عرفت بلاد الشام في القرن السابع الميلادي/ الأول الهجري اتصالًا مهمًا بين المسيحية السريانية والإسلام المبكر، وذلك بعدما تمكن "الفاتحون" العرب من الانتصار على الإمبراطورية البيزنطية في موقعتي أجنادين واليرموك، ليُفتح لهم باب السيطرة على مدن الشام الكبرى، كدمشق وحلب وحماة وحمص، على مصراعيه.
في هذه الفترة، تعرف آباء المسيحية على مجمل العقائد الإسلامية، وكتبوا آراءهم عنها في بعض المصنفات المهمة التي ضاع معظمها عبر القرون. من بين الكتب القليلة التي وصلتنا كتاب الهرطقات للقس يوحنا الدمشقي.
في دمشق.. منصور بن سرجون متولي الخراج
على الرغم من أن المصادر التاريخية الإسلامية لم تقدم الكثير من المعلومات عن شخصية يوحنا الدمشقي، إلا المراجع المسيحية السريانية رسمت صورة عامة له، وتتبعت أهم محطات حياته.
ولد يوحنا الدمشقي باسم منصور بن سرجون. وكانت عائلته ذات الأصل السرياني صاحبة نفوذ واسع في بلاد الشام، ولا سيما في مدينة دمشق. جد يوحنا -والذي لا نعرف اسمه على وجه التحديد- كان يتولى جباية الأموال لحساب البيزنطيين. ولما تمكن الفرس الساسانيون من الاستيلاء على دمشق، استمر قائمًا بأعمال وظيفته، حتى إذا ما انتصر البيزنطيون على الفرس، واستعادوا دمشق مرة أخرى، عوقب يوحنا من قبل السلطات الرومانية لفترة، ثم أرجع لوظيفته.
علاقة أسرة يوحنا الدمشقي بالمسلمين بدأت مع الحصار الذي فرضه الجيش العربي على مدينة دمشق في عام 634م/13ه، وهو الحصار الذي انتهى بتسليم المدينة صلحًا. ولعبت أسرة يوحنا الدمشقي نفسها دورًا مهمًا في الاتفاق على الصلح والتسليم، وأدارت المفاوضات بنجاح مع قائد المسلمين أبي عبيدة بن الجراح.
ولد منصور بن سرجون في عام 676م على وجه التقريب، في زمن الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان في دمشق. واستطاع أن يتقن السريانية واليونانية والعربية والآرامية في سن صغيرة، كما يُحتمل أنه كان مطلعًا على أشعار العرب، إذ ذكر أبو الفرج الأصفهاني المتوفى 356ه في كتاب "الأغاني" أن الشاعر العربي الشهير الأخطل كان في بعض الأحيان يزور بيت سرجون (والد يوحنا)، وأنه كان يقضي هناك وقتًا طويلًا.
لعبت أسرة يوحنا الدمشقي نفسها دورًا مهمًا في الاتفاق على الصلح والتسليم، وأدارت المفاوضات بنجاح مع قائد المسلمين أبي عبيدة بن الجراح.
مشاركة منصور بن سرجون في الشؤون الإدارية للدولة الأموية بدأت بشكل عملي في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان، إذ عُين بعد وفاة أبيه في منصب متولي الخراج والجزية، والمشرف على شؤون المسيحيين الموجودين بدمشق. واستمر محافظًا على هذا المنصب في عهد ابني عبد الملك -الوليد وسليمان- حتى إذا ما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، واشتدت قبضة السلطة الأموية على المسيحيين، آثر منصور بن سرجون أن يترك منصبه واختار أن يعيش حياة الرهبنة في دير القديس سابا في أورشليم بفلسطين، وفي تلك المرحلة سمى نفسه باسم يوحنا.
في دير القديس سابا.. القديس يوحنا الدمشقي
في الدير، عاش يوحنا الدمشقي حياة العزلة والزهد والتدين، وصنف الكثير من الكتب، والتي ركزت -بالمقام الأول- على الدفاع عن المسيحية من جهة، والهجوم على أعدائها من جهة أخرى. من أشهر تلك الكتب "ينبوع المعرفة"، و"الهرطقات"، و"الإيمان الأرثوذكسي"، و"مقدمة في العقائد المسيحية".
عُرف يوحنا في تلك الفترة بكونه من أشهر المؤيدين لتعظيم الأيقونات المسيحية (الرسومات والتماثيل الكنسية)، وبكونه واحدًا من أهم المعارضين لحركة تحطيم الأيقونات، تلك التي قادها الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الأيسوري، والتي انتشرت على نطاق واسع في القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية.
من القصص المشهورة التي ارتبطت بتحول يوحنا الدمشقي إلى الرهبنة، تلك القصة الخوارقية المتصلة بشرح الأيقونة المشهورة باسم "العذراء ذات الثلاثة أيدي". تذكر القصة أن الإمبراطور البيزنطي لما أراد أن يوقع بيوحنا بسبب دعمه لتقديس الأيقونات، فإنه استحضر مجموعة من الكتبة المهرة، وأمرهم بكتابة رسالة بخط يوحنا الدمشقي، ثم أرسل بها إلى الخليفة الأموي، فلما وقعت في يديه وقرأها، وجدها قد احتوت على اتفاق بين الإمبراطور ويوحنا على تسليم دمشق للبيزنطيين، فاستشاط الخليفة غضبًا، واستدعى يوحنا وقطع يده اليمنى.
وبحسب القصة، فإن يوحنا صلى كثيرًا أمام أيقونة العذراء. فلما نام رأى القديسة مريم، وأخبرته بأنها ستعيد يده إليه، ولما استيقظ وجد يده في مكانها! وسرعان ما انتشر الخبر ووصل للخليفة. ولما سمع قصة يوحنا، ندم على إساءة الظن به، وطلب منه أن يعود إلى منصبه، لكن يوحنا رفض ذلك وسافر لفلسطين لينتظم في سلك الرهبنة.
في عام 749م على وجه التقريب، مات يوحنا الدمشقي بعد عمر طويل قضاه في الدفاع عن المسيحية، ومواجهة أعدائها، ليستحق الوصف الذي وصفه به المؤرخ المعاصر فيليب حتي في كتابه "تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين"، عندما وصفه بأنه "أبرز مفاخر الكنيسة السورية في ظل الدولة الأموية".
الهرطقة المئة!
في دير القديس سابا بفلسطين، ناقش يوحنا الدمشقي الإسلام المبكر في كتابه المعروف باسم "الهرطقات"، وذلك في الفصل رقم مائة في بعض الترجمات، وفي الفصل رقم مائة وواحد في ترجمات أخرى. هذا الكتاب تم تأليفه باللغة اليونانية، ولما كان العرب في تلك الفترة لا يجيدون تلك اللغة، فإن ذلك ضمن للدمشقي الحماية الكافية من الغضب المتوقع الذي كان من الممكن أن يوجهه إليه المسلمون في حالة اطلعوا على ما دونه في ذلك الكتاب.
أولى الملاحظات التي تشد انتباه قارئ الكتاب، أن يوحنا لم يطلق على الإسلام هذا الاسم أبدًا، إذ نجده يسمي المسلمين بالإسماعيليين -نسبةً إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم- تارةً، أو يطلق عليهم اسم الهاجريين -نسبةً إلى السيدة هاجر- تارة أخرى. في السياق نفسه، سنجد أن الدمشقي قد أطلق على العرب اسم "الساراسين"، وهو أحد الاسماء التي كان يطلقها الرومان على العرب في منطقة الشام والجزيرة. ملاحظة أخرى مهمة وهي أن المؤلف اعتمد على السخرية والتهكم إلى حد بعيد عند تأليف كتابه. ويظهر من نصوص الكتاب أيضا أن يوحنا كان على اطلاع واسع بالنص القرآني، وبما ورد فيه من قصص وتشريعات.
ألف يوحنا الدمشقي كتاب "الهرطقات" باليونانية، ما ضمن له الحماية الكافية من الغضب الذي كان من الممكن أن يوجهه له المسلمون لو اطلعوا على الكتاب.
في بداية الفصل المخصص لنقد الإسلام، يعلن الدمشقي عن رأيه السلبي في هذا الدين، معتبرًا إياه مجرد هرطقة منحرفة عن "المسيحية الحقة" التي أتى بها يسوع الناصري. فيقول رابطًا بين هذا الدين والمسيح الدجال: "هناك أيضا ديانة الإسماعيليين التي لا تزال تسيطر في أيامنا، وتستميل الشعوب معلنة مجيء المسيح الدجال". بعدها، يتحدث عن الحالة الدينية للعرب في الجاهلية -قبل الإسلام-. فيقول: "لقد كانوا إذًا وثنيين، وكانوا يعبدون نجمة الصبح والزهرة التي كانوا يدعونها "خبار/كبار" في لغتهم على وجه التحديد، والتي تعني عظيمة. وهكذا كانوا يزاولون عبادة الأصنام علنًا حتى عهد هرقليوس...".
يشرح الدمشقي بعد ذلك الكيفية التي بدأ بها الإسلام على يد النبي محمد في شبه الجزيرة العربية، فيقول: "أنشأ -يقصد النبي- هرطقته الخاصة بعد أن تعرف بالصدفة على العهدين القديم والجديد، وبعد أن تحاور كما يبدو مع راهب أريوسي، وبعد أن أحرز لنفسه حظوة لدى الشعب عبر تظاهره بالتقوى، كان يلمح بأن كتابًا آتيًا من السماء قد أوحي به إليه من الله...".
تحت عنوان اللاهوت القرآني، يشرع يوحنا الدمشقي في تفصيل العقائد المركزية في الإسلام، والتي تتمحور حول فكرة الوحدانية المطلقة، فيجملها بقوله: "يوجد إله واحد خالق لكل الأشياء، وإنه لم يولد ولم يلد". ثم ينتقل بعدها لإبداء وجهة نظر الإسلام في المسيح، بحسب ما ورد في القرآن، فيقول: "المسيح بحسب رأيه هو كلمة الله وروحه، بيد أنه مخلوق وعبد ولد دونما زرع من مريم أخت موسى وهارون، وهو يقول في الواقع إن كلمة الله وروحه قد دخلا في مريم وولدا يسوعا الذي كان نبيًا وعبدا لله". بعدها، يتحدث عن الرأي الإسلامي في مصير المسيح، فيقول: "إن اليهود قد صلبوا خيال المسيح، وأن الله قد نجاه من وسطهم ورفعه إلى السماء".
اعتبر يوحنا الدمشقي الإسلام مجرد هرطقة منحرفة عن المسيحية.
القارئ للكتاب سيلاحظ أن يوحنا الدمشقي قد خصص جزءًا كبيرًا من كتابه للتشكيك في أمر نزول الوحي على النبي محمد. فقال: إن موسى قد تسلم الشريعة على جبل سيناء على مرأى ومسمع من بني إسرائيل جميعًا عندما ظهر له الله في "السحاب والنار والظلام والعاصفة"، وإن جميع الأنبياء قد بشروا بالمسيح، وقالوا: إن المسيح هو الله، وأن ابن الله سيقبل متجسدًا، وأنه سيُصلب ويموت ويقوم، وأنه هو الذي سيدين الأحياء والأموات. أما نبي المسلمين فقد تلقى الوحي من غير شهود على ذلك، فما الدليل على صدق حديثه؟.
ويتابع يوحنا فيقول مظهرًا معرفته الواسعة بالتشريعات الإسلامية: "كونه هو نفسه أمركم في كتابكم ألا تفعلوا شيئًا وألا تقبلوا شيئًا بدون شهود، فلم لم تسألوه: ابدأ أنت أولًا وبرهن لنا من خلال الشهود أنك نبي وأنك مرسل من الله، وما هو الكتاب الذي يشهد لصالحك؟ ... كونه لم يبح لكم الاقتران بامرأة ولا الشراء ولا الاقتناء بدون شهود، وكونكم لا تقبلون بأن تملكوا ولو حميرًا أو ماشية بدون شاهد، فلا تتخذون لكم من ثم نساء وخيرات وحميرًا وباقي الأشياء إلا أمام شهود. إذًا، قد قبلتم الإيمان والكتاب وحدهما بدون شاهد! لأن الذي نقل إليكم هذا الكتاب لا ضمانة له من أي جهة، كما ولا يعرف أحد شهد لصالحه من قبل. لا بل تسلمه في نومه علاوة على ذلك".
القارئ للكتاب سيلاحظ أن يوحنا خصص جزءًا كبيرًا للتشكيك في أمر نزول الوحي على النبي محمد.
بعده، يرد الدمشقي على اتهام المسلمين للمسيحيين بالشرك، فيقول: "أنتم القائلون بأن المسيح هو كلمة الله وروحه، لم تهينوننا كمشركين؟ فالكلمة والروح هما غير منفصلين عما يكونان فيه بالطبيعة. وإذا ما كان المسيح في الله من ثم على أنه كلمة الله، فيكون هو أيضًا الله بالتأكيد. أما إذا كان خارج الله، فيكون الله بدون كلمة وبدون روح حسب رأيكم، وهكذا تشوهون الله في تحاشيكم إشراك أحد بالله. وكان الأحرى بكم فعلًا أن تقولوا إن له شريكًا من أن تشوهوه جاعلين إياه شبيهًا بحجر أو خشب أو شيء ما من الجوامد فاقدة الحس، ولأجل ذلك أنتم تنطقون بالأكاذيب عندما تدعوننا مشركين، ونحن ندعوكم بالمقابل مشوهي الله". في السياق نفسه، يرد الدمشقي على تهمة عبادة المسيحيين للأوثان المُمثلة في الأيقونات والصليب، فيقول إن المسلمين يمارسون الأمر ذاته عندما يقبلون الحجر الأسود عند الكعبة.
أما في الجزء الأخير من كتابه، فيتحدث الدمشقي عن سورة النساء، وينتقد ما ورد فيها من السماح بتعدد الزوجات. وبعدها يذكر حكاية زواج النبي من زينب بنت جحش، ويدعي أن النبي لما شاهدها أعجب بجمالها، فأمر مولاه زيد عندئذ بتطليقها. ثم يحدث عن قصة ناقة صالح الذي أُرسل في ثمود، ويوجه لها الكثير من سهام النقد والتشكيك. وبعدها يتحدث في عجالة عن سور البقرة والمائدة، ويذكر أن النبي محمد قد أمر أتباعه أن يختتنوا -رجالًا ونساءً- وأنه قد أباح لهم بعض الأطعمة التي كانت محرمة فيما قبل.
في نهاية الكتاب، يورد يوحنا الدمشقي مناظرة -مُتخيلة- بين مسلم ومسيحي حول بعض القضايا المهمة التي كانت مثارة على الساحة الفكرية في تلك الفترة، ومن أهمها الحرية الإنسانية، وعدالة الله، وخلق الإنسان، والمعمودية والخلاص، والمشيئة، والتجسد، وغير ذلك من القضايا التي سرعان ما انتقلت لحيز الجدل داخل الأوساط الإسلامية ذاتها، ولا سيما في دوائر أهل السنة والجماعة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج.