بعد فترة حكم أولى بين 1996 و2001، عادت طالبان إلى حكم أفغانستان مرة أخرى وسط مخاوف من انتشار التطرف وانتهاكات حقوق الإنسان
بعد فترة حكم أولى بين 1996 و2001، عادت طالبان إلى حكم أفغانستان مرة أخرى وسط مخاوف من انتشار التطرف وانتهاكات حقوق الإنسان

أعادت فقرات حول الوهابية كتبها القيادي البارز في حركة طالبان عبد الحكيم حقاني، في كتابه "تتمّة النظام في تاريخ القضاء في الإسلام"،  إحياء الجدل مجدداً بين أنصار تنظيم "القاعدة" حول طبيعة العلاقة مع طالبان والموقف الذي يجب اتخاذه إزاءها.

هاجم حقّاني في الكتاب الدعوة الوهابية واعتبرها "فتنة" شغلت الدولة العثمانية في الجزيرة العربية أول ظهورها، واصفا أصحابها بأنهم "كثر شرهم وتزايد ضررهم وقتلوا من الخلائق ما لا يحصى واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم".

واتهم حقاني مؤسس الدعوة محمد بن عبد الوهاب " بالزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين، وخالف فيه أئمة الدين وتوسل بذلك إلى تكفير المؤمنين" على ما جاء في الكتاب.

واسترسل في سرد بعض مآخذه على الحركة الوهابية مثل تحريمها التوسل بقبر النبي وزيارته، واعتبار  "نداء الأنبياء والأولياء عند التوسل بهم" من الشرك، و كذا ادعائها أن "من أسند شيئاً إلى غير الله ولو على سبيل المجاز العقلي يكون مشركاً".

واعتبر حقاني أن محمد بن عبد الوهاب "أتى بعبارات مزورة زخرفها ولبس بها على العوام حتى تبعوه".

بذهول، تداول أنصار "القاعدة" في قنواتهم على تطبيق "تيليغرام" مقتطفات من الكتاب، وسارعوا إلى كتابة رسالة إلى أبي محمد المقدسي لأخذ رأيه مما اعتبروه "طعن حقاني في الإمام المجدّد محمد بن عبد الوهاب"  وإجازته "الاستغاثة بالأموات ونصر القبورية الخرافية وأئمتهم وسب التوحيد والسنة ووصفهما بالفتنة". 

كان رد المقدسي مختزلاً في بضع كلمات: "لا ينبغي أن يكون كلامنا وخلافنا معهم حول شخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب بل حول مسائل التوحيد والشرك". وهنا يعود المقدسي بالخلاف مع طالبان إلى المربع الأول عندما وقف محتجاً على "شركيات الأفغان" أمام عبد الله عزام.

حقاني يريد أن يربط الأزمة ويعلّق الخلاف في أفكار محمد بن عبد الوهاب، والمقدسي يريد أن يجره إلى "حلبة" الشرك والتوحيد؛ حلبته المفضلة التي اعتاد "صرع" مخالفيه فيها.

الجدل الذي شهدته مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع الماضية عبارة عن حلقة متصلة من المناكفات التي بدأت مع وصول الجيل الأول من العرب المتشبعين بالفكر السلفي الوهابي إلى أفغانستان نهاية ثمانينات القرن الماضي للمشاركة في الحرب ضد السوفييت، وظل مستمراً على درجات متفاوتة من الحدة والخفوت إلى يومنا هذا.

 

صدمة الوهابيين

 

يستذكر أبو محمد المقدسي، أبرز منظري تنظيم "القاعدة" الذي صاغ أدبياته كلها معتمداً على تراث ونصوص الدعوة الوهابية، وصوله أفغانستان أول مرة وكيف انتابته مشاعر الخيبة والصدمة وهو يرى المقاتلين الأفغان "ينتهكون جناب التوحيد" عندما يعلقون التمائم (التعويذات) على صدورهم، ويتبرّكون بالأضرحة والمزارات، وهي ممارسات تصنفها الدعوة الوهابية في خانة "الشركيات" التي تذهب بأصل الدين.

ولعلّ أول نقاش حاد حول "الممارسات الشركية" للأفغان كان عندما وقف أبو محمد المقدسي واعترض بحماس بالغ على محاضرة كان عبد الله عزام يلقيها في أفغانستان وحثّ فيها المقاتلين العرب على احترام وتفهم تقاليد الشعب الأفغاني واختياراته الفقهية. احتجّ المقدسي على ما اعتبره مغالطات عبد الله عزام، قائلا إن "تحفّظ الوهابيين العرب ليس على الاختيارات الفقهية للشعب الأفغاني" ولكن على "مظاهر الشرك" المستفحلة في المجتمع.

أيدت جموع من الوهابيين موقف المقدسي واعترضت على عبد الله عزام، وساد الصراخ جنبات المسجد ما اضطرّ عزام إلى إنهاء محاضرته ومغادرة المكان، ومن يومها والفهم الوهابي للتوحيد والشرك كامن في صلب الخلاف بين تنظيم "القاعدة" ذي الجذور الوهابية وبين طالبان ذات الامتدادات الصوفية.

لم يكن المقدسي بمواقفه المتصلبة هذه يعبر عن أكثر المواقف الوهابية تشدداً إزاء التدين الأفغاني لكنها ستؤسس لاحقاً لمواقف أشدّ تطرفاً بلغت ذروتها في كتاب "كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخلّ بأصل الدين" الذي كفّر فيه كاتبه المجهول حركة طالبان، واعتبرها "راية شركية" لا يجوز الانتماء إليها.

خصص أبو قتادة الفلسطيني، وهو منظر جهادي أردني أيضا،  أكثر من 100 صفحة للرد على هذا الكتاب، واعتبر كاتبه مخالفاً "لسبيل المؤمنين.. ومن أهل الغلو والانحراف وأنه أتى بالطامة العظيمة والموبقة التي ترديه في حمأة التكفير البدعي المذموم".

كتب المقدسي مقدمة للكتاب أشاد فيها بمعظم مضامينه لكنه تحفظ على وصف الكاتب المجهول "بالغال الجاهل في دين الله الذي لا يدري ما يخرج من رأسه".

انتشرت حمى التكفير المستند إلى تعاليم الوهابية بين الجهاديين العرب في أفغانستان، ودفعت كثيرا منهم إلى مغادرة البلاد بحثاً عن "راية نقية" يقاتلون تحتها في مكان آخر، فيما انكفأ آخرون على أنفسهم واعتزلوا ما اعتبروه "شركيات و منكرات" مستشرية في المجتمع الأفغاني.
 

حقاني والوهابية

 

يُعتَبر عبد الحكيم حقاني من أهم القادة الروحيين لحركة طالبان، وأقرب المقربين إلى زعيمها هبة الله آخونذ زاده، فضلا عن شغله مناصب رفيعة في الحركة أبرزها قاضي القضاة ورئيس الإدارة العالية لمحاكم "الإمارة". ويصنف حقاني ضمن المرجعيات العلمية للحركة، وكاتب أدبياتها. وأشار زاده في تقديمه لبعض كتبه إلى أنها بمثابة إطار أيديولوجي ملزم لأعضاء الحركة وقادتها.

مواقف حقاني الوهابية تتسم بالحسم، بحيث لم يترك أي مساحة مشتركة مع أتباع الوهابية، ولم تدَع صرامةُ لغته مجالاً لتأويلها تأويلاً ينأى بها عن التصعيد والقطيعة مع التيار السلفي الوهابي. المعني الأول بموقف حقاني داخل التيار السلفي الجهادي الموالي للقاعدة هو أبو محمد المقدسي الشيخ الأردني الذي بنى أفكاره كلها على أرضية وهابية، ويعتبر أشهر كتبه "ملة إبراهيم" إعادة تدوير لأدبيات محمد ابن عبد الوهاب وتلاميذه.

 

الوهابية وطالبان.. شد وجذب

 

 مواقف عبد الحكيم حقاني لا تعتبر الأولى من نوعها إزاء الوهابية، لكنها من أكثرها وضوحاً وحسماً. فمنذ تأسيس "القاعدة"، والخلاف مع معتقدات الأفغان وحنفيتهم يشهد مداً وجزراً حسب طبيعة الموقف المثير للسجال والخلفية الشرعية والأيديولوجية لمنظرّي "القاعدة". ويمكن تصنيف هذه المواقف بين متشددة ومعتدلة ومنسجمة.

فالمواقف المتشددة هي التي عبر عنها المقدسي والزرقاوي وعدد من شيوخ وكتاب موقع "التوحيد والجهاد"، وهي مواقف وإن لم تصل إلى درجة التكفير، إلا أنها تؤكد دوماً على وجود خلافات مقلقة في مسائل التوحيد والشرك، وتراهن على حركة تصحيحية يقودها السلفيون داخل حركة طالبان للعودة بها إلى "منابع التوحيد الخالص".

المواقف المعتدلة، ويعرف بها كثير من كوادر التيار "الجهادي" وقادة "القاعدة" مثل أبي مصعب السوري، وعطية الله الليبي، وأبو قتادة الفلسطيني. وهؤلاء يعتبرون مسائل الخلاف مع طالبان لا تخرج عن نطاق "الفروع الفقهية" التي يسوغ فيها الخلاف، ويقرأون العلاقة مع طالبان قراءة "جيوسياسية" واستراتيجية، وليس قراءة عقدية مثل الفريق الأول.

المواقف المنسجمة، وهي المواقف التي قطعت مع القاعدة، وانحازت إلى حركة طالبان. ويجادل أصحابها بأن "القاعدة" والوهابية هما سبب نكبة الأفغان وخراب ديارهم، ويطالبون الحركة بإعلان قطيعة نهائية مع تنظيم "القاعدة".

ويعتبر مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) أهم صوت في هذا التوجه، وقد سخّر موقعه الالكتروني وعموده في مجلة "الصمود" التابعة لطالبان لإدانة الوهابية وتحميلها مسؤولية "حمامات الدم" التي شهدها العالم الإسلامي في العقود الثلاثة الماضي. وعلى منواله سارت شخصيات أخرى في موقفها من الوهابية و"القاعدة" مثل أبو ماريا القحطاني وكثير من قيادات هيئة تحرير الشام السورية.

تشكل لحظة "داعش" ذروة الاشتباك بين الوهابية وحركة طالبان، وقد وجدت "داعش" في المقولات الوهابية مسوغاً لحربها على الحركة التي تسميها "الميليشيا الشركية القبورية المرتدة". واستهداف داعش للمساجد ودور العبادة في أفغانستان يأتي في سياق ما تعتبره استهدافاً لـ"معابد الشرك" في البلاد.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

قَتل داعش خلال الأيام الأولى من الهجوم، بحسب الأرقام التي وثقتها مديرية شؤون الأيزيديين، 1293 أيزيديا.
في أقل من ثلاثة أيام، استعبد داعش أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال

يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين": "المُلك والدين توأمان. فالدين أصل والسلطان حارس. وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع". تشير تلك العبارة إلى العلاقة الوثيقة بين الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي. استعان السلطان بالفقيه ليشركه معه في قضايا الدولة والحكم. وبالمقابل، كثيرا ما عبّرت الفتاوى الدينية التي أصدرها الشيوخ والعلماء عن الإرادة السياسية للدول وأصحاب السلطة. 

في هذا المقال نلقي الضوء على مجموعة من الفتاوى المتعصبة في التاريخ الإسلامي التي بررت لأصحاب السلطة القتل والعنف، كما لعبت دورا مؤثراً في تأجيج الفتن والصراعات الطائفية والاجتماعية عبر القرون.

 

فتوى الغزالي ضد الإسماعيلية

 

عاش أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري. وحظي بمكانة مرموقة في الدولة السلجوقية التي فرضت سيطرتها على مساحات واسعة في كل من إيران والعراق وآسيا الوسطى. في هذا السياق، كتب الغزالي كتابه الشهير "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، والذي هاجم فيه الشيعة الإسماعيلية، والذين كانوا الأعداء اللدودين للسلاجقة في هذا الوقت.
 في هذا الكتاب، هاجم الغزالي جميع طوائف الشيعة قبل أن يفتي بتكفير الإسماعيلية منهم على وجه التحديد بسبب موقفهم من تأويل بعض الآيات القرآنية. فقال: "والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير مَن يعتقد شيئاً من ذلك، لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها". 

الآغا خان الرابع كريم الحسيني الزعيم الروحي للإسماعيلية النزارية.
"الأقلية الأكثر علمانية".. كيف عاش الإسماعيليون الثورة السورية؟
الإسماعيلية هي الجماعة الشيعية الأكبر بعد الاثني عشرية، ويمتد وجودها إلى أكثر من 25 دولة، كما يقدر أتباعها بحوالي 12 مليونا، ينتشرون في آسيا الوسطى وجنوب آسيا والصين وإيران وكينيا وسوريا واليمن، وبعض دول القارة الأوروبية، كما يوجدون في أميركا أيضا.

بعدها، حكم الغزالي بردة الإسماعيلية: "والقول الوجيز فيهم أنه يُسلك لهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة... ولا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم، ولا إلى المن والفداء، وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم". 

اُستخدمت تلك الفتوى على نحو سيء من قِبل السلطة السلجوقية. بموجبها، قُتل المئات من الشيعة في شتى أنحاء إيران، كما اُضطهد الآلاف منهم بسبب انتمائهم المذهبي. بعد سنوات من إصدار تلك الفتوى، اختار الغزالي أن يتنازل عن كل المميزات التي حصل عليها من الدولة السلجوقية، وترك عمله في المدرسة النظامية، لينطلق في رحلة طويلة في العديد من البلدان الإسلامية. على الرغم من أنه لم يُعلن صراحةً عن تراجعه عن فتوى تكفير الإسماعيلية، إلا أن بعض أفكاره الميالة للتسامح ظهرت بشكل واضح في العديد من كتبه المتأخرة، ولا سيما كل من "إحياء علوم الدين"، و"فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة".

 

فتوى ابن تيمية في أهل كسروان

 

عاش الفقيه الحنبلي تقي الدين ابن تيمية في القرن السابع الهجري. وعُرف بأفكاره الحادة التي مالت لتفسيق وتكفير العديد من الفرق الإسلامية المعاصرة له. في هذا السياق، اشتهر ابن تيمية بجملته "يُستتاب وإلا قُتل". وهي الجملة التي اعتاد أن يرد بها على العديد من الأسئلة التي وجهت إليه من قِبل طلابه ومريديه، كما تُعد فتوى تكفير أهل كسروان (في لبنان حاليا) واحدة من بين أكثر الفتاوى الدموية التي قال بها ابن تيمية طوال حياته.

يذكر الباحث جمال باروت في كتابه "حملات كسروان.. في التاريخ السياسي لابن تيمية" أن هناك اختلافاً كبيراً حول دين ومذهب أهل كسروان الذين أفتى ابن تيمية بتكفيرهم. والمُرجح أنهم كانوا من الشيعة الإمامية الاثني عشرية. يذكر باروت أن أهل كسروان هاجموا الجيش المملوكي المنهزم أمام المغول في معركة وادي الخزندار سنة 699ه، وأن المماليك كانوا ينتظرون الفرصة المواتية للانتقام منهم.

أفتى ابن تيمية بتكفير أهل كسروان، ومنح المماليك بذلك السند الشرعي للقتال. يقول ابن تيمية واصفا أهل كسروان: "إن اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر وبيعة الرضوان، وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك الإسلام وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شرّ من الكافر الأصلي". 

بموجب تلك الفتوى تحركت الجيوش المملوكية في سنة 1304 إلى منطقة كسروان. وقُتل المئات من السكان المسالمين، في واحدة من أبشع المذابح الدموية التي عرفها التاريخ الإسلامي.

وبعث ابن تيمية رسالة تهنئة إلى الملك الناصر بعد نجاح حملته ضد أهل كسروان. يقول فيها: "إن ما من الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام".

من الجدير بالذكر، أن تلك الفتوى تخالف العديد من الفتاوى الدينية التي قال بها علماء مسلمون آخرون على مر القرون. وهي الفتاوى التي لا ترى في الاختلاف المذهبي سبباً للكفر أو الخروج عن الدين.

 

فتاوى الصراع العثماني الصفوي

 

في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، اندلعت الحرب الدموية بين العثمانيين والصفويين. كانت العراق ميداناً لتلك المواجهات الدموية التي اختلط فيها السياسي بالديني. وتبادل الطرفان الانتصار والهزيمة لمرات عديدة، قبل أن تُعقد بينهما بعض المعاهدات السلمية في منتصف القرن السادس عشر.

خلال تلك المعارك الطاحنة، تم استدعاء الأبعاد المذهبية في الصراع. كان العثمانيون على مذهب أهل السنة، بينما كان الصفويون شيعة إمامية اثني عشرية. وتبادل الطرفان العديد من الفتاوى الدموية التي عملت على صبغ الحرب بالصبغة الطائفية.

على سبيل المثال، في سنة 1541م، كتب أحد رجال الدين العثمانيين السنة، ويُدعى حسين بن عبد الله الشرواني، رسالة بعنوان "الأحكام الدينية في تكفير القزلباش". أفتى الشرواني في تلك الرسالة بجواز قتل الشيعة. وقال إن "مَن قتل واحداً من هذه الطائفة الملعونة، فكأنما قتل وغزا سبعين نفراً من أهل الحرب بل أكثر". على الجهة المقابلة، كتب العالم الشيعي محمد باقر المجلسي كتابه الموسوعي "بحار الأنوار"، وأفتى فيه بتكفير عدد كبير من الصحابة. وقال بأن "كل مَن يحبهم -أي الصحابة- كافر، وكل مَن يشك في كفرهم فلعنة الله ورسوله عليه وعلى كل مَن يعتبرهم مسلمين، وعلى كل مَن لا يكفّ عن لعنهم".

 

فتوى قتل الإخوة للحفاظ على العرش

 

هناك أيضاً بعض الفتاوى التي أباحت إراقة الدماء للحفاظ على العرش والمُلك. من أشهر ذلك النوع من الفتاوى فتوى قتل الإخوة التي أفتى بها بعض رجال الدين في الدولة العثمانية. يذكر المؤرخ التركي المعاصر خليل إينالجيك، في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار"، أن السلطان محمد الفاتح أكد صراحةً على حق السلطان الجديد في التخلص من أعدائه المحتملين، حتى ولو كانوا من إخوته. نص الفاتح على ذلك في القوانين التي أصدرها تحت اسم "قانون نامة". ورد في تلك المجموعة: "وأيّ شخصٍ يتولّى السُّلطة من أولادي فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم". لكن العديد من الباحثين يشككون في صحة "قانون نامة"، ويشددون على أن السلطان محمد الفاتح لم يصدر أبداً نصاً بإباحة قتل الأخوة.

وبغض النظر عن مدى صحة "قانون نامة"، فإن بعض الفقهاء لم يترددوا في تأييد هذا الطرح. على سبيل المثال، قال الفقيه الحنبلي مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه المشهور "قلائد العقيان في فضائل آل عثمان": "ومن فضائل آل عثمان قتل أولادهم الذكور خوفاً من الفتن، وفساد ملكهم واختلاف الكلمة وشق العصا بين المسلمين، وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحد فيما أعلم. وهو وإنْ كان أمراً ينفر منه الطبع السليم بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبير ونفع كثير".

أيد الكرمي فتواه بآراء مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين أجازوا للسلاطين العثمانيين القتل والاغتيال في سبيل الحفاظ على السلطة. بموجب تلك الفتوى تم قتل العديد من الأمراء العثمانيين، كما أقدم بعض السلاطين على إعدام إخوته خوفاً من تمردهم عليه في المستقبل. 

هوجمت تلك الفتوى على نطاق واسع من جانب أكثر رجال الدين المسلمين في القرون السابقة. واُعتبرت فتوى شاذة، وأنها سقطة في تاريخ الدولة العثمانية. 

 

فتوى الخميني بهدر دم سلمان رشدي

 

صدرت في سنة 1988م رواية آيات شيطانية للكاتب البريطاني سلمان رشدي. أثارت الرواية ردود أفعال غاضبة واسعة النطاق. بعث متشددون برسائل تهديد للمؤلف ولدار النشر التي أصدرت الرواية. ومُنع الكتاب من التداول في أغلبية الدول الإسلامية، كما خرجت عشرات المظاهرات للتنديد به في كل من الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وإيران، والسودان، وغيرها. وأُحرق عدد كبير من نسخ الرواية في إنجلترا من قِبل المسلمين المحتجين.

لكن تظل الفتوى الصادرة عن رجل الدين آية الله الخميني، المرشد الأعلى السابق للجمهورية في إيران أشهر ردود الأفعال الغاضبة. أهدر الخميني دم سلمان رشدي بصفته مرتداً، وقال في فتواه: "إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون "الآيات الشيطانية" الذي ألف وطبع ونشر ضد الإسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته قد حكموا بالموت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الإسلام، ومن يُقتل في هذا الطريق فهو شهيد".

بسبب تلك الفتوى، تعرض رشدي للعديد من محاولات الاغتيال. كانت آخر تلك المحاولات تلك التي وقعت في الثاني عشر من أغسطس سنة 2022م، عندما تعرض الكاتب البريطاني للطعن في عنقه من قبل متطرف أثناء استعداده لإلقاء محاضرة في قاعة بولاية نيويورك الأميركية. من جهة أخرى، تعرضت فتوى الخميني لانتقاد العديد من المفكرين المسلمين، والذين رأوا فيها دعوة لنشر الإرهاب الفكري. 

 

فتوى تصفية جماعة الإخوان المسلمين

 

سقط حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في الثالث من يوليو سنة 2013م. زُج بعناصر جماعة الإخوان المسلمين في السجون. وشهدت مصر سلسلة من أحداث العنف التي لم تتوقف على مدار عدة سنوات. في هذا السياق، أفتى بعض رجال الدين المؤيدين للسلطة الجديدة بإباحة اللجوء للقوة ضد عناصر جماعة الإخوان المسلمين لكونها "جماعة إرهابية تخريبية" تستهدف إسقاط الدولة المصرية.

كانت فتوى مفتي مصر الأسبق علي جمعة من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق. أفتى جمعة في أحد المؤتمرات التي حضرها العشرات من القيادات العسكرية بجواز قتل عناصر الجماعة. شبههم في فتواه بالخوارج ووصفهم بكلاب أهل النار. وتابع قائلاً: "اضرب في المليان، إياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء... طوبي لمن قتلهم، وقتلوه... كان يجب أن نطهر مدينتنا من هؤلاء الأوباش... يجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب". انتقد الكثيرون كلام علي جمعة، وشددوا على خطأ تلك الفتوى وأنها صدرت لأهداف سياسية.

 

فتاوى داعش ضد الأيزيديين 

 

في سنة 2014م، اجتاحت قوات تنظيم "داعش" شمال العراق. وتمكنت من السيطرة على الموصل ونينوى، ليجد الأيزيديون الذين يعيشون في تلك المنطقة أنفسهم أمام واحد من أكثر التنظيمات المتطرفة في العالم في الفترة الأخيرة.

في أقل من ثلاثة أيام، استعبد داعش أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال. وبعد شهرين من احتلال سنجار، وزع التنظيم على مقاتليه كتيبا من 10 صفحات بعنوان "سؤال وجواب في السبي والرقاب"، أباح فيه سبي الأيزيديات، كما يرد في مقال سابق على "ارفع صوتك".

تعرضت فتوى داعش في حق الأيزيديين للانتقاد من قبل الكثير من الشخصيات والمؤسسات الإسلامية. من بينها دار الإفتاء المصرية، التي وإن لم تنكر تشريع الإسلام للسبي في الأصل، فقد اعتبرته بات محرما في الوقت الراهن.

في سنة 2015، أصدرت الدار، بناء على طلب من اتحاد علماء كردستان العراق، فتوى تقول إن مشاركة الدول الإسلامية في الاتفاقيات المتعلقة بإلغاء الرق في العالم تلغي الرق شرعيا.

واستشهدت دار الإفتاء بالاتفاقية الدولية لتحرير الرق في برلين سنة 1860 التي شاركت فيها دولة الخلافة العثمانية واتفاقية منع الرق سنة 1926 التي وقعتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم.

بالنسبة لدار الافتاء المصرية، تعطل هذه الاتفاقيات كل أحكام الرق شرعيا. تقول الدار "بذلك ارتفعت كل أحكام الرقيق وملك اليمين المذكورة في الفقه الإسلامي لذهاب محلها، وصار الاسترقاق محرما لا يجوز".