بعد ساعاتٍ من وفاة النبي، اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة للتباحث في أمر تعيين خليفةً الرسول، وهي المباحثات التي كادت تشعل حربًا بين المهاجرين والأنصار بسبب رغبة كلٍّ منهما في تولي بالمنصب، لولا الاتفاق على تعيين أبي بكر الصدّيق خليفة للرسول وفقًا لتعهّد صدر عن أبي بكر قال فيه "منّا الأمراء، ومنكم الوزراء". وهو ما يعني اتفاقًا ضمنيًا بتقاسُم السُلطة بين الطرفين.
انصاع الأنصار لرأي عُمر في إقرار أبي بكر، ربما لأن كليهما عَمَدا على توطيد أواصر العلاقة بهم -دونًا عن باقي الصحابة- فتصاهرا مع الأنصار. تزوّج أبو بكر حبيبة بنت خارجة الخزرجية، أما عُمر فاقترن بجميلة بنت ثابت، التي ولدت له عاصمًا، والذي سيُصبح جدًّا للخليفة الأموي الشهير عُمر بن عبد العزيز لاحقًا.
ولكن... هل حدث تقاسم في السلطة بالفعل؟ أم أن المهاجرين استأثروا بالسلطة دون الأنصار؟ ماذا كان الدور السياسي للأنصار في دولة الإسلام بعد وفاة الرسول.
الأنصار.. البقاء في الظل
لم يكن للأنصار في الواقع نصيب كبير من حظِّ السياسة بعد وفاة النبي، مقارنة بالمهاجرين. واقتصر وجودهم في الملعب السياسي على شكل فردي عبر تعيين مستشار للخليفة هنا أو والٍ هناك. ولم تسرِ الدولة الإسلامية على نهجٍ واضح يتضمّن دمج أكبر عددٍ من الأنصار في نظامها السياسي.
بالمثل، فإن الأنصار أنفسهم افتقروا إلى الطموح الكافي للعب دور سياسي كبير، فلم يسعوا لتدبير ثورة أو لإقامة دولة تحمل اسمهم حتى في أشدّ لحظات تعرّضهم للتنكيل والإقصاء خلال العهدين الأموي والعباسي. ولم يفعلوا كما فعل الهاشميون والعلويون الذين لم ينقطع تاريخهم عن معارضة الحُكام حتى أسسوا دولهم الخاصة بنهاية الأمر.
أما الأنصار فقنعوا بدورٍ سياسي هامشي طوال الوقت، نستعرض أبرز تفاصيله في السطور التالية:
- في عهد أبي بكر
بدأ الخليفة الأول حُكمه بتثبيت كافة الولاة الذين عيّنهم الرسول لقيادة البقاع التي دخلت في طاعته قبل وفاته. وكان من هؤلاء عددٌ من الأنصار، مثل معاذ بن جبل عامل اليمن، وزياد بن لبيد البياضي عامل حضرموت، وأنس بن مالك الأنصاري عامل الصدقة في البحرين، كما عيّن زيدا بن ثابت الأنصاري كاتبًا له، وهو الذي أشرف على مهمة جمع القرآن.
وحين اندلعت حروب الردة شارك فيها قرابة 400 أنصاري يتقدّمهم أبو لبابة بن عبد المنذر. ورغم أنهم شكلوا وحدات عسكرية خاصة بهم لها قادتها ورايتها، إلا أنهم في النهاية كانوا ضمن قوات خالد بن الوليد الذي تحرّك بهم يمينًا ويسارًا حتى أنهى حروب الردة. وبحسب المرويات التاريخية، فقد قتل من الأنصار في معركة اليمامة وحدها ما يزيد عن 60 فردًا.
- في عهد عُمر بن الخطاب
من أشهر المستشارين الأنصاريين الذين اعتمد عليهم عُمر هما: معاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب، وكذلك أبقى زيدا بن ثابت كاتبًا له، واعتاد أن يولّيه المدينة إذا خرج إلى الحج، كما ولاّه إياها حين خرج إلى الشام بعد دخول المسلمين إليها.
وتشير بعض المرويات التاريخية أيضا إلى أن عُمرًا كان يُجالس الأنصار ليُخاطبهم في أمورٍ تمسّ سياسة الدولة، مثلما قال يومًا "أرأيتم لو ترخّصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟"، فردّ عليه بشير بن سعد الخزرجي الأنصاري "لو فعلت، قوّمناك تقويم القدح"، وهي الجملة التي أثارت إعجاب عُمر رغم ما فيها من تجرّؤ على مقام منصبه.
هنا، يجب لفت الانتباه إلى أن بشيرًا كان أحد أبرز قادة الأنصار يوم السقيفة، وكان أول الأنصار مبايعةً لأبي بكر، وهو ما حفظ له مكانة كبيرة خلال عهدي أبي بكر وعُمر.
أيضًا، عقب "فتح" العراق، رأى عُمر عدم تقسيم أرضها على الجنود الفاتحين وإنما تركها لأصحابها مع إقرار الخراج عليهم لصالح بيت المال، وهو الرأي الذي لم ينل عليه إجماعًا من المهاجرين فدعَا عُمر إلى مجلسه 10 من الأنصار؛ 5 من الخزرج و5 من الأوس فوافقوه على ما رأى.
أما عن ولاة الأمصار في عهده، فعيّن حذيفة بن اليمان أميرًا على المدائن، كما عيّن عثمان بن حنيف قائمًا على خراج أرض العراق. ويُروى أن ابن حنيف اختلف يومًا مع عُمر داخل المسجد فضربه ببعض حصى الأرض، ثم اعتذر له الخليفة لاحقًا.
صرّح عمر بن الخطاب قائلاً: "والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إنا قلنا لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى لي عامل إلا أنصاري".
أيضًا، عيّن عُمر أبا الدرداء عويمر بن عامر الأنصاري قائمًا على قضاء دمشق، وعبادة بن الصامت الأنصاري واليًا على حمص ثم قاضيًا على فلسطين، وهو ما أوقع عبادة في مشاجرات لا تنتهي مع معاوية والي الشام، بسبب رفض عبادة سياسات معاوية في الحُكم.
وبخلاف الولاة، استعان عُمر بأنصاري آخر هو محمد بن مسلمة الحارثي في مهمّة أخطر وهي مراقبة الولاة؛ فبعثه إلى مصر لمراقبة حُكم عمرو بن العاص وليحقق معه بشأن مزاعم زيادة ثروته. ولم يعد مسلمة إلى المدينة إلا بعد أن أخذ من عمرو نصف ماله.
بعدها، بُعِثَ محمد الأنصاري ليراقب عمل سعد بن أبي وقاص والي الكوفة، ويحقق في شكاوى أهلها ضده.
رغم ذلك، فإن عُمرًا كان غير راضٍ على عدم اعتماده على الكثير من الأنصار في حُكمه، وهو ما صرّح به قائلاً: "والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إنا قلنا لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى لي عامل إلا أنصاري".
لم تتم تلك الأمنية لسوء حظ الأنصار. فعمر لم يعش طويلاً بعد هذه المقولة ومات قبل أن ينفّذها.
وكان من اللافت أنه عقب تعرّض عُمر للطعن الذي أودى بحياته، فإن الطبيب الذي حاوَل علاجه كان أنصاريًا من بني الحارث بن كعب، الذي ما إن رآه حتى علم أن طعنته مميتة، فقال له "أوصِ يا أمير المؤمنين فإنّك ميت"، فردَّ عُمر "صدقني أخو الأنصار في نفسي".
ورغم ذلك، فإن عمرًا لم يعيّن أنصاريًا ضمن "لجنة الستة" الذين انتقاهم لاختيار خليفته، وكلهم من المهاجرين. لكنه اتّخذ لنفسه إجراءً احتياطيًا اعتمد فيه على شخص أنصاري هذه المرة، هو أبو طلحة زيد بن سهل الخزرجي، الذي قال له عُمر "اختر 50 رجلاً من الأنصار يكونون معك، فإذا توفيتُ فاستحثَّ هؤلاء النفر (يقصد أعضاء لجنة الستة) حتى يختاروا لأنفسهم وللأمة أحدهم، ولا يتأخرن عن أمرهم فوق ثلاث".
وعقب وفاة عُمر، تولّى عبد الرحمن بن عوف قيادة مباحثات اختيار الخليفة الجديد فيما راقب أبو طلحة كل هذه الجهود بعين ثاقبة استعدّت للتدخّل لو تأخروا أكثر من اللازم عن تعيين خليفة عُمر، وحينما طالت المفاوضات قال أبو طلحة للسداسي "لا أزيدكم على الأيام الثلاثة".
- في عهد عثمان بن عفان
بعدما توّلى عثمان الحُكم ولّى عمير بن سعد الأنصاري على الجزيرة ثم عزله، ثم عيّن الأنصاريين أبو مسعود البدري وعبد الله بن أرقم على بيت مال المسلمين تباعًا، كما حافظ زيد بن ثابت على مكانته كاتبًا للدولة، وظلَّ يستخلفه على المدينة إذا حجّ، ثم ولاه على بيت المال.
تحكي المرويات التاريخية أن الأنصاري عبادة بن الصامت اعترض على الموقف الليّن الذي اتّخذه عثمان من معارضيه فانتقده قائلاً: "والله لتُخرجنّ إخراج الثور، ثم لتذبحن ذبح الجمل". وبالمثل انتقد جبلة بن عمرو الساعدي الأنصاري الخليفة الثالث بسبب توليته لأقاربه من بني أمية على الأمصار.
وعندما شعر عثمان بغضبٍ مكتوم تجاه سياساته، راسل أبا الدرداء الأنصاري في الشام بشأن حقيقة هذا الأمر، فأكد له أنه لم يحسّ بشيءٍ من هذا.
وعندما وقعت الفتنة التي نتج عنها مقتل عثمان، تباين موقف الأنصار منها. هناك من اعتزلها ولم يشارك في أحداثها مثل محمد بن مسلمة الأنصاري، فيما أيّدها آخرون بحماس مثل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ورفاعة بن رافع والحجاج بن غزية، الذين شاركوا أهل الكوفة ومصر في حصار منزل عثمان.
اعتمد عثمان على الأنصاري محمد بن مسلمة في قيادة مفاوضات الصُلح بينه وبين الثائرين عليه وهي المفاوضات التي باءت بالفشل فحاصر الثوار منزل عثمان.
أغضب الحصار ولاة عثمان من الأنصار، مثل عبادة بن الصامت وأبو الدرداء في الشام وأنس بن مالك في البصرة وأبو مسعود البدري في البصرة، الذين أعلنوا جميعًا الاستنفار العام ورغبتهم في العودة سريعًا إلى المدينة لإنقاذ الخليفة، وهي الخطوة التي تمت بعد وفاة الأوان، بعدما نجح الثائرون في اقتحام منزل عثمان وقتله.
في كتابه "الفتنة: جدلية الدين والسياسة" اعتبر هشام جعيط، أن أغلبية الأنصار ضاقوا بسياسات عثمان وتهميشه لهم فتقاعسوا عن نُصرته، ورفضوا فضّ حصار المتظاهرين حول داره الكائنة في قلب المدينة، وهو ما دفع معاوية بن أبي سفيان لاتّهام الأنصار لاحقًا بقتل عثمان.
- في عهد علي بن أبي طالب
عقب تعيين علي بن أبي طالب خليفة بايعه أغلب الأنصار إلا بضعة أفراد، أشهرهم: محمد بن مسلمة، حسان بن ثابت، كعب بن مالك، وزيد بن ثابت، الذي رُوي عنه أنه رفض القتال في جيش علي قائلاً "أما أن أضرب بسيفي لأؤكد لك مُلكًا فلا".
وارتحل إلى الشام عددً من الأنصار رفضًا لولاية علي مثل النعمان بن بشير وأبو سعيد الخدري وكعب بن عجرة، وكلهم من الأنصار الذين آثروا الالتحاق بركب معاوية بدلاً من البقاء في المدينة.
وفي تعيين ولاته، استعان علي بعددٍ كبير من الأنصار، فعيّن عثمان بن حُنيف على البصرة، وكان مسؤولاً عليها وقت أن وفدت عليها السيدة عائشة وطلحة والزبير، وناله الأذى من أنصارهم بعدما ضُرب وحُلقت لحيته.
ارتحل إلى الشام عددً من الأنصار رفضًا لولاية علي بن أبي طالب مثل النعمان بن بشير وأبو سعيد الخدري وكعب بن عجرة، والتحقوا بركب معاوية.
أيضًا عُيّن كل من أبي قتادة الانصاري على مكة، وسهل بن حُنيف على المدينة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وقرظة بن كعب على الكوفة، وثابت قيس بن الخطيم على المدائن، كما عيّن سهل بن حُنيف على الشام، وهو الإقرار الذي لم يتم، فما أن اقترب سهل من الشام (الموالي لمعاوية) حتى خرج عليه الشاميون بالسلاح وطردوه من بلادهم فعاد من فوره إلى المدينة.
وعقب وفاة علي وتولّي معاوية بن أبي سفيان الخلافة من بعده، اعتمد على عددٍ محدودٍ من الأنصار في دولته، فعيّن فضالة بن عبيد الأنصاري قاضيًا، ولما مات معاوية حمل فضالة نعشه حتى مثواه الأخير.
أيضًا، عيّن معاوية النعمان بن بشير الأنصاري واليًا على الكوفة ثم حمص، ومسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر والمغرب.
لكن بشكلٍ عام، فإن الخليفة الجديد لم يغفر أبدًا للأنصار دورهم -كما يعتقد- في مقتل عثمان وقتلهم العديد من أقاربه خلال حروب بني أمية الأولى ضد الإسلام مثلما جرى في بدر مثلاً، وكذا تأييد أغلبهم لعلي وابنه الحسن من بعده ورفضهم مبايعة معاوية أميرًا إلا كرهًا. لذا، فإنه أصرّ على إقصائهم من بنيان دولته، وهو النهج الذي حافَظ عليهم خلفاؤه من بعده طيلة عهد الدولة الأموي، ما أدخل الأنصار في دوامة "خواء سياسية" لم يخرجوا منها أبدًا.
المصادر
- "الأنصار في العهد الراشدي"، حامد محمد الخليفة
- "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، هشام جعيط
- "سياسة الدولة الأموية تجاه الأنصار"، سيف علي حوران الزيادي
- "الدين والسياسة في التاريخ الإسلامي"، عبد الرحمن شلقم
- "الأنصار والرسول"، إبراهيم بيضون