لم يكن للأنصار في الواقع نصيب كبير من حظِّ السياسة بعد وفاة النبي، مقارنة بالمهاجرين.
لم يكن للأنصار في الواقع نصيب كبير من حظِّ السياسة بعد وفاة النبي، مقارنة بالمهاجرين.

بعد ساعاتٍ من وفاة النبي، اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة للتباحث في أمر تعيين خليفةً الرسول، وهي المباحثات التي كادت تشعل حربًا بين المهاجرين والأنصار بسبب رغبة كلٍّ منهما في تولي بالمنصب، لولا الاتفاق على تعيين أبي بكر الصدّيق خليفة للرسول وفقًا لتعهّد صدر عن أبي بكر قال فيه "منّا الأمراء، ومنكم الوزراء". وهو ما يعني اتفاقًا ضمنيًا بتقاسُم السُلطة بين الطرفين.

انصاع الأنصار لرأي عُمر في إقرار أبي بكر، ربما لأن كليهما عَمَدا على توطيد أواصر العلاقة بهم -دونًا عن باقي الصحابة- فتصاهرا مع الأنصار. تزوّج أبو بكر حبيبة بنت خارجة الخزرجية، أما عُمر فاقترن بجميلة بنت ثابت، التي ولدت له عاصمًا، والذي سيُصبح جدًّا للخليفة الأموي الشهير عُمر بن عبد العزيز لاحقًا.

ولكن... هل حدث تقاسم في السلطة بالفعل؟ أم أن المهاجرين استأثروا بالسلطة دون الأنصار؟ ماذا كان الدور السياسي للأنصار في دولة الإسلام بعد وفاة الرسول.

 

الأنصار.. البقاء في الظل

 

لم يكن للأنصار في الواقع نصيب كبير من حظِّ السياسة بعد وفاة النبي، مقارنة بالمهاجرين. واقتصر وجودهم في الملعب السياسي على شكل فردي عبر تعيين مستشار للخليفة هنا أو والٍ هناك. ولم تسرِ الدولة الإسلامية على نهجٍ واضح يتضمّن دمج أكبر عددٍ من الأنصار في نظامها السياسي.

بالمثل، فإن الأنصار أنفسهم افتقروا إلى الطموح الكافي للعب دور سياسي كبير، فلم يسعوا لتدبير ثورة أو لإقامة دولة تحمل اسمهم حتى في أشدّ لحظات تعرّضهم للتنكيل والإقصاء خلال العهدين الأموي والعباسي. ولم يفعلوا كما فعل الهاشميون والعلويون الذين لم ينقطع تاريخهم عن معارضة الحُكام حتى أسسوا دولهم الخاصة بنهاية الأمر.

أما الأنصار فقنعوا بدورٍ سياسي هامشي طوال الوقت، نستعرض أبرز تفاصيله في السطور التالية:

  • في عهد أبي بكر

بدأ الخليفة الأول حُكمه بتثبيت كافة الولاة الذين عيّنهم الرسول لقيادة البقاع التي دخلت في طاعته قبل وفاته. وكان من هؤلاء عددٌ من الأنصار، مثل معاذ بن جبل عامل اليمن، وزياد بن لبيد البياضي عامل حضرموت، وأنس بن مالك الأنصاري عامل الصدقة في البحرين، كما عيّن زيدا بن ثابت الأنصاري كاتبًا له، وهو الذي أشرف على مهمة جمع القرآن.

وحين اندلعت حروب الردة شارك فيها قرابة 400 أنصاري يتقدّمهم أبو لبابة بن عبد المنذر. ورغم أنهم شكلوا وحدات عسكرية خاصة بهم لها قادتها ورايتها، إلا أنهم في النهاية كانوا ضمن قوات خالد بن الوليد الذي تحرّك بهم يمينًا ويسارًا حتى أنهى حروب الردة. وبحسب المرويات التاريخية، فقد قتل من الأنصار في معركة اليمامة وحدها ما يزيد عن 60 فردًا.

  • في عهد عُمر بن الخطاب

من أشهر المستشارين الأنصاريين الذين اعتمد عليهم عُمر هما: معاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب، وكذلك أبقى زيدا بن ثابت كاتبًا له، واعتاد أن يولّيه المدينة إذا خرج إلى الحج، كما ولاّه إياها حين خرج إلى الشام بعد دخول المسلمين إليها.

وتشير بعض المرويات التاريخية أيضا إلى أن عُمرًا كان يُجالس الأنصار ليُخاطبهم في أمورٍ تمسّ سياسة الدولة، مثلما قال يومًا "أرأيتم لو ترخّصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟"، فردّ عليه بشير بن سعد الخزرجي الأنصاري "لو فعلت، قوّمناك تقويم القدح"، وهي الجملة التي أثارت إعجاب عُمر رغم ما فيها من تجرّؤ على مقام منصبه.

هنا، يجب لفت الانتباه إلى أن بشيرًا كان أحد أبرز قادة الأنصار يوم السقيفة، وكان أول الأنصار مبايعةً لأبي بكر، وهو ما حفظ له مكانة كبيرة خلال عهدي أبي بكر وعُمر.

أيضًا، عقب "فتح" العراق، رأى عُمر عدم تقسيم أرضها على الجنود الفاتحين وإنما تركها لأصحابها مع إقرار الخراج عليهم لصالح بيت المال، وهو الرأي الذي لم ينل عليه إجماعًا من المهاجرين فدعَا عُمر إلى مجلسه 10 من الأنصار؛ 5 من الخزرج و5 من الأوس فوافقوه على ما رأى.

أما عن ولاة الأمصار في عهده، فعيّن حذيفة بن اليمان أميرًا على المدائن، كما عيّن عثمان بن حنيف قائمًا على خراج أرض العراق. ويُروى أن ابن حنيف اختلف يومًا مع عُمر داخل المسجد فضربه ببعض حصى الأرض، ثم اعتذر له الخليفة لاحقًا.

صرّح عمر بن الخطاب قائلاً: "والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إنا قلنا لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى لي عامل إلا أنصاري".

أيضًا، عيّن عُمر أبا الدرداء عويمر بن عامر الأنصاري قائمًا على قضاء دمشق، وعبادة بن الصامت الأنصاري واليًا على حمص ثم قاضيًا على فلسطين، وهو ما أوقع عبادة في مشاجرات لا تنتهي مع معاوية والي الشام، بسبب رفض عبادة سياسات معاوية في الحُكم.

وبخلاف الولاة، استعان عُمر بأنصاري آخر هو محمد بن مسلمة الحارثي في مهمّة أخطر وهي مراقبة الولاة؛ فبعثه إلى مصر لمراقبة حُكم عمرو بن العاص وليحقق معه بشأن مزاعم زيادة ثروته. ولم يعد مسلمة إلى المدينة إلا بعد أن أخذ من عمرو نصف ماله.

بعدها، بُعِثَ محمد الأنصاري ليراقب عمل سعد بن أبي وقاص والي الكوفة، ويحقق في شكاوى أهلها ضده.

رغم ذلك، فإن عُمرًا كان غير راضٍ على عدم اعتماده على الكثير من الأنصار في حُكمه، وهو ما صرّح به قائلاً: "والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إنا قلنا لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى لي عامل إلا أنصاري".

لم تتم تلك الأمنية لسوء حظ الأنصار. فعمر لم يعش طويلاً بعد هذه المقولة ومات قبل أن ينفّذها.

وكان من اللافت أنه عقب تعرّض عُمر للطعن الذي أودى بحياته، فإن الطبيب الذي حاوَل علاجه كان أنصاريًا من بني الحارث بن كعب، الذي ما إن رآه حتى علم أن طعنته مميتة، فقال له "أوصِ يا أمير المؤمنين فإنّك ميت"، فردَّ عُمر "صدقني أخو الأنصار في نفسي".

ورغم ذلك، فإن عمرًا لم يعيّن أنصاريًا ضمن "لجنة الستة" الذين انتقاهم لاختيار خليفته، وكلهم من المهاجرين. لكنه اتّخذ لنفسه إجراءً احتياطيًا اعتمد فيه على شخص أنصاري هذه المرة، هو أبو طلحة زيد بن سهل الخزرجي، الذي قال له عُمر "اختر 50 رجلاً من الأنصار يكونون معك، فإذا توفيتُ فاستحثَّ هؤلاء النفر (يقصد أعضاء لجنة الستة) حتى يختاروا لأنفسهم وللأمة أحدهم، ولا يتأخرن عن أمرهم فوق ثلاث".

وعقب وفاة عُمر، تولّى عبد الرحمن بن عوف قيادة مباحثات اختيار الخليفة الجديد فيما راقب أبو طلحة كل هذه الجهود بعين ثاقبة استعدّت للتدخّل لو تأخروا أكثر من اللازم عن تعيين خليفة عُمر، وحينما طالت المفاوضات قال أبو طلحة للسداسي "لا أزيدكم على الأيام الثلاثة".

  • في عهد عثمان بن عفان

بعدما توّلى عثمان الحُكم ولّى عمير بن سعد الأنصاري على الجزيرة ثم عزله، ثم عيّن الأنصاريين أبو مسعود البدري وعبد الله بن أرقم على بيت مال المسلمين تباعًا، كما حافظ زيد بن ثابت على مكانته كاتبًا للدولة، وظلَّ يستخلفه على المدينة إذا حجّ، ثم ولاه على بيت المال.

تحكي المرويات التاريخية أن الأنصاري عبادة بن الصامت اعترض على الموقف الليّن الذي اتّخذه عثمان من معارضيه فانتقده قائلاً: "والله لتُخرجنّ إخراج الثور، ثم لتذبحن ذبح الجمل". وبالمثل انتقد جبلة بن عمرو الساعدي الأنصاري الخليفة الثالث بسبب توليته لأقاربه من بني أمية على الأمصار.

وعندما شعر عثمان بغضبٍ مكتوم تجاه سياساته، راسل أبا الدرداء الأنصاري في الشام بشأن حقيقة هذا الأمر، فأكد له أنه لم يحسّ بشيءٍ من هذا.

وعندما وقعت الفتنة التي نتج عنها مقتل عثمان، تباين موقف الأنصار منها. هناك من اعتزلها ولم يشارك في أحداثها مثل محمد بن مسلمة الأنصاري، فيما أيّدها آخرون بحماس مثل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ورفاعة بن رافع والحجاج بن غزية، الذين شاركوا أهل الكوفة ومصر في حصار منزل عثمان.

اعتمد عثمان على الأنصاري محمد بن مسلمة في قيادة مفاوضات الصُلح بينه وبين الثائرين عليه وهي المفاوضات التي باءت بالفشل فحاصر الثوار منزل عثمان.

أغضب الحصار ولاة عثمان من الأنصار، مثل عبادة بن الصامت وأبو الدرداء في الشام وأنس بن مالك في البصرة وأبو مسعود البدري في البصرة، الذين أعلنوا جميعًا الاستنفار العام ورغبتهم في العودة سريعًا إلى المدينة لإنقاذ الخليفة، وهي الخطوة التي تمت بعد وفاة الأوان، بعدما نجح الثائرون في اقتحام منزل عثمان وقتله.

في كتابه "الفتنة: جدلية الدين والسياسة" اعتبر هشام جعيط، أن أغلبية الأنصار ضاقوا بسياسات عثمان وتهميشه لهم فتقاعسوا عن نُصرته، ورفضوا فضّ حصار المتظاهرين حول داره الكائنة في قلب المدينة، وهو ما دفع معاوية بن أبي سفيان لاتّهام الأنصار لاحقًا بقتل عثمان.

  • في عهد علي بن أبي طالب

عقب تعيين علي بن أبي طالب خليفة بايعه أغلب الأنصار إلا بضعة أفراد، أشهرهم: محمد بن مسلمة، حسان بن ثابت، كعب بن مالك، وزيد بن ثابت، الذي رُوي عنه أنه رفض القتال في جيش علي قائلاً "أما أن أضرب بسيفي لأؤكد لك مُلكًا فلا".

وارتحل إلى الشام عددً من الأنصار رفضًا لولاية علي مثل النعمان بن بشير وأبو سعيد الخدري وكعب بن عجرة، وكلهم من الأنصار الذين آثروا الالتحاق بركب معاوية بدلاً من البقاء في المدينة.

وفي تعيين ولاته، استعان علي بعددٍ كبير من الأنصار، فعيّن عثمان بن حُنيف على البصرة، وكان مسؤولاً عليها وقت أن وفدت عليها السيدة عائشة وطلحة والزبير، وناله الأذى من أنصارهم بعدما ضُرب وحُلقت لحيته.

ارتحل إلى الشام عددً من الأنصار رفضًا لولاية علي بن أبي طالب مثل النعمان بن بشير وأبو سعيد الخدري وكعب بن عجرة، والتحقوا بركب معاوية.

أيضًا عُيّن كل من أبي قتادة الانصاري على مكة، وسهل بن حُنيف على المدينة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وقرظة بن كعب على الكوفة، وثابت قيس بن الخطيم على المدائن، كما عيّن سهل بن حُنيف على الشام، وهو الإقرار الذي لم يتم، فما أن اقترب سهل من الشام (الموالي لمعاوية) حتى خرج عليه الشاميون بالسلاح وطردوه من بلادهم فعاد من فوره إلى المدينة.

وعقب وفاة علي وتولّي معاوية بن أبي سفيان الخلافة من بعده، اعتمد على عددٍ محدودٍ من الأنصار في دولته، فعيّن فضالة بن عبيد الأنصاري قاضيًا، ولما مات معاوية حمل فضالة نعشه حتى مثواه الأخير.

أيضًا، عيّن معاوية النعمان بن بشير الأنصاري واليًا على الكوفة ثم حمص، ومسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر والمغرب. 

لكن بشكلٍ عام، فإن الخليفة الجديد لم يغفر أبدًا للأنصار دورهم -كما يعتقد- في مقتل عثمان وقتلهم العديد من أقاربه خلال حروب بني أمية الأولى ضد الإسلام مثلما جرى في بدر مثلاً، وكذا تأييد أغلبهم لعلي وابنه الحسن من بعده ورفضهم مبايعة معاوية أميرًا إلا كرهًا. لذا، فإنه أصرّ على إقصائهم من بنيان دولته، وهو النهج الذي حافَظ عليهم خلفاؤه من بعده طيلة عهد الدولة الأموي، ما أدخل الأنصار في دوامة "خواء سياسية" لم يخرجوا منها أبدًا.

 

المصادر

  • "الأنصار في العهد الراشدي"، حامد محمد الخليفة
  • "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، هشام جعيط
  • "سياسة الدولة الأموية تجاه الأنصار"، سيف علي حوران الزيادي
  • "الدين والسياسة في التاريخ الإسلامي"، عبد الرحمن شلقم
  • "الأنصار والرسول"، إبراهيم بيضون

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".