اعترفت شركة الأسمنت الفرنسية "لافارج" أمام محكمة أميركية بتقديم أموالٍ إلى تنظيم "داعش" خلال فترة تمدّده في الأراضي العراقية والسورية.
وبموجب هذا الاعتراف، عُوقبت الشركة بغرامة باهظة قُدّرت قيمتها 777.8 مليون دولار بسبب تعاونها مع التنظيم المتطرف.
أعلنت شركة لافارج للاسمنت الفرنسية ومجموعة "هولسيم" السويسرية الأمّ الثلاثاء أن لافارج ستسدّد غرامة 778 مليون دولار لوزارة العدل الأميركية لمساعدتها مجموعات إرهابية منها تنظيم الدولة الإسلامية خلال الحرب في سوريا. pic.twitter.com/ukKZuHXOfx
— IrfaaSawtak ارفع صوتك (@IrfaaSawtak) October 18, 2022
واعتبر بريان بيرس المدعي العام في مقاطعة بروكلين بنيويورك التي استضافت جلسات محاكمة الشركة، أن الملايين التي دفعتها الشركة إلى التنظيمات الإرهابية استُعملت لـ"تجنيد الأعضاء وشن حرب على الحكومات وتنفيذ عمليات إرهابية وحشية عبر العالم، بما فيها عمليات استهدفت مواطنين أميركيين. كل ذلك جرى من أجل مواصلة بيع الإسمنت".
وبدورها، قالت ليزا موناكو نائبة المدعي العام إن ما قامت به "لافارج" دلالة جديدة على "درجة الانحدار التي وصلت إليها جرائم الشركات".
Lafarge Pleads Guilty to Conspiring to Provide Material Support to Foreign Terrorist Organizationshttps://t.co/YASJ8wMkg2
— U.S. Department of Justice (@TheJusticeDept) October 18, 2022
لافارج في سوريا
في عام 2010، افتتحت الشركة مصنعًا في قرية الجلبية أقصى شرق حلب، بعدما اشترته قبل 3 سنوات، واستثمرت فيه 860 مليون دولار، ما اعتُبر واحدا من أكبر الاستثمارات الأجنبية في سوريا حينها، وكان بداية لتدشين فرع الشركة في سوريا، الذي عُرف بِاسم "لافارج إس إي".
وبحسب تحقيق نشرته "نيويورك تايمز"، عن أنشطة لافارج في سوريا، فإن "لافارج" اشترت ذلك المصنع بالشراكة مع رجل الأعمال السوري فراس طلاس، نجل وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس، والذي تمتّع بعلاقاتٍ وثيقة مع الرئيسين بشار الأسد ووالده حافظ الأسد.
أمّنت هذه الشراكة لـ"لافارج" الحصول على حليف محلي يتمتّع بنفوذٍ عالٍ في سوريا يُمكنه إنهاء كافة تراخيص العمل وأي إجراءات بيروقراطية أخرى بسهولة، ما بشّر بأن استثماراتها في سوريا سريعًا ما ستعود عليها بالكثير من الأرباح.
عقب اندلاع الحرب في سوريا، قرّرت الشركة الاستمرار في أنشطتها التجارية خلافًا لموقف أغلب الشركات الغربية التي فضلت الانسحاب من مناطق القتال في سوريا.
وضَعَ هذا القرار استثمارات الشركة على خطوط التماس مع التنظيمات الإرهابية التي نجحت في الاستيلاء على حلب، ما جعل "لافارج" تلجأ إلى التعاون مع الإرهابيين كي لا تضيع استثماراتها هباءً. وبموجب اتفاق سري، دفعت لافارج أموالا لتنظيمي داعش والنصرة، ليتمكن مصنعها من مواصلة نشاطاته، وتحقق قرابة 70 مليون دولار من العائدات بين عامي 2013 و2014.
ووفقا لـ"نيويورك تايمز"، فإن ذلك التعاون لم يضمن أمانًا دائمًا للعمال. فما بين عامي 2012 و2014 خطف المتطرفون ما لايقل عن 10 عمّال لدى الشركة، وهي أفعال وضعت العاملين لدى الشركة تحت ضغط تهديدات المسلحين.
وكشف بعض العاملين في "لافارج" للصحيفة الأميركية، أنهم كانوا يتعرضون لإطلاق الرصاص في طريقهم للمصنع، لكنهم كانوا مضطرين للسير في ذات الطريق يوميًّا كيلا تُحاسبهم الشركة على الغياب.

وبحسب بيان صادر عن وزارة العدل الأميركية، فإن "لافارج" كانت تدفع لـ"داعش" 750 ليرة سورية عن كل طن إسمنت تبيعه مقابل اتّخاذ إجراءات بحقِّ منافسيها مثل منع بيع الإسمنت التركي المستورد، ما سمح لها بالانفراد بالسوق ومن ثم رفعت أسعارها فحقّقت المزيد من الأرباح.
وحسب ماثيو أولسن، مساعد المدعي العام الأميركي، قامت لافارج "بتحويل ما يقرب من ستة ملايين دولار من المدفوعات غير المشروعة إلى اثنتين من أكثر المنظمات الإرهابية شهرة في العالم - داعش وجبهة النصرة في سوريا - في الوقت الذي كانت فيه هذه الجماعات تقوم بمعاملة المدنيين الأبرياء بوحشية في سوريا وتخطط بنشاط لإلحاق الأذى بالأميركيين".
في النهاية، لم يدم هذا الوفاق بين الطرفين بعدما أقدم مسلحو داعش على الاستيلاء على المصنع أواخر عام 2014 لينهوا بذلك وجود الشركة الفرنسية في سوريا. لكنّهم خلّفوا وراءهم فضيحة مالية لم يكن من السهل أبدًا إنهاؤها حتى بعد مرور العديد من السنوات على ارتكابها.
انكشاف الفضيحة
في عام 2017، اتّهمت منظمات حقوقية فرنسية -منظمة شيربا والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ثم انضمت إليهما لاحقًا منظمة "كريدو"- عملاق الإسمنت الفرنسي بدفع 12.79 مليون دولار للجماعات الإرهابية في سوريا مقابل السماح له بالاستمرار في أعماله. ليس هذا وحسب، وإنما أكدت المنظمات أن "لافارج" كانت تزوّد "داعش" بالإسمنت، كما كانت تدفع لفصائل إرهابية أخرى لتزويدها بما تحتاج إليه من مواد خام.
لاحقا، نشرت صحيفتا "لوموند" و"ليبراسيون" العديد من التقارير التي جعلت لافارج محطَّ أنظار الشارع الفرنسي، وألمحت الصحيفتان الفرنسيتان، إلى أن قيادات هامة في الدولة كانت على علم بأنشطة المصنع مثل قادة المخابرات وحتى الرئيس الفرنسي حينها فرانسوا هولاند.
على وقع تلك الاتهامات، أطلقت الشركة تحقيقًا داخليًّا أكّد تقديم رشى للمنظمات الإرهابية في سوريا. على إثر تلك التحقيقات تقدّم إيريك أولسون أحد المدراء التنفيذيين لـ"لافارج" باستقالته عام 2017، وكذلك استقال سعد صبّار رئيس مجلس إدارة "لافارج" من منصبه في ذات العام.
وسريعا، دخل القضاء الفرنسي خط الأحداث، فبدأ ينظر مجموعة من القضايا المرفوعة من منظمات غير حكومية وموظفين سابقين في "لافارج" ضد الشركة.
اتُّهم برونو بيشو وفريديريك جوليبو، وهما مديران سابقان لفرع الشركة في سوريا، وكذلك مدير أمن المجموعة جان كلود فيار، بـ"تمويل شركة إرهابية" و"تعريض حياة الآخرين للخطر". بعدها، جرى توجيه اتهام لبرونو لافون رئيس مجلس الإدارة والمدير العام السابق للمجموعة (2007-2015)، وإريك أولسن المسؤول عن الموارد البشرية في ذلك الوقت، ونائب المدير التشغيلي السابق كريستيان هيرو، ليصل مجموع كوادر الشركة الذين لُوحقوا قضائيًا 8 أفراد.
وفي مايو الماضي، أدانت محكمة الاستئناف الفرنسية الشركة بتهمة "التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية"، وهو ما مثّل سابقة تاريخية إذ لم تُحاكم أي شركة فرنسية من قبل على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

لم يضع هذا القرار حدًّا لإنهاء ملاحقة الشركة قضائيًّا، بل ازداد موقفها صعوبة حينما وصل الأمر إلى ساحات المحاكم الأميركية.
دعم الإرهاب مقابل بيع الإسمنت
وبحسب الادعاء الأميركي، فإن فرع "لافارج" في سوريا دفع لتنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" 5.92 ملايين دولار للسماح لها بالاستمرار في تشغيل المصنع وتوفير الحماية لعمّاله،. ووفقًا للادعاء الأميركي فإن مديري "لافارج" برّرو دفع تلك الأموال بأنها أمر أشبه بدفع "الضرائب" للحكومات المحلية مقابل تسيير الأعمال.
ووفقًا لما نشرته وزارة العدل الأميركية، فإن مديري الشركة حاولوا عدم توريط اسم "لافارج" في أي تعاملات مع الإرهابيين، فحرصوا على عدم ذِكر اسم الشركة في أي وثيقة، كما استعمل كلٌّ منهم بريده الإلكتروني الشخصي بدلاً من بريد الشركة خلال المباحثات بشأن كمِّ الأموال اللازم تمريره للإرهابيين، ودبّروا العديد من الفواتير المزيّفة لتبرير إنفاق هذه الأموال. رغم ذلك فإن كل هذه الإجراءات لم تُجنّب الشركة الفضيحة.
منذ عام 2015، صار مصنع حلب جزءًا من الكيان الاقتصادي الجديد الذي نشأ عقب اندماج "لافارج" الفرنسية و"هولسيم" السويسرية وحمل اسم "لافارج هولسيم". لذا حرصت "هولسيم" على تبرئة نفسها من كافة هذه الأحداث معتبرةً أن تلك الإجراءات كانت مجهولة تمامًا لمجلس إدارتها عند الاندماج بين الشركتين عام 2015.
هذا التبرؤ من الذنب لم تكن "لافارج" قادرة على الإتيان بمثله، فعقب صدور القرار القضائي الأميركي بإدانتها أصدرت بيانًا أكّدت فيه "اعترافها بالذنب بتهمة تقديم دعم مالي لمنظمات إرهابية في سوريا منذ أغسطس 2013 حتى أكتوبر 2014".
وأعربت الشركة عن "ندمها الشديد" على ما حدث، مُعتبرة أن سياسات مديريها التنفيذين بهذا الخصوص هي "خرق سافر" لأخلاقيات الشركة.
بموجب هذا الاعتراف، وافقت الشركة على مصادرة 687 مليون دولار من أموالها، وكذلك دفع غرامة بقيمة 90 مليون دولار.
فور الإعلان عن هذا الاتفاق عُلق التداول مؤقتًا في أسهم مجموعة "هولسيم" في البورصة السويسرية مع توقّعات أن تحقّق الشركة خسائر متفاقمة خلال الأيام المقبلة.