لم يكد خبر مقتل زعيم حركة حماس إسماعيل هنية يصل إلى المنصات الرقمية التي ينشط فيها أنصار تنظيم القاعدة حتى دخل روادها في مشاحنات وسجالات حادة، وصلت ببعضهم إلى حد الإعلان بشكل صريح عن انحراف تنظيم القاعدة، وضرورة إجراء "مراجعات شرعية"، تعيده إلى خطه السلفي بعدما تأثر "بنزعات إخوانية"، وفق تعبيرهم.
جدل مزمن
الموقف من حركة حماس ومن جماعات الإسلام السياسي التي تتبنى خيار المشاركة في الانتخابات ودخول المجالس النيابية، طالما كان قضية مثيرة للانقسام في التيارات "الجهادية" منذ عقود طويلة. ولم تستطع آلاف الكتب والمقالات والمحاضرات الحسم فيه، ولا يزال تنظيم القاعدة وشيوخه عالقين في هذا الجدل المزمن حتى اليوم.
تنظيم داعش نفسه، وإن حسم النقاش بحشره الجميع في دائرة الكفر والردة والحكم عليهم بـ"الشرك وعبادة الطاغوت"، لم يتمكن من الحسم في تداعيات هذا الحكم، فقد حكم بالكفر على جماعات الإسلام السياسي، لكنه ما زال يتخبط في الحكم على من لم يُكَفِّر هذه الجماعات. هل هو كافر مثلها أم هو "معذور بالجهل والتأويل".
مبتدأ النقاش في قضية مقتل إسماعيل هنية كان عندما نقل أحد أنصار القاعدة خبر مقتله واصفا إياه بـ"الشهيد" وداعيا له بالرحمة، ليتدخل فورا عشرات من "الناشطين" الذين استنكروا الوصف.
توسع النقاش وأخذ أبعادا أخرى، وانقسم رواد المجموعات الرقمية التي يستخدمها تنظيم القاعدة وأنصاره إلى ثلاثة تيارات. أولها، يدافع عن هنية ويرى أنه "شهيد" يجري عليه ما يجري على "الشهداء". وثانيها يرفض أن يسميه بـ"الشهيد" بسبب مواقفه المتحالف مع إيران وحزب الله اللبناني، ومقتله في ضيافة الحرس الثوري الإيراني. بالتالي يتوقف في الحكم عليه ويرميه بـ"البدعة" و"يعذره بالتأويل" لكن لا يصفه بـ"الشهيد".
أما ثالثها، فيرى أن هنية واقع في عدد من "نواقض الإسلام"، مثل ترأسه الحكومة الفلسطينية عام 2006، وقسمه على احترام الدستور والقانون، ووصفه قاسم سليماني بـ"شهيد القدس"، بالإضافة لقتال حركته للفصائل السلفية في قطاع غزة، وعدم تطبيقها للشريعة فيه.
هذه المواقف الثلاثة يروجها محسوبون على تنظيم القاعدة، وفي قنوات ومجموعات تعتبر منابر إعلامية للتنظيم، وكل تيار يرى أن موقفه هو الموقف الذي تبناه شيوخ القاعدة التاريخيون ومنظرو "التيار الجهادي" عموما، لذلك عادوا كلهم إلى النبش في أدبيات التنظيم، والتنقيب في تراث شيوخه، لاستخراج ما يعززون به مواقفهم.
القيادة العامة
التيار الأول الذي ينعت هنية بـ"الشهيد" تمثله القيادة العامة لتنظيم القاعدة في أفغانستان، وفرعه في شبه القارة الهندية، وعدد من شيوخ التيار الجهادي وأبرزهم "أبو قتادة الفلسطيني".
فمنذ السابع من أكتوبر وتنظيم القاعدة يعبر عن مواقف أكثر قربا وتماهيا مع حركة حماس، وكتب زعيمه المفترض "سيف العدل" عددا من المقالات المؤيدة لحماس وعملية "طوفان الأقصى" دون تحفظ.
وعندما قُتل عدد من أفراد أسرة هنية، أصدر التنظيم بيان تعزية وصف فيه الأخير بـ"فضيلة الشيخ أبو العبد إسماعيل هنية" وخاطبه بالقول "صبرا آل هنية فإن موعدكم الجنة".
كما أصدر فرعه في شبه القارة الهندية بيان تعزية في مقتل هنية نفسه، مستبقا بذلك القيادة العامة، ومغردا خارج سرب الفروع الأخرى.
وتوقع كثير من أنصار التنظيم أن تصدر القيادة العامة بيان تعزية. وقد عبر بعضهم عن أمله في ألا يخرج هذا البيان أبدا، لأنهم يدركون أنه سيكرس الانقسام في صفوفهم، وسيتضمن مواقف لا تمت إلى عقيدة التنظيم، كما يرونها.
"أسأل الله أن لا تعزي القيادة العامة، وأن لا يكتب سيف العدل في هنية الذي سخر كل حياته دفاعا عن تبني الديمقراطية، ومقصيا لتحكيم الشريعة"، يكتب أحد أبرز الناشطين المؤيدين للقاعدة، و المشرف على منصة رقمية مناصرة لها.
ويكتب آخر: "الله يستر.. وتصدر القيادة في بيانا في هنية.. لكن من وصف هنية بالشيخ المجاهد الصابر المحتسب أكيد سيعزي".
مبادرة فرع القاعدة في شبه القارة الهندية إلى نشر التعزية قبل القيادة العامة والفروع الأخرى، أرجعه عدد من أنصار القاعدة إلى العلاقة الوطيدة التي تربط الفرع بحركة طالبان في أفغانستان.
"لا نُكَفّر ولا نعزّي"
يمثل التيار الذي يستنكر التعزية في هنية أو وصفه "بالشهيد" و"المجاهد"، لكن دون أن يكفّره أيضا، شريحة عريضة من مناصري القاعدة وشيوخ التيار الجهادي وبعض فروع التنظيم أيضا، لا سيما فرعه في سوريا المعروف بتنظيم "حراس الدين" وأيضا الفرع الصومالي.
في هذا السياق، أصدر المدعو "أبو عبد الرحمن المكي" القيادي البارز في تنظيم حراس الدين بيانا بعنوان " رسالة في مقتل إسماعيل هنية" أقر فيه بخطورة السجال حول قضية الترحم على هنية بالنسبة لتماسك صوف أنصار القاعدة وأن هذا الجدل قد ينتهي "بخلاف وبغضاء".
المكي لم يترحم على هنية ولم يصفه بـ"الشهيد" أيضا. وقال: "مما لا ينبغي التلثم فيه أن منهج حماس وطريقها لتحكيم الشريعة طريق بدعي ضال ومنحرف". ويرى أن قيادة حماس واقعة في "نواقض الإسلام" لكنه "لا يستطيع الحكم على أعيانهم بالكفر حتى تتحقق الشروط وتنتفي الموانع".
وأضاف "المكي" أنه "لا يجوز وصف من يكفر حماس ولا يترحم على قتلاها بأنه متشدد".
ثمة إذا خلاف عميق جدا بين القيادة العامة للقاعدة التي تصف إسماعيل هنية بـ"الشيخ المجاهد الفاضل" وبين القاعدة في سوريا التي ترفض الترحم عليه، وتصفه بـ"المبتدع الواقع في نواقض الإسلام". وهو الموقف ذاته الذي كرسته فتاوى "أبو محمد المقدسي" الذي كان أهم منظّر للقاعدة.
أغلب أنصار القاعدة في مواقع التواصل الاجتماعي يتبنون هذا الموقف، ويرون أن القيادة الجديدة للتنظيم بتماهيها مع حماس تخرج رويدا رويدا عن أفكار التيار السلفي الجهادي.
تكفير ومفاصلة
التيار الثالث من أنصار القاعدة يصرّح بوضوح بكفر إسماعيل هنية، ويرى أن الترحم عليه "تمييع لعقيدة الولاء والبراء"، ويقوم بإعادة نشر فتاوى سابقة كانت ترى كفر القيادة السياسية لحماس عندما شاركت في الانتخابات ولم تطبق الشريعة في غزة، وعندما قامت باقتحام مسجد ابن تيمية في رفح وقتل زعيم جماعة "جند أنصار الله" عام 2009.
يقول أحد أنصار تنظيم القاعدة، وهو في الوقت ذاته مشرف على منصة رقمية مخصصة لنشر دعاية التنظيم: "أظن أن هناك خطة محكمة ومطبقة لتمييع المفاهيم الصحيحة للتيار الجهادي، وتمييع الولاء والبراء، وفي نفس الوقت التساهل مع من هم أمثال هنية والقرضاوي وغيرهم من المرتدين".
وأضاف مستنكرا بيان القاعدة في شبه القارة الهندية: "ما إن هلك إسماعيل هنية حتى فُتن به الناس وأنزلوه منزلة الشهيد"، وتابع نقده قائلا في منشور آخر: "أبو قتادة يترحم على هنية المرتد.. كيف لرجل طوال حياته يدعو لمحاربة الديمقراطية وفي الأخير يترحم على من سعى جاهدا لتحكيم الديمقراطية".
ويقول مناصر آخر، يبدو أنه ضاق ذرعا ببيانات القاعدة المؤيدة لحماس: "أنا غسلت يدي من القيادة العامة وليس من الفروع.. والقيادة العامة إن عزت في هنية فهي لا تراعي بعض الفروع، ويكون في ذلك دلالة على أن البيانات لا تكون بالشورى، ولا تتم مراعاة بعض النافذين في الفروع الأخرى".
المستجد في السجال الراهن بين أنصار القاعدة أنه بدأ يقترب شيئا فشيئا من مربع النقاش العقدي الذي تورط فيه تنظيم داعش وقسمه إلى تيارات عقدية (الحازمية، البنعلية.. )، حيث تسير القاعدة في نفس الاتجاه. وقد يكون بيان "أبو عبد الرحمن المكي" الذي تناول فيه مسألة الترحم على هنية تناولا عقديا صرفا بداية هذا المسار.