نجح المسلمون في غزو الأندلس سنة 92هـ. استقر "الفاتحون" في أراضيهم الجديدة وأسسوا مجموعة من الدول تعاقبت على حكم البلاد على مدار 800 عام. كانت غرناطة هي آخر معاقل الإسلام في الأندلس، وبسقوطها في سنة 897ه، اختفى الحكم الإسلامي نهائيًا من تلك البلاد. ولاحقا، دأب المسلمون على النظر إلى الأندلس على أنها جنة الله في أرضه، والفردوس المفقود الذي "سُلب منهم" في وقت ضعفهم.
حاول العقل الإسلامي أن يقدم مجموعة من المبررات التي تفسر "ضياع الأندلس". فظهرت أفكار الباحثين المتأثرين بالتفسير الديني للتاريخ. روج هؤلاء إلى أن السبب الأول لضياع الأندلس تمثل بالمقام الأول في ابتعاد أهلها عن الدين والشريعة وميلهم للفنون واللهو والترف.
وفي هذا السياق، ظهر اسم زرياب. عدّه بعض الباحثين الإسلاميين المسؤول الأول عن ضعف مسلمي الأندلس وتدهور قوتهم. يقول الداعية الإسلامي راغب السرجاني في كتابه "قصة الأندلس من الفتح للسقوط" معبرًا عن ذلك الرأي: "السبب الثاني لضعف الإمارة الأموية في الفترة الثانية: هو زرياب… كلام زرياب صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماع زرياب، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص السلف الصالح إلى سماع حكايات زرياب العجيبة وأساطيره الغريبة، بل صرف الناس عن سماع القرآن إلى سماع أغانيه... ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومن سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس!".
يقول الداعية الإسلامي راغب السرجاني: لا يعلم الناس أن زرياب هذا ومن سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس!".
وتفصل الباحثة آسيا بلمحنوف هذه الفكرة في مقال لها، فتقول: "بعد أن جاء -تقصد زرياب- الأندلس كثر المغنون والمغنيات هناك، وأصبح معهده يضم الكثير من المغنيات، وولع الناس بمجالسه الطربية حتى افتتنوا به، وكثر إقبالهم عليه، وظهر إلى جانب الغناء الرقص وكثرت مجالس الطرب واللهو، وقد صرفت حكايات زرياب عن الأمراء والملوك والأساطير الناس عن سماع قصص الصحابة والخلفاء وأمجادهم، بل وصرفهم حتى عن مجالس العلم وحلقات القرآن الكريم، بل إن النساء وفدن من خارج الأندلس ليتعلمن ضروب الغناء على يد زرياب...".
نناقش هذه الفرضية في هذا المقال، ونلقي الضوء على سيرة زرياب من جهة، والأسباب الموضوعية لسقوط الحكم الإسلامي في الأندلس من جهة أخرى، لنعرف أن شيوع القول بمسؤولية زرياب عن سقوط الأندلس ليس أكثر من طرح سطحي ساذج لا علاقة له بالظروف التاريخية التي عاشها المسلمون في شبه الجزيرة الأيبيرية لما يزيد عن ثمانية قرون كاملة.
زرياب.. من بغداد العباسية إلى قرطبة الأموية
يتبادر إلى الذهن السؤال حول شخصية زرياب. تُرى من هو هذا الرجل الذي حُمل على كاهله مسؤولية سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس؟!
هو أبو الحسن علي بن نافع، ولد سنة 173هـ في الموصل. واتصل بالمغني المشهور إسحاق الموصلي فصار واحدًا من تلاميذه المقربين. عُرف أبو الحسن باسم زرياب -وهو طائر أسود اللون عذب الصوت- بسبب لون بشرته وحلاوة صوته.
كان إسحاق الموصلي من الموسيقيين المقربين من الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد. تذكر المصادر التاريخية أن الرشيد طلب من الموصلي ذات يوم أن يقدم له أحد المغنيين الجدد. خضع الموصلي للأمر واصطحب معه زرياب وقدمه للخليفة. أنشد زرياب للرشيد قائلًا: "يا أيها الملك الميمون طائره هارون راح إليك الناس وابتكروا". أُعجب الرشيد بصوت المغني الجديد، وطار به فرحًا. تقول الروايات التاريخية أن ذلك أثار حفيظة إسحاق الموصلي فقال لتلميذه: "إما أن تذهب عني في الأرض لا أسمع لك خبرًا، وأنا أنهضك بما أردت من مال، وإما أن تقيم على كرهي، فخذ الآن حذرك".
كان زرياب يعرف أن أستاذه قادر على إنفاذ وعيده، ولذلك آثر أن يترك بغداد. أرسل إلى الأمير الأموي في الأندلس الحكم بن هشام يستأذنه في القدوم عليه، ولمّا تلقى منه الإذن سارع بترك العراق وتوجه غربًا. توفى الحكم قُبيل وصول زرياب، وتولى ابنه عبد الرحمن الحكم من بعده. يذكر محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" أن زرياب لمّا وصل قرطبة، استقبله الأمير الجديد "بمنتهى الإكرام والحفاوة، وأجرى عليه الأرزاق الواسعة، وجعله من خاصة بطانته. وبهر زرياب أهل الأندلس ببراعته في الغناء والموسيقى، وطار صيته في كل مكان، وأضحى قطب الفن الذي لا يجارى، وأخذ عنه أهل الأندلس فنونه وإبداعه، وتشبهوا به في مظاهر زيه وأناقته وطرائق معيشته".
اخترع زرياب نوعًا جديدًا من الغناء يُعرف باسم الموشح، وأدخل عددًا من التعديلات على بعض الأدوات الموسيقية. أسس أيضًا دار المدنيات في قرطبة. كانت تلك الدار هي أول معهد للموسيقى في الأندلس. وتزعم بعض المصادر التاريخية أن زرياب عمل كذلك على نقل مظاهر الحضارة البغدادية إلى قرطبة، ومن خلاله تعرف الأندلسيون على أفضل تصميمات الملابس، وتعلموا الكثير من العادات المرتبطة بالطعام والشراب، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالذوق العام. استمر المغني الأسمر يمارس جهوده في تلك الميادين حتى توفي في سنة 243هـ. يلخص محمد عبد الله عنان أثر زرياب في قرطبة بقوله: "وكان لزرياب وفنه أعظم الأثر في تكوين الفن الأندلسي في ظل الدولة الأموية، ثم في ظل دول الطوائف".
وجود عدو قوي
يمكن أن نعزو سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس لمجموعة من الأسباب المهمة. يُعدّ وجود العدو الإسباني القوي أهم تلك الأسباب على الإطلاق. انتصر المسلمون على القوط -حكام الأندلس القدامى- في رمضان سنة 92هـ في الموقعة التي عُرفت بمعركة وادي لكة أو سهل البرباط. سقط الملك القوطي رودريك قتيلًا في المعركة، وانكسرت قوة الجيش القوطي بعدما قُتل أغلبية النبلاء. تمكن أحد هؤلاء النبلاء ويُدعى بلاي/ بلايو من الهرب إلى الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الأيبيرية واختفى وسط أنصاره في المعاقل الجبلية الحصينة في تلك الناحية.
يخبرنا المؤرخون أن المسلمين انشغلوا في افتتاح المدن الأندلسية الكبرى واحدةً بعد أخرى. بعد سبع سنين، حاول الوالي ابن علقمة اللخمي أن يستولي على تلك المعاقل الجبلية الشمالية، ولكنه هُزم في معركة كوفادونجا. قلل المسلمون من أهمية تلك المعاقل وانصرفوا إلى الجنوب وقالوا وقتها قولتهم المشهورة: "ثلاثون علجًا -يقصدون أتباع بلايو الذين ظلوا على قيد الحياة- ما عسى أن يجيء منهم"، وذلك بحسب ما يذكر المقري التلمساني المتوفى 1041هـ في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب".
تمكن بلايو عقب تراجع المسلمين من فرض سيطرته على بقية المعاقل الجبلية المجاورة له، ولم يمر وقت طويل حتى أعلن عن تأسيس مملكة أستورياس. كانت تلك الجهود الحربية المتواضعة هي البداية الحقيقية لمّا عُرف فيما بعد باسم "حروب الاسترداد". كان الإسبان المسيحيون يزدادون قوة شيئًا فشيئًا وتمكنوا من الاستيلاء على مناطق جديدة من الأندلس. ظهرت فيما بعد ممالك ليون وقشتالة وأراجون ونافار واستطاعت كل مملكة أن تقضم قطعة من الأملاك الإسلامية في شبه الجزيرة.
لم يتمكن المسلمون من دمج تلك الجماعات المعارضة في المجتمع الإسلامي كما وقع في بقية البلاد التي غزاها المسلمون. احتفظ الإسبان بدينهم المسيحي وخاضوا حربًا دينية- قومية ضد المسلمين على مر القرون. انتهت تلك الحرب في سنة 897هـ عندما سقطت مملكة غرناطة الإسلامية بيد التحالف المسيحي الذي قاده كل من فرديناند الثاني ملك أراجون وإيزابيلا الأولى ملكة قشتالة.
التكوين العنصري للشعب الأندلسي
يُعد التكوين العنصري الذي تألف منه الشعب الأندلسي أحد أهم الأسباب التي تفسر سقوط دولة الإسلام في الأندلس بعد قرون من تأسيسها. تلقي الباحثة المصرية سامية مصطفى مسعد الضوء على تلك المسألة في كتابها "التكوين العنصري للشعب الأندلسي وأثره على سقوط الأندلس". تقول الباحثة: "تألف الشعب الأندلسي من كثير من العناصر المتنافرة فهناك أهل البلاد الأصليون، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، وهناك العرب والبربر والصقالبة. وكل عنصر من هذه العناصر ينتمي إلى جنس قائم بذاته، لكل لغته الخاصة وعاداته. هذا وإن كانت المصاهرة قد قربت بين تلك العناصر بعض الشيء إلا أنه بقي هناك من مظاهر الاختلاف والتنافس ما يكفي لقيام الصراع بينهم إذا ما حانت الفرصة".
انقسم المسلمون لما يزيد عن عشرين دولة، وخاضوا الحروب الدامية ضد بعضهم واستعانوا في بعض الأوقات بالدول الإسبانية المسيحية.
عرف المسلمون الصراع بين العناصر المختلفة منذ اللحظة الأولى لدخولهم الأندلس. تتحدث المصادر التاريخية أن الأمازيغ حققوا الانتصارات الأولى على القوط. حسدهم العرب على ذلك، فسارعوا بالمشاركة في الغزو. وتفجر الصراع بين الفريقين وانتشرت القوات العربية في أفضل مناطق الأندلس وأكثرها خصوبة وغنى. فيما تركوا للأمازيغ النواحي الأكثر جفافًا وفقرًا.
لم يتوقف التنافس العنصري في الأندلس على الخصومة المنعقدة بين العرب والأمازيغ، بل تعدى ذلك ليصل إلى الحرب بين القبائل العربية نفسها. كان التنافس يفرق بين قبائل القيسية -التي عاشت في شمال شبه الجزيرة العربية- والقبائل اليمنية- التي عاشت في جنوب شبه الجزيرة. وصل الأمر لحد قيام حروب أهلية بين القبائل العربية في القرن الثاني الهجري، وكان من الطبيعي أن يتسبب كل ذلك في ضعف القوة العسكرية للعرب.
كان هناك أيضًا المولدون، وهم سكان الأندلس الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام أو أبناء "الفاتحين" -العرب والأمازيغ- من زوجاتهم الإسبانيات. جرى العرف أن يُنظر لتلك الفئة بشكل سيء من قِبل العرب والأمازيغ على حد سواء، كما تم تهميشهم بشكل شبه كامل بوصفهم "مواطنين" من الدرجة الثانية في المجتمع. اندلعت العديد من الثورات التي قام بها المولدون احتجاجًا على ما تعرضوا له من ظلم. كانت ثورة عمر بن حفصون في القرن الثالث الهجري واحدة من أهم تلك الثورات على الإطلاق. يذكر المستشرق البريطاني ستانلي لين بول في كتابه "تاريخ العرب المسلمين في إسبانيا: كلاسيكيات التاريخ" أن ابن حفصون وقف بين المولدين الذين اتبعوه، وقال لهم: "طالما عنف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وحمّلكم فوق طاقتكم، وأذلتكم العرب واستعبدتكم. وإنما أريد أن أقوم بثأركم، وأخرجكم من عبوديتكم". يوضح ذلك القول شعور المظلومية الذي كان يتزايد بين أفراد تلك الطبقة.
الصراع السياسي المستمر بين المسلمين
عرفت الأندلس صراعًا مستمرًا لا يهدأ على الحكم والسلطة. بدأ هذا الصراع منذ اللحظة الأولى لـ"فتح" شبه الجزيرة الإيبيرية عندما اختلف موسى بن نصير مع مولاه طارق بن زياد فحبسه وعزله من منصب القيادة. ثم ظهرت إمارات هذا الصراع في عصر الولاة، فكان من المعتاد أن يتنافس علية القوم على منصب الوالي وكثيرًا ما دبر بعضهم المكائد للوصول للولاية.
اختار الأندلسيون أن يؤيدوا الدولة الأموية عقب زوال حكمها في المشرق على يد العباسيين. فنراهم يبايعون عبد الرحمن الداخل كأمير على الأندلس في سنة 138هـ. حارب الداخل وخلفاؤه العديد من القوى المعارضة للحكم الأموي، وأسفر ذلك عن ضعف قوة المسلمين حتى آل الأمر إلى سقوط الدولة الأموية.
لاحقا، ظهر الصراع السياسي بين المسلمين على أشده في عصر ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري. انقسم المسلمون لما يزيد عن عشرين دولة، وخاضوا الحروب الدامية ضد بعضهم واستعانوا في بعض الأوقات بالدول الإسبانية المسيحية. ذهبت كل تلك الصراعات بقوة المسلمين وأبقتهم ضعفاء غير قادرين على الصمود في مواجهة القوى الإسبانية المتحفزة للانتقام.
البعد الجغرافي عن العالم الإسلامي
يغفل الكثيرون عن اعتبار العامل الجغرافي ودوره الكبير في إسقاط الحكم الإسلامي بالأندلس. تقع شبه الجزيرة الإيبيرية في أقصى مغرب العالم الإسلامي، ويفصل بينها وبين أراضي المغرب مضيق جبل طارق، فيما ترتبط -عن طريق اليابسة- بالأراضي الفرنسية.
أثر ذلك الموقع كثيرًا في قوة المسلمين بالأندلس. هيأ الموقع توافد المساعدات البشرية المستمرة للدول الإسبانية من جانب حلفائها الأوروبيين والبابوية الكاثوليكية التي أعلنت كفاحها ضد المسلمين باعتبارهم غزاة يجب العمل على طردهم. من جهة أخرى كان من الصعب أن يحظى مسلمو الأندلس بالدعم نفسه من القوى الإسلامية الكبرى في المشرق. لم يتمكن المماليك والعثمانيون من دعم المسلمين الأندلسيين عسكريًا بالشكل المطلوب. وقفت المسافة البعيدة كحائل لا يمكن اجتيازه. وحدهم المغاربة تمكنوا من دعم الأندلس عسكريًا. قدم الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين قبلة الحياة للحكم الإسلامي في الأندلس في سنة 479هـ، عندما قاد قواته وانتصر على ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون في موقعة الزلاقة. ثم أعاد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الكرة في سنة 591هـ في موقعة الأرك. أما السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور المريني فقد أخر سقوط الأندلس لنحو قرنين كاملين عندما انتصر على الملك القشتالي ألفونسو العاشر في سنة 674هـ في معركة الدونونية.
لم يتمكن المماليك والعثمانيون من دعم المسلمين الأندلسيين عسكريًا بالشكل المطلوب. وقفت المسافة البعيدة كحائل لا يمكن اجتيازه.
يظهر أثر الموقع الجغرافي في إضعاف الحكم الإسلامي في الأندلس فيما نُقل من وصية الخليفة الموحدي يعقوب المنصور قُبيل وفاته سنة 595هـ. جاء في تلك الوصية التي يذكرها محمد عبد الله عنان في كتابه "...أوصيكم بتقوى الله تعالى، وبالأيتام واليتيمة" فلمّا سأله أحد أصحابه "ومن الأيتام واليتيمة؟" قال موضحًا: "اليتيمة جزيرة الأندلس. والأيتام سكانها المسلمون، وإياكم الغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها وحماية ثغورها، وتربية أجنادها وتوفير رعيتها، ولتعلموا أنه ليس في نفوسنا أعظم من همها...".