عام 1994م عاش أسامة بن لادن واحدة من أسوأ فترات حياته، بعدما ضاقت به السُبل عقب إسقاط السعودية جنسيتها عنه ومُطالبة السودان له بمغادرة أراضيه على الفور. بين ليلة وضحاها، أصبح بن لادن بلا جنسية وبلا مأوى يستطيع العيش فيه هو وأعضاء تنظيمه المُسلح.
جاء الحل من أفغانستان، والتي كانت تمرُّ هي الأخرى بأوضاعٍ صعبة عقب انسحاب الاتحاد السوفييتي وتفكك النظام الحاكم. حالة التفكك تلك تحديدًا هي التي مثّلت طوق النجاة لبن لادن بعدما قرّر العودة إلى أفغانستان التي كانت تشهد حربا أهلية وحالة فوضى لم تتمكّن أي قوة من السيطرة عليها حتى تلك اللحظة.
في هذه الأثناء، لم تكن طالبان قد نجحت في السيطرة على البلاد بعد، لكنها أظهرت بأسًا كبيرًا وسط باقي الفصائل القتالية المتصارعة على حُكم افغانستان، وبدا للكثيرين أن استحواذها على العاصمة قندهار وبسط سيطرتها على مقاليد الأمور مسألة وقت لا أكثر.
بن لادن والقاعدة.. ما قبل الإيواء
قبل ذلك الزمن، امتلك بن لادن علاقات وثيقة بقادة طالبان، بعدما انخرط في مرحلة "الجهاد الأفغاني" لفترة طويلة من الزمن، وفّر خلالها تدريبات عسكرية لطلاب المدارس، وساهم في جمع الأموال من الأثرياء العرب بعدما تم الترويج للنضال ضد السوفييت بأنه حرب لنُصرة الإسلام ضد شيوعية الروس الذين يريدون القضاء عليه. وأنشأ بن لادن حينها معسكرًا لتدريب المقاتلين العرب في جاجي عام 1986م.
بعد ذلك بعامين، شكّل هؤلاء المقاتلون العرب في أفغانستان النواة التي نشأ منها تنظيم القاعدة الذي سيتزعّمه بن لادن. وعقب رحيل السوفييت عام 1989م، أي بعد عشر سنوات من الاحتلال الدامي، فشل الرئيس الأفغاني الجديد برهان الدين رباني في السيطرة على البلاد برغم "تاريخه الجهادي" الطويل، وشهد عهده تصارع فصائل عدة على حُكم أفغانستان، وهي المعركة التي حسمتها طالبان لصالحها في نهاية الأمر، وكان للقاعدة دور في ذلك.
نشأ هذا التعاون برغم الاختلاف البيّن في أهدافٍ الحركتين؛ امتلك تنظيم القاعدة أيدولوجية مخالفة تمامًا لطالبان. فتنظيم بن لادن يسعى لما يراه "جهادا عالميا" يحارب فيه أميركا. أما طالبان، فلم تكن تمتلك إلا طموحًا محليًا لا يتعدى بسط سيطرتها على أفغانستان وإدارتها "لإمارتها الإسلامية" المرتقبة. وفي الوقت الذي سعت فيه طالبان لنيل اعتراف دولي بدولتها، كانت القاعدة تعتبر استهداف العالم بأسره جزءًا من أجندته.
دعم بن لادن لحركة طالبان
بعد فترة محدودة قضاها بن لادن في السودان عاد بعناصر تنظيمه إلى أفغانستان في مايو عام 1996م. في البداية لم يتمتّع مسلحو القاعدة بشعبية وسط أقرانهم في طالبان، بعدما نظر الطالبيون لهم باعتبارهم "أثرياء ومترفين"، فيما اعتبر رجال القاعدة الأفغان بأنهم "برابرة غير متعلمين".
بحسب كتاب "العدو الذي خلقناه: أسطورة اندماج القاعدة وطالبان في أفغانستان" لأليكس ستريك وفان لينشوتين، فإن الاجتماع الأول بين بن لادن والمُلا محمد عُمر زعيم طالبان عُقد في أغسطس 1996م. ناقش فيه الرجلان الحرب ضد الولايات المتحدة وكيفية اجتذاب المجنّدين إلى أفغانستان. وطرح فيه بن لادن رغبته في تخليص السعودية من "الأميركيين واليهود" (يقصد القواعد الأميركية في السعودية)، وهي المعركة التي رفض المُلا عُمر الانسياق إليها معتبرًا أن الوضع الحالي لحركته لا يسمح لها إلا بخوض معركة وحيدة وهي ترسيخ وجود الحركة في أفغانستان.
فور وصوله إلى أفغانستان، بدأ بن لادن في تنفيذ خطة واسعة لدعم حركة طالبان ومنحها المزيد من القوة في مواجهة خصومها المتصارعين على السٌلطة؛ فقدّم مساعدات مالية بقيمة ملايين الدولارات إلى الحركة، كما دشّن معسكرات تدريب لرفع كفاءة مقاتلي طالبان خلال عملياتهم العسكرية. وكذلك، شكّل مجرد وجود بن لادن في كنف طالبان حافزًا أمام أنصاره حول العالم لدعم الحركة بالمزيد من أموال الزكاة والصدقات، التي استعانت بها الحركة لشراء أسلحة متطورة، قبل أن تنجح في سبتمبر 1996 في السيطرة على كابل.
في دراسته "روايات جنود طالبان عن القاعدة في أفغانستان"، أجرى رحمة الله أميري، الباحث في الشأن الأفغاني، لقاءات عِدة مع عددٍ من كوادر طالبان. قال أحدهم: "علمونا (يقصد رجال القاعدة) كيف نقاتل".
وقال مقاتل آخر: "كان العرب يأتون إلينا لرؤية قادة طالبان، ويقضون وقتًا طويلاً في تدريب الجنود والمقاتلين.. كانوا يضعون الخطط لقادة طالبان المحليين ويقدّمون لهم المشورات الفنية".
يؤكد صادق الركابي في كتابه "الانتحار الجماعي" أن العلاقة بين الطرفين توثّقت عقب زواج أحد أبناء بن لادن من إحدى بنات الملا عُمر.
قبل 25 عاما، دخل مقاتلو طالبان كابول أول مرة. اليوم يعودون للسيطرة على العاصمة الأفغانية من جديد. ما قصة هذه الحركة؟ كيف تشكلت؟ كيف سيطرت على أفغانستان؟ وكيف كانت فترة حكمها قبل أن تنهار ثم تعود من جديد؟
— IrfaaSawtak ارفع صوتك (@IrfaaSawtak) August 17, 2021
التقرير التالي يحكي القصة الكاملة لطالبان.https://t.co/YDdcaj4xYx
وبحسب ستريك، فإن المُلا عُمر لم ينسَ أبدًا لبن لادن دعمه له في التخلص من أعدائه الشماليين، وإنه في بداية عام 1997م كان يزور بن لادن باستمرار. لكن هذا لم يمنع ظهور بعض الخلافات على السطح: كان الملا عمر يأمل أن يساعد العرب حركته في عملية إعادة بناء البلاد عقب السيطرة على الحُكم، لكن بن لادن لم يكن مشغولاً ببناء دولة في أفغانستان بقدر اهتمامه بتنظيمه ومشروعه الحربي الخاص، لذا امتنع عن تمويل إعادة الإعمار.
تفاقمت تلك الخلافات بسبب رغبة قادة طالبان أن يخفّف بن لادن حدة هجماته ضد الغرب في وسائل الإعلام العالمية، وهو الطلب الذي رفضه زعيم القاعدة مِرارًا، بل تحدّاه في مايو 1998م حينما نظّم مؤتمرًا صحفيًّا أعلن فيه تشكيل "الجبهة الإسلامية للجهاد ضد اليهود والصليبيين"، وهي الخطوة التي أشعلت غضب قادة طالبان وعلى رأسهم المُلا عمر، الذي اعتبر أن أفاعيل بن لادن ستجلب على الأفغان نقمة العالم بأسره!
لكن مع ذلك، تمسّك المُلا عُمر بعدم التخلّي عن بن لادن وعارَض رأي بعض مستشاريه بضرورة تسليمه إلى السعودية. بل بلغ توطُّد العلاقة بين التنظيمين، في العام 1999، حدًّا استرعى انتباه المؤسسات الدولية، فتبنّى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراره رقم 1267، الذي أطلق حزمة عقوبات على القاعدة وطالبان وفرض قيودا صارمة على تمويلهما أو توريد الأسلحة لهما، وحذّر من "تعاون الشر" القائم بين الحركتين.
لم تعطّل هذه الإجراءات استمرار التعاون بين القاعدة وطالبان. فبعد صدور هذا القرار بعامٍ واحد، أعلن بن لادن مبايعته للملا عُمر زعيم تنظيم طالبان. وهو ما أكّد للعالم أن الرجلين يسيران في مركبٍ واحد، وأن طالبان لن تكفَّ عن حماية القاعدة فيما لن تتوقف القاعدة عن مساعدة طالبان في ترسيخ أقدامها في أفغانستان.
مثّلت هذه المساعدات جائزة كبرى لطالبان التي لم تكن قد نجحت في فرض سيطرتها على كامل أفغانستان بعد، وإنما بسطت سيطرتها على قرابة 90% من مساحة البلاد، بعدما ظلَّ جيب في الشمال متمردًا عليها بسبب رفض زعيمه أحمد شاه مسعود الاستسلام للحركة مشكلاً قوة عسكرية عُرفت بِاسم "التحالف الشمالي".
إزاء الرفض الدولي المتصاعد لطالبان، تزايد التعاطف العالمي مع "التحالف الشمالي"، وأصبح يشكل خطورة كبرى على النظام الطالباني. عرضت طالبان على مسعود السلام أكثر من مرة لكنه رفض. وحتى عندما نجحت في الاستيلاء على "مزار شريف"، أحد معاقل تحالف الشمال استمرّ مسعود رافعًا راية العصيان، وظلَّ رمزًا لرفض سيطرة الحركة على البلاد.
فجأة، اغتيل مسعود بشكلٍ غامض قبل يومين من وقوع أحداث 11 سبتمبر. وبالطبع فإن طالبان كانت المتهم الأول بقتله إلا أنها -وقتها- لم تكن تعترف بالعمليات الانتحارية وسيلة قتالية ولا تحبذ استخدامها. لذا فإن أغلب التحليلات رجّحت أن القاعدة نفّذت تلك العملية هدية لحليفتها.
يقول صادق الركابي في كتابه "الانتحار الجماعي": "خطّط لهذه العملية وأشرف عليها أيمن الظواهري وبعض رفاقه من الجهاد الإسلامي أحد أجنحة القاعدة، بعدما أرسل لمسعود جهاديين تنكّروا في زيِّ صحفيين يطمعون في إجراء مقابلة معه ثم قتلوه. تركت هذه العملية تحالف الشمال دون قائد وأزاحت آخر عقبة أمام سيطرة طالبان التامة على البلاد.
مثّلت هذه العملية دفعة كبيرة لمكانة القاعدة داخل طالبان، وأسكتت جناح الأقلية الذي كان يُنادي بالتخلي عن بن لادن. عقب وفاة مسعود دان الشمال لسيطرة طالبان. ووفقًا لدراسة "دور الدين والفكر والهوية في تحالف طالبان مع القاعدة في أفغانستان" لمحمد أيوب مرداد أستاذ العلاقات الدولية، فإنه بدون الدور الذي لعبته القاعدة، لم تكن طالبان لتستطيع مواصلة البقاء في السُلطة.
طالبان تعود إلى الحكم
بعد الاجتياح الأميركي لأفغانستان سنة 2001، تحولت حركة طالبان إلى حرب العصابات المسلحة، فيما غادر الكثير من قادة القاعدة البلاد بالتزامن مع لجوء زعيمي التنظيم، بن لادن والظواهري، إلى التواري عن الأنظار.
لكن الحركتين حافظتا على علاقتهما وبشكل علني حتى. أكد بن لادن بيعته للملا عمر أكثر من مرة. وبعد مقتله في 2011، جدد الظواهري البيعة لزعيم طالبان الملا عمر. وبعد موت الأخير، أعلن الظواهري بيعته لخلفه أختر منصور، ثم مجددا لهبة الله أخوند زاداه.
لكن في الأشهر الأخيرة التي سبقت اتفاق الدوحة، بدا أن طالبان تحاول، علنيا على الأقل، وضع مسافة مع القاعدة. وظل مسؤولوها يؤكدون أن القاعدة لم تعد تنشط في أفغانستان، قبل أن يتعهدوا في اتفاق الدوحة بضمان ألا تصبح أفغانستان منصة للجماعات الإرهابية من أجل استهداف أميركا وحلفائها.
رغم كل هذا، ظلت علاقة طالبان بالقاعدة إحدى علامات الاستفهام الكبرى. فالحركة اتخذت موقفًا عائمًا من إدانة القاعدة. فبعدما أكدت تسمكها باتفاق الدوحة وأنها لن تسمح لأي تنظيمات عسكرية باستخدام أراضيها لمهاجمة الغير، فإن ذبيح الله مجاهد المتحدث بِاسم طالبان أعلن عدم وجود أي دليل على تورُّط القاعدة في هجمات سبتمبر بالرغم من اعتراف قيادات القاعدة أنفسهم بتدبير تلك الهجمات وآخرهم أيمن الظواهري.

وبحسب تعبير رحمة الله أميري، فطالما أن طالبان لم تُدِن القاعدة بشيء، فإنها لم تكن لتتخذ ضدها أي إجراءات ولن تلتزم بتعهداتها الدولية، وأبرزها اتفاقية الدوحة.
هذا الموقف غير الواضح دلَّ على أن طالبان لم تتخلّ عن حليفتها التاريخية. وفي مايو 2022 نشرت الأمم المتحدة تقريرًا أكدت فيه أن العلاقة بين القاعدة وطالبان "لا تزال وثيقة"، معتبرة أن عودة الحركة للسيطرة على حُكم أفغانستان منح القاعدة حرية التصرّف للعمل في البلاد من جديد.
وبحسب التقرير، فإن التنظيم جدّد مبايعته لهبة الله أخوند زاده الزعيم الحالي لحركة طالبان، والذي سمح للمئات من عناصر القاعدة بالانتشار في عددٍ من مقاطعات أفغانستان.
وبرغم نفي طالبان المستمر لإيوائها أي حركات إرهابية، فإن عملية اغتيال أيمن الظواهري، زعيم القاعدة، منذ أيام، في كابل تؤكد العكس تماما. فالرجل قتل في منزلٍ في العاصمة تعود ملكيته لأحد مساعدي سراج الدين حقاني وزير داخلية طالبان.