الدكتور جون فان آيس أمام مرسته في البصرة في بداية القرن العشرين
الدكتور جون فان آيس أمام مرسته في البصرة في بداية القرن العشرين

في مطلع القرن العشرين لم تكن ولاية البصرة، تحت الحكم العثماني، أفضل من باقي ولايات العراق. فالإهمال والفقر والأمية كانت تسود الولاية العريقة بمدنها المختلفة، فلا وجود لتعليم نظامي عصري ولا مناهج دراسية حديثة، ولا مستشفيات ولا حدا أدنى من الخدمات الصحية.

وكان من النادر مشاهدة رجال أوروبيين في تلك البقعة من الأرض. وهو ما جعل وجود رجل أميركي من أصول هولندية يتقن العربية يأخذ صيتا كبيرا بين كل فئات المجتمع هناك.

فمن هو هذا الرجل؟ وكيف قدم إلى البصرة؟ وكيف أسس أول مدرسة نظامية معترف بشهادتها في الولايات المتحدة؟

إنه الدكتور جون فان آيس، أو "مستر وانيس"، كما اعتاد أن يناديه الناس في جنوب العراق. وهو حاصل على الدكتوراه في علم اللاهوت، وجاب عدة بلدان في الخليج وشبه الجزيرة العربية، حتى استقر بولاية البصرة عام 1903، مما جعله يتقن العربية بلكنة غربية.

كسب الدكتور جون فان آيس علاقات واسعة شعبية ورسمية في العراق، وجاب قرى الجنوب وأهواره، وأقام في دواوين ومضايف شيوخ العشائر. ولاحقا، تحدث عن كرمهم وطيبتهم، وعن أحداث وطرائف وطبيعة المجتمع العراقي وأفكاره وتقاليده، وعن أصدقائه ومعارفه في كتاب أسماه "أقدم أصدقائي العرب" صدر باللغة الإنجليزية، ليعرّف الغرب بالشرق العربي، لكنه مُنع من نشره في العراق وقتها من قبل وزارة المعارف، قبل أن يترجم لاحقا إلى العربية بأمر من صديقه الباشا نوري السعيد، ويطبع في مدينة الموصل.

 

صراع من أجل مدرسة

 

ينقل عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" عن الدكتور جون فان آيس قوله: "إن المجتمع العراقي (حينها) في حاجة ماسة إلى مدارس حديثة يجري التعليم فيها باللغة العربية، وليست باللغة التركية السائدة في ذلك الوقت".

وقد واجه الدكتور فان آيس مشاكل جمة في استحصال موافقة الباب العالي في إسطنبول على افتتاح مدرسته، بالرغم من تدخل كثير من الوجهاء.

وحتى بعد صدور الموافقة، عقب طول انتظار، تباطأت الجهات المختصة في ولاية البصرة في الموافقة على بناء المدرسة واختيار مناهجها ومعلميها، مما تسبب بتأخر المشروع أكثر من عامين آخرين.

تم افتتاح مبنى مدرسة "الرجاء العالي" عام  1912م، والتي كان يسميها الناس هناك بـ"مدرسة الأميركان" وتم بناؤها وسط منطقة العشار.

حاول فان آيس أن تكون المدرسة مثالية من جانب المناهج والكادر التعليمي، خاصة بعدما استطاع أن يستحصل  تمويلا ودعما جيدين من متبرعين وجمعيات أميركية وقتها. فحرص على إدراج تعليم عدة لغات في منهجها، واستقطب الكفاءات من المعلمين عربا وأجانب، كما استقبلت صفوف المدرسة ثمانين طالبا من أبناء البصرة، نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين والصابئة واليهود.

 

أول مدرسة للبنات أيضا!

 

تعرف الدكتور جون فان آيس على السيدة دوروثي التي قدمت إلى البصرة، وتزوجا بعد عدة أشهر. وقد أسست دوروثي وأدارت المدرسة الأميركية للبنات، والتي تغير اسمها لاحقا إلى مدرسة الرجاء العالي للبنات، لتكون بذلك أول مدرسة حديثة للبنات تفتتح في البصرة.

وكانت ثمرة زواجهما عام 1917 طفلين، بنتا وولدا. وقد سميا ابنهما جون، الذي ترحل بين سويسرا والولايات المتحدة والهند طلبا للدراسة، ثم عاد وأصبح معلما في مدرسة الرجاء العالي، لكن الأقدار شاءت أن يُتوفى وهو شاب عام 1943، ويدفن في مسقط رأسه بالبصرة.

 

نهاية بروايتين!

 

قضى جون فان آيس أكثر من أربعين عاما في ثنايا جنوب ووسط العراق، عاصر خلالها مختلف ملوك وساسة العراق، قبل أن يقرر مع زوجته دوروثي أن يتقاعد ويترك البصرة ويعود إلى بلاده.

لكن هناك روايتان حول نهاية "مستر وانيس". الأولى وردت في كتاب "عبير التوابل والموانئ البعيدة" لمؤلفه إحسان وفيق السامرائي، الذي يقول إن جون فان آيس توفي بعد أربعة أيام فقط من وصوله إلى بلده أميركا عام 1949.

أما الثانية فهي رواية السيد غوسلينك الذي خلف الدكتور فان آيس في إدارة مدرسة الرجاء العالي، حيث ذكر أنه توفي عام 1949 قبل يومين من موعد رحيله وعودته إلى بلاده.

وقد تحقق حلمه، حيث مات ودفن في البصرة إلى جانب ولده، في المقبرة التي تعرف باسم مقبرة "المكينة"، نسبة الى ماكنة السوس القريبة منها، أو كما تسمى أيضا بـ"مقبرة الإنجليز" في منطقة الحكيمية.

ذهب إلى هذه الرواية أيضا الكاتب علي أبو الطحين، مضيفا أنه تم إعداد العديد من الحفلات الوداعية قبيل موعد سفره، لكن القدر قد غيّر وجهته إلى الأبد.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".