلى انفصال حقيقي وإلا فستبقى العلاقة التنظيمية قائمة بينهما. وتنفيذا لهذا الاتفاق، أعلن الجولاني في 28 يوليو 2016 تأسيس "جبهة فتح الشام"، وقبله بساعات فقط خرج أبو الخير المصري في تسجيل صوتي أعلن فيه موافقة تنظيم القاعدة على انفصال جبهة النصرة.
كتب أبو الخير إلى كل من أبي محمد المصري وسيف العدل في إيران يخبرهما بما تم التوافق عليه مع جبهة النصرة، لكن جوابهما أتى برفض الخطوة وأخبراه أن التواصل مع أيمن الظواهري بات ممكنا وأن عليه انتظار رأيه في المسألة. لاحقا، وصلت رسالة غاضبة من أيمن الظواهري لام فيها أبا الخير المصري على قراره وأمره بحث جبهة النصرة على العدول عن قرار الانفصال.
وجدت رسالة الظواهري قيادة جبهة فتح الشام، وهي بصدد وضع اللمسات النهائية على مشروع فك الارتباط الكامل وتأسيس كيان يضم عدة فصائل مسلحة باسم "هيئة تحرير الشام". انتشر الخبر بين "الجهاديين" الموالين للقاعدة في سوريا، فشرع عدد من قادتهم لاسيما القادمين من إيران في ترتيب الصفوف استعدادا لإعادة القاعدة الى سوريا.. فكان تنظيم "حراس الدين".
حراس الدين.. الولادة العسيرة
توترت العلاقة بين "هيئة تحرير الشام"، وهو الاسم الذي باتت تعرف به جبهة النصرة، وبين الشخصيات المتمسكة بعلاقتها مع القاعدة، فأصدرت الهيئة في 27 من يوليو 2017 تعميما حظرت بموجبه تأسيس أي جماعة جديدة في الشمال السوري لقطع الطريق أمام مساعي إعادة تأسيس القاعدة. وازداد الوضع احتقانا بخروج الظواهري في تسجيل بعنوان "سنقاتلكم حتى لا تكون فتنة" في 4 من أكتوبر 2017 أدان فيه انفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة بشكل واضح.
حاول منظرو "التيار الجهادي" رأب الصدع بين طرفي الخلاف، فأطلقوا لهذا الغرض مبادرة وقع بيانها الأول عدد من رموز التيار، أبرزهم أبو قتادة الفلسطيني وأبو محمد المقدسي و عمر الحدوشي، لكن بعد شهر فقط من هذه المبادرة وصلت الخلافات إلى نقطة اللاعودة، عندما أقدمت هيئة تحرير الشام على اعتقال شخصيات موالية للقاعدة منها سامي العريدي وإياد الطوباسي وأبو جليبيب الأردني، وسمتهم في بيان لها برؤوس الفتنة.

في 28 من نوفمبر 2017، أي بعد يوم واحد من هذا الاعتقال، نشرت مؤسسة السحاب تسجيلا لأيمن الظواهري هاجم فيه قيادة هيئة تحرير الشام بلهجة حادة، ودعا أتباعه إلى التمسك ببيعة القاعدة مهما كانت الظروف.
وتفاعلا مع كلمة الظواهري بدأت المجموعات المسلحة المتأثرة بخطاب القاعدة في الاستقلال والانشقاق. إذ في 5 من ديسمبر 2017، ستظهر مجموعة مسلحة باسم "جيش البادية" ترفع علم القاعدة. وبعد أسابيع ستظهر مجموعة أخرى باسم "جيش الملاحم" والمجموعتان كانتا جزء من هيئة تحرير الشام. وفي 27 من فبراير 2018، سيعلن رسميا عن تأسيس "تنظيم حراس الدين" بقيادة أبو الهمام السوري، وسيضم التنظيم الجديد، إضافة الى جيش البادية وجيش الملاحم، تشكيلات أخرى أهمها "جيش الساحل" و"كتيبة الغرباء" و"سرايا الساحل" و"سرية عبد الرحمن بن عوف" و"كتيبة البتار" و"سريتا الغوطة ودوما وغيرها.
"الرايات الوطنية" تقسم الحراس
تولى أبو الهمام السوري القيادة العامة لتنظيم حراس الدين، وأبو القسام الأردني مسؤولا عسكريا ونائبا له، بينما أسند "الملف الشرعي" إلى سامي العريدي. ولتعويض موارده القليلة وانتشاره المحدود، حاول التنظيم خلق توازنات للقوى عبر الدخول في تحالفات عدة مع فصائل عسكرية محسوبة على التيار السلفي بدأها بتحالفه مع جماعة "أنصار التوحيد" في أبريل 2018 تحت اسم "تحالف نصرة الإسلام" ثم دخوله في "غرفة عمليات وحرض المؤمنين" مع كل من "جماعة أنصار الإسلام" و"جبهة أنصار الدين" في نوفمبر 2018، وأخيرا تحالفه مع "تنسيقية الجهاد" و"لواء المقاتلين الأنصار" و"جبهة أنصار الدين" و"جماعة أنصار الإسلام" ضمن "غرفة عمليات فاثبتوا" في يونيو 2020.
اعتمد التنظيم خلال فترة نشاطه على الإغارات الخاطفة وعمليات التفجير في عمق المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد، وأكد في مناسبات مختلفة أنه يتبنى أسلوب حرب العصابات كاستراتيجية عسكرية. لكنه شارك في بعض المناسبات مع الفصائل السورية في صد تقدم النظام على مناطق الشمال، وكان ذلك من أسباب تصدعه وانقسامه.
خلال مشاركة التنظيم في معارك ريف حماة ربيع عام 2019 مع فصائل محسوبة على الجيش الحر لمنع قوات النظام من التقدم نحو إدلب، عبر كل من أبو يحيى الجزائري وأبو ذر المصري وهما عضوان في "المجلس الشرعي" لحراس الدين عن رفضهما انخراط التنظيم في المعارك مع فصائل قادمة من منطقة "درع الفرات"، لأن ذلك في اعتقادهما قتال "تحت رايات وطنية" لا تعتبر تطبيق الشريعة غايتها. ومع ازدياد حدة النقد الموجه إلى قيادة الحراس من قبل أبي يحيى الجزائري وأبي ذر المصري وأتباعها، قرر أبو الهمام السوري فصل الرجلين عن التنظيم، لكنهما تمردا على قرار الفصل واعتبراه من صلاحيات "القضاء" حصرا.
في غضون ذلك، قام أكثر من 300 عضو في التنظيم من أتباع أبي ذر وأبي يحيى برفع دعوى إلى "القضاء الداخلي" للتنظيم للمطالبة بالفصل في النزاع القائم. وتولى أبو عمرو التونسي "قاضي" الحدود والتعزيرات البث فيها. واعتبر هذا الأخير أن قرار الفصل غير نافذ حتى يصدر عن القضاء، واستدعى كلا من أبي الهمام والعريدي وأبي يحيى وأبي ذر للمثول أمامه.
قابلت قيادة التنظيم هذا الإجراء بإصدار تعميمات فصلت بموجبها من التنظيم عددا آخر من الشخصيات منها أبي عمرو التونسي نفسه. ولم يخفف من حدة الأزمة سوى قيام طائرات التحالف الدولي بقصف اجتماع للشخصيات المفصولة عن التنظيم أسفر عن مقتل بعضها وإصابة الآخر، لاحقا انشقت هذه الشخصيات وأسست مجموعات قتالية مستقلة مثل "جماعة أنصار الحق".
نكبة الحراس
كان التوجس والاحتقان السمتين البارزتين في علاقة هيئة تحرير الشام وتنظيم حراس الدين. وكانت نقاط الخلاف بينهما كثيرة منها: عدم اعتراف التنظيم بحكومة الإنقاذ التي تدير شؤون مدينة إدلب تحت إشراف الهيئة، ورفضه الانضمام إلى غرفة عمليات "الفتح المبين" التي تضم أغلب الفصائل المسلحة في إدلب، إضافة إلى استمرار مطالبته باستعادة الأسلحة والمعدات التي يقول إنها من حقوقه منذ فك جبهة النصرة ارتباطها بالقاعدة.
بعد تشكيل "غرفة عمليات فاثبتوا"، اعتبرت هيئة تحرير الشام الخطوة تهديدا لها لأن الغرفة ضمت "لواء المقاتلين الأنصار" وهي مجموعة مسلحة انشقت لتوها من الهيئة ويقودها أبو مالك التلي، إضافة إلى أبي صلاح الأوزبكي القائد السابق لـ"كتيبة التوحيد والجهاد" والذي تقول الهيئة إنه كان موضوع حكم قضائي لم يمتثل له، فقامت باعتقال كل من الأوزبكي والتلي، لتثير بذلك حفيظة تنظيم حراس الدين.

في خطوة بدت غير محسوبة. قام الحراس في المقابل باعتقال أعضاء في الهيئة من أجل الضغط عليها لإطلاق سراح القادة المعتقلين، فتطور الموقف سريعا إلى تصعيد عسكري طوقت فيه الهيئة مقرات وحواجز التنظيم في مناطق عدة. ووجد هذا الأخير نفسه بعد أقل من ثلاثة أيام من المعارك مجبرا على توقيع اتفاقيات استسلام أخلى بموجبها مقراته ومعسكراته وسلم أسلحته الثقيلة في 25 و26 يونيو 2020. وأصدرت هيئة تحرير الشام بيانا حظرت بموجبه أي نشاط عسكري خارج غرفة عمليات "الفتح المبين" التي تقودها أو استحداث أي كيان ذي طابع عسكري.
لم تكن العلاقة المتوترة مع الهيئة والانقسام الداخلي السببين الوحيدين في انهيار تنظيم حراس الدين، بل كان لعمليات الاغتيال الدقيقة التي شنتها الولايات المتحدة ضد قادته دورها أيضا، فقد خسر التنظيم معظم قادته الكبار في عمليات اغتيال مركزة في مناطق مختلفة بإدلب. من أبرز هؤلاء القادة: أبو القسام الأردني، وخلاد المهندس، وأبو خديجة وأبو جليبيب الأردنيان، وأبو محمد السوداني، وأبو عدنان الحمصي، وبلال الصنعاني، وأبو البراء التونسي وكل هؤلاء من قادة صفه الأول، وأغلبهم من جيل أبي مصعب الزرقاوي والأفغان العرب. وقد خلف مقتلهم فراغا لم يستطع الجيل الجديد من "الحراس" ملأه.