في خطوة متوقّعة، قرّر أكثر من 500 مواطن أميركيي كانوا ضحايا هجمات إرهابية بين عامي 2005 و2021 مقاضاة شركة إريكسون بتهمة دعم الإرهاب.
استند المدّعون في قضاياهم إلى الفضيحة التي انفجرت بداية هذا العام، بعدما كشف تحقيق صحفي استقصائي تورُّط العملاق السويدي في دفع رشى منتظمة لتنظيم داعش إبان ذروة قوته وسيطرته على 40% من أراضي العراق، للسماح للشركة بمواصلة عملياتها الفنية على الأراضي الخاضعة له. وأضاف التحقيق أن عناصر التنظيم الإرهابي كانوا يستخدمون خدمات إريكسون لتسيير أعمالهم.
ويُتيح قانون مكافحة الإرهاب الأميركي الصادر، عام 1990، لضحايا الإرهاب اللجوء إلى المحاكم الأميركية وطلب تعويضات من الشركات والأفراد الذين تثبت مساعدتهم للإرهاب بأي شكل.
الشركة السويدية المعروفة تتجنّب حتى الآن الاعتراف بالتُهم المُوكلة إليها على وقع التحقيقات الصحفية، بعدما اكتفت بفتح تحقيق في هذه الوقائع لم يُفضِ إلى نتيجة حتى الآن. وعقب البدء في تحريك الدعاوى، أعلنت إريكسون أنها ستدافع عن نفسها "بحماس" أمام القضاء الأميركي.
وثائق إريكسون: ماذا جرى؟
أمضى 22 صحفيًّا دوليًّا شهورًا في تصفّح آلاف الوثائق وراجعوا 22.5 مليون رسالة بريدية متبادلة بين موظفي الشركة، كما أجروا مقابلات مع مسؤولين حكوميين وعشرات العاملين في صناعة الاتصالات داخل العراق ولندن وواشنطن والأردن ولبنان. أفضت هذه الجهود عن إصدار تقرير دسم قوامه 79 صفحة تطرق إلى الاختلالات التي شابَت أعمال شركة إريكسون في العراق.
NEW: The #EricssonList investigation uncovers the telecom giant’s years-long campaign of bribery and fraud in war-torn Iraq, secret dealings in ISIS-controlled areas and a pattern of misconduct on a global scale. 🧵 https://t.co/fqe7ppCPCd
— ICIJ (@ICIJorg) February 27, 2022
بدأت تفاصيل الأزمة، حينما اجتاح تنظيم داعش أراضي العراق سنة 2014، بعدما حاز مساحاتٍ واسعة في سوريا ليصل إجمالي المواطنين الذين يعيشون في "دولته" حينها قرابة 8 ملايين شخص. لم يتوقّف الأمر على هذا النحو، وإنما زاد الوضع سوءًا حينما امتدت سيطرة داعش إلى مناطق نشطت فيها أعمال أريكسون، مثل محافظة الموصل التي سقطت بين أيدي الإرهابيين في 10 من يونيو عام 2014.
في اليوم التالي لذلك الحدث، اقترح أحد الموظفين البدء في وقف الأعمال في "مناطق داعش" باعتبار أن الشركة تعرضت لـ"قوة قاهرة" (Force majeure) تعيقها عن الاستمرار وهو عُذر تكفله لها العقود المبرمة ويجنّبها أي تعويضات أو ملاحقة قضائية من أي جهة، وهي التوصية التي رفضها كبار المسؤولين التنفيذيين بإريكسون معتبرين أن "المغادرة ستدمر أعمال الشركة"، حسب التحقيقات.
في هذه اللحظة، لم تستطع الشركة تخيّل التخلي عن حصتها في "سوق الاتصالات" في العراق. وهو السوق الذي تعرفه جيدا، بحُكم عملها في العراق منذ الستينات بعدما ساهمت في تركيب نظام الهواتف الأرضية في بغداد، لكنها لم تؤمِّن لنفسها عقودًا مربحة إلا في عهد "ما بعد صدام"، بعدما اتفقت مع قطاع البريد على تحديثه تكنولوجيًا وتقديمها معونات فنية لشركات المحمول الجديدة.
طيلة حُكم صدام حسين للعراق كانت الهواتف المحمولة ممنوعة. لذا كان 30 مليون عراقي متعطشين لتجربة تلك التقنية فور الإطاحة به. في 2007 منحت الحكومة العراقية تراخيص لـ3 شركات هواتف محمولة ("آسيا سيل"، "زين العراق"، و"كورك") لتقديم خدماتها بالعراق مقابل 1.25 مليار دولار.
حضرت إريكسون في هذه الصفقة بشكلٍ غير مباشر بعدما قدّمت معونات فنية للشركات الثلاثة. وفي النهاية بلغت أرباح أنشطة إريكسون في العراق قرابة 1.9 مليار دولار خلال الفترة من 2011 و2018.
وحسب التحقيقات الصحافية، فبعد شهر واحد فقط من صدور توصية "عدم الانسحاب مهما كان الثمن"، طلبت إريكسون من شريكتها في العراق "آسياسيل كوميونيكيشنز" بحث الحصول على إذن من داعش لمواصلة العمل في الموصل. إحدى عمليات هذا الاتفاق شابتها مشاكل خطيرة، وهو ما عرّض عددًا من العاملين بإريكسون للخطر عقب اختطاف "داعش" لاثنين منهم. وحينما توجّه صحفيو التحقيق بسؤالٍ لإريكسون عن هذه الواقعة بالذات رفضت التعقيب!
في عملية الاختطاف تلك، هدّد قيادي داعشي موظفي الشركة بمنحه ملايين الدولارات وإلا سيفجر مقاتلوه مكاتبها ويهدمون أبراجها، وهو ما استجابت له إريكسون بعد أسابيع من المفاوضات، ليبدأ المال السويدي بالتدفّق على داعش بدءًا من عام 2014.
وحسب التحقيقات الصحافية، فإن الشركة لم تكتفِ بالسماح لها بالعمل داخل الموصل مقابل إتاوة شهرية، وإنما استخدمت طرقا يسيطر عليها التنظيم المتطرف لنقل معدتها. فخلال عملية معقدة لنقل عشرات المعدات من أربيل إلى الرمادي، كان أمام الشركة السويدية خياران: استخدام طريق آمن تابع للدولة العراقية لكنه يعجُّ بنقاط تفتيش رسمية تفرض جمارك باهظة، أو استخدام طريق آخر يمرُّ بمناطق خاضعة لـ"داعش".
وفقًا لحسابات الأرقام، كانت ما ستدفعه إريكسون لداعش أقل مما ستدفعه كجمارك للحكومة العراقية الاتحادية فاختارت "الطريق الداعشي". وبحسب التحقيق، دفعت الشركة ما بين ألفي إلى 4 آلاف دولار مقابل السماح للسيارة الواحدة بالمرور إلى وِجهتها النهائية. وكانت الشركة تحرص على إزالة شعارها من فوق الشاحنات التي تتعامل مع مقاتلي داعش إمعانًا في التمويه.
وكشف التحقيق أيضا أن 10 من موظفي الشركة دفعوا رشى لعددٍ كبير من رجال الدولة العراقية في وزارات سيادية كالدفاع أو في مناصب تنفيذية مثل المجالس المحلية تجاوزت قيمتها الـ37 مليون دولار. لاحقًا كانت هذه الأموال تُقيد في الدفاتر الرسمية باعتبارها تبرعات للأطفال اللاجئين!
الشركة تتهرب ثم تعترف
خلال التحقيق، حاول الصحفيون العاملون عليه الحصول على عددٍ من الإجابات من إريكسون لكنها رفضت. بدلاً من ذلك أصدرت الشركة بيانًا فضفاضًا اعترفت فيه بـ"سوء السلوك المرتبط بالفساد في العراق"، وهو ما اعتُبر اعترافًا ضمنيًا وغير مباشر بالفضيحة.
بعدها، أجرى بوري إيكهولم الرئيس التنفيذي للشركة عدة مقابلات مع وسائل إعلامية لم تشترك في كشف "فضيحة الوثائق" وصرّح بأن شركته "ربما تكون قد سدّدت مدفوعات غير مشروعة في العراق"، لكنه رفض الكشف عن المزيد من التفاصيل، مكتفيًا بأن تحقيقات موسعة تجري حاليًا لبحث أمر "نفقات غير عادية في العراق".
عقب هذا الاعتراف، حاولت الشركة التخفيف من وقْع الصدمة فأصدرت بيانًا تعهّدت فيه بالالتزام بـ"ممارسة الأعمال التجارية بطريقة مسؤولة، والتزامها بتطبيق معايير مكافحة الفساد".
لم يحقق هذا البيان أي تأثير. وفي اليوم التالي لـ"تصريحات إيكهولم" تراجع سِعر أسهم إريكسون بنسبة 15% تقريبًا، وفقدت 4.4 مليار دولار من قيمتها السوقية وهو أكبر انخفاضٍ لها في يومٍ واحد منذ يوليو 2017، كما أعلن العشرات من المستثمرين في الشركة اعتزامهم مقاضاتها بسبب حجبها "معلومات جوهرية عن مدفوعاتها للإرهابيين"، فيما أعرب آخرون عن رغبتهم في الإطاحة بإيكهولم الرئيس التنفيذي من منصبه.
تاريخ طويل مع الفساد!
لم تكن هذه أول فضيحة فساد كبرى تتورّط فيها الشركة السويدية التي تجاهد لترسيخ مكانتها في ظل المنافسة الجبارة التي تواجهها من العملاق الصيني هواوي. في 2013، زعم مسؤول تنفيذي سابق في الشركة، أنها كانت تدفع رواتب منتظمة لمسؤولين حكوميين في رومانيا مقابل منحها حصصًا أكبر في السوق. وهي الخطوة التي أثارت انتباه السُلطات الأميركية فبدأت تحقيقات موسّعة لبحث أنشطة الشركة.
في 2019، أفضت التحقيقات إلى اعتراف الشركة بارتكابها ممارسات فساد داخل عشرات الدول على مدار 17 عامًا، مثل الصين والبحرين وكرواتيا ومصر والبرتغال والمغرب ولبنان والولايات المتحدة (لم يكن العراق من بينها).
في لبنان، قدّمت الشركة "هدايا" قيمتها 800 ألف دولار لأعضاء الحكومات بين عامي 2010 و2019.
من بين هذه الدول، لم تنشط في "المسار العِقابي" إلا الصين وأميركا بعدما خاضتا مفاوضات مضنية مع إريكسون انتهت بتوقيع اتفاقيات تسوية ضخمة. بلغت قيمة هذا الاتفاق في أميركا وحدها مليار دولار، وهي واحدة من أكبر التسويات القضائية في تاريخ أمريكا. وحسبما قالت وزارة العدل الأميركية في بيانها فإن "سلوك إريكسون الفاسد شمل مدراء تنفيذيين رفيعي المستوى وامتد 17 عاماً وفي خمسة بلدان على الأقل. كل ذلك في محاولة مضللة لزيادة الأرباح".
رغم ضخامة مبلغ الغرامة فإنها تبقى رقمًا متواضًعا بالنسبة لشركة تجني 24 مليار دولار سنويًا حصيلة استثماراتها المنتشرة في كافة أنحاء العالم، ولم تشكل رادعًا أمام الشركة للاستمرار في نهجها، وأبرز دليل على ذلك هو ما جرى في العراق.
وفي أبريل من هذا العام، عاد إيكهولم وصرّح بأنه يتوقّع دفع غرامة إضافية "لا يُمكن تقدير حجمها" إلى السُلطات الأميركية بسبب "فضيحة داعش"، والتي سيُنظر لها بلا شك على أنها خرق لـ"تسوية 2019"، حسبما أعلنت وزارة العدل الاميركية. وهو التصريح الذي فتح الباب لإثارة مخاوف المستثمرين في الشركة من تضرر موقفها المالي إزاء العقوبات المرتقبة.
رغم كل هذه التداعيات، فإن إريكسون ترفض الاعتراف بذنبها حتى الآن. ففي الشهر الماضي، أصدرت الشركة بيانًا كشف آخر التحديثات المرتبطة بالقضية وهي أنها لا تزال "تحقق في هذه الأمور بالتعاون مع السُلطات الأميركية" لذا فإنها أكدت أنها لا تستطيع الإعلان عن نتيجة نهائية في الوقت الراهن، كما أن مجلس إدارتها تمسّك بدعم الرئيس التنفيذي إيكهولم معتبرًا أنه حقق نجاحًا كبيرًا "في أداء الشركة، وفي صعيد التحول الأخلاقي للمؤسسة" ليُجهض بذلك محاولات بعض المساهمين في الشركة للتخلُّص منه.