تنشط منذ عقود في الكونغو الديمقراطية عشرات االمليشيات والمجموعة المسلحة التي تسببت بواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، مع حصيلة من الضحايا فاقت ستة ملايين قتيل وأكثر من سبعة ملايين نازح ولاجئ منذ حرب الكونغو الأولى عام 1996.
أرقام الضحايا آخذة في الارتفاع مع دخول تنظيم داعش في المشهد الكونغولي، من خلال حركة "القوات الديمقراطية المتحالفة"
ينشط تنظيم داعش في الكونغو عبر جماعة متشددة تسمى "القوات الديمقراطية المتحالفة"، مسلحاً بأجندة دموية تقضي بالقضاء على الوجود المسيحي في مقاطعات الشمال الشرقي، وهي الأجندة التي يمضي بها قدما منذ أول عملية له في أبريل 2019.
أهداف سهلة
لطالما شكلت المجتمعات المسيحية أهدافا مثالية لتنظيم داعش، سواء كانت في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو شرق آسيا أو أي منطقة أخرى من العالم، فإضافة إلى كونها أهدافا سهلة، وتتيح له استعراض توحشه ودمويته بأقل التكاليف، فهي أيضاً -حسب إستراتيجيته- تمثل مفتاحاً مهماً من مفاتيح الصراع الذي يتغذى على الطائفية.
ومنذ خمس سنوات، يشن داعش حرباً ضد المسيحيين في شمال شرق الكونغو، وتشكل مقاطعة كيفو الشمالية مسرحا لها، وهي مقاطعة متاخمة للحدود الأوغندية والرواندية تعيش حالة من عدم الاستقرار منذ التسعينيات، وتعتبر بعض أقاليمها خصوصاً بيني ولوبيرو وإيتوري منكوبة بإرهاب داعش.
تصاعدت نشاطات التنظيم في هذه المقاطعة منذ أشهر، وتصدرت "ولاية وسط أفريقيا" إحصائيات عملياته. فمنذ بداية الشهر الجاري فقط نفذ التنظيم أكثر من 19 عملية أسفرت عن مقتل حوالي 80 شخصاً.
ومن بداية 2024 حتى كتابة التقرير، نفذ داعش 166 عملية في المقاطعة أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 861 شخصا، معظمهم من القرويين المسيحيين. وهي نسبة مرتفعة من الضحايا مقارنة بالعام الماضي التي قدرتها منظمة "ACLED" المتخصصة في جمع بيانات مناطق النزاع، بنحو 1000 قتيل.
ينشر تنظيم داعش في إعلامه الرسمي بشكل شبه يومي صورا توثق مذابحه المستمرة ضد مسيحيي مقاطعة كيفو الشمالية، وتظهر جثثاً مكبلة الأيدي ومقطعة الرؤوس أو ممزقة بالرصاص.
ولأن المجتمعات القروية هناك مسالمة في أغلبها وغير مسلحة، وتقطن في تجمعات صغيرة ونائية وسط الغابات، فإن التنظيم يلجأ في أحيان كثيرة إلى استخدام المناجل والسواطير والفؤوس لتنفيذ مجازره.
لا يكتفي التنظيم بقتل القرويين المسيحيين الذين تطالهم يده، بل يعمد إلى حرق القرى وتخريب الممتلكات وسلب الموارد وتدمير الكنائس، حتى لا يكون للفارين أي أمل في العودة إلى حياتهم السابقة، فيضطرون للرحيل إلى مناطق خارج المقاطعة. وهو كما يبدو مخطط تطهير ممنهج يهدف في النهاية إلى إبادة الوجود المسيحي في المنطقة، والتأسيس "لمدينة التوحيد والموحدين" وهي إحدى تسميات داعش في شرق الكونغو.
صمت دولي
قال جوليان بالوكو، الحاكم السابق لمقاطعة كيفو الشمالية إن الناس هناك "لديهم انطباع -سواء كان صحيحا أو خاطئا- بأنهم قد تُركوا لمصيرهم المحزن". وعلى الرغم من أن المجازر جارية على قدم وساق منذ سنوات إلا أن العالم لا يبدو مستعجلا من أجل وقفها.
واللافت أن تنظيم داعش بنفسه قد أثارت هذه الجزئية استغرابه، ذلك أنه يسعى في العادة لأن يتصدر اسمه عناوين الأخبار، حيث كتب قبل أيام في صحيفته "النبأ": "لا تكاد تهدأ غارات جنود الخلافة في وسط أفريقيا ضد النصارى وجيوشهم في حرب مستعرة منذ سنوات، ومع ذلك لا يحظى نصارى أفريقيا باهتمام إعلامي غربي يوازي الاهتمام بنصارى الغرب الصليبي".
وأثنى على عملياته في الكونغو التي "سالت فيها دماء عشرات النصارى وفرار الكثير من قراهم، تاركين أموالهم غنيمة أو وقودا لنيران المجاهدين" ، على حد تعبيره.
تصنف منظمة "الأبواب المفتوحة" جمهورية الكونغو الديمقراطية ضمن 41 بلدا في العالم حيث يواجه المسيحيون اضطهادا شديدا. وصنفت المنظمة في العام الماضي جمهورية الكونغو في المرتبة 37 ضمن قائمة 50 بلدا هي الأسوأ في اضطهاد المسيحيين، رغم أنهم يشكلون نسبة تفوق 79% من السكان.
من جانبها، قالت منظمة "إنترناسيونال كريستيان كونسيرن- ICC" إن "القوات الديمقراطية المتحالفة الموالية لداعش ترتكب أعمالا بربرية ووحشية ضد المسيحيين في الكونغو"، وأكدت على أن هذه الجماعة المتطرفة "قتلت على مدى عقود وشوهت واختطفت وشردت ملايين الأشخاص في كيفو الشمالية على الرغم من وجود قوات حفظ السلام والقوات المحلية والإقليمية في هذه المنطقة المضطربة".
ولا تزال القوات الديمقراطية المتحالفة "التهديد الأكثر فتكا للمسيحيين في مقاطعة كيفو الشمالية، والمدنيين عموما في شمال شرق الكونغو"، بحسب المنظمة.
وكتبت الناشطة الأكاديمية الأميركية ليندا بيركل، التي زارت الكونغو الديمقراطية: "قبل اندلاع العنف، كان لدى إحدى الطوائف الكنسية 25 كنيسة في منطقة بيني، واليوم لديها 8 كنائس فقط. وكانت لدى طائفة أخرى 54 كنيسة والآن لديها 11 كنيسة. وبلغت طوائف أخرى عن أنماط مماثلة من الاعتداء".
وأضافت "تتم مداهمة القرى المسيحية وإحراق الكنائس واختطاف المسيحيين وقتلهم بوحشية إذا رفضوا التخلي عن عقيدتهم".
شملت الانتهاكات الممنهجة التي ينفذها داعش في الكونغو، الاغتصاب واختطاف النساء والأطفال والاستعباد الجنسي. وقد أرسل إلى قيادته في سوريا والعراق جردا بما استولى عليه في بعض عملياته وتضمن "أطفالاً وفتيات وفتياناً ونساء" كما ذكرت منشورات له.
القوات الديمقراطية المتحالفة
القوات الديمقراطية المتحالفة هي ميليشيا أوغندية استقرت في شمال شرق الكونغو الديمقراطية، ودخلت في سلسلة من التحولات والتحالفات حتى انتهى بها المطاف إلى تقديم ولائها لتنظيم داعش في 2019 وغيرت اسمها إلى "ولاية وسط أفريقيا".
يعود تأسيس هذه الحركة إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهي تقاتل القوات الكونغولية والأوغندية منذ أكثر من عقدين. وحسب دراسة أصدرها "برنامج دارسة الإرهاب" التابع لجامعة "جورج واشنطن" الأميركية، فإن حركة "القوات الديمقراطية المتحالفة" بدأت مسلسل التحالف مع تنظيم داعش في سنة 2015، بعد أن فقدت مؤسسها وقائدها التاريخي جميل موكولو، المعتقل منذ ذلك الحين في أوغندا والمحكوم بالإعدام.
بعد ذلك، تحولت قيادة الحركة إلى الرجل الثاني في التنظيم وهو موسى سيكا بالوكو، وهو رجل أوغندي في عقده الرابع، متشبع بالأفكار المتطرفة.
بايع "بولوكو" داعش واختار لنفسه اسما جديدا هو "الشيخ أبو عبد الرحمن"، وظهر مرة واحدة في دعاية التنظيم وهو بصدد إعلان بيعته.
من التغييرات التي أجرتها قيادة داعش على نمط عمليات فرعها في الكونغو أنها وجهته نحو مزيد من التركيز على المسيحيين، ومن المتوقع أن ترتفع وتيرة استهدافهم في الفترة المقبلة، لا سيما مع رواج الأخبار التي تتحدث عن انتقال القيادة العليا لداعش إلى أفريقيا.
تتابع قيادة داعش تطورات عمل فرعها في الكونغو باهتمام كبير، وتدعمه ماليا عبر مكتب "الكرار"، وتغطي نشاطاته إعلاميا بشكل شبه يومي من خلال "وكالة أعماق"، وأسبوعيا عبر نشرة "النبأ".
وبدا التنظيم راضياً على المرحلة التي وصل إليها مخطط إبادة وتهجير المسيحيين في شمال شرق الكونغو، وهو ما عبر عنه الناطق الرسمي باسمه "أبو حذيفة الأنصاري" في آخر خطاب عندما أثنى على من وصفهم "عمالقة الأدغال وأسود النزال في وسط أفريقيا، الذين قعدوا للنصارى كل مرصد، قتلا وأسرا وتشريدا، فأدخلوهم في موجات نزوح مستمرة، وضربوا طرق تجارتهم وتنقلاتهم فلم يعد لهم مأمن في حل ولا سفر" وفق تعبيره.
وحثهم على مزيد من التركيز على القرى والتجمعات المسيحية قائلا "واصلوا جهدكم وجهادكم واقصدوا تجمعات النصارى ومراكز حكومتهم فذلك أنكى بهم وأشد عليهم".