أيد الكثير من العلماء المسلمين فكرة كروية الأرض، معتمدين على المنطق والمشاهدات الحسية وتأويلهم للقرآن.
أيد الكثير من العلماء المسلمين فكرة كروية الأرض، معتمدين على المنطق والمشاهدات الحسية وتأويلهم للقرآن.

أثارت الصور المُلتقطة بواسطة التليسكوب الفضائي جيمس ويب ردود أفعال واسعة النطاق في شتى أنحاء العالم. اندهش الكثيرون بعدما أوضحت الصور العديد من التفاصيل الخاصة ببدايات الكون، والتي يرجع عمرها لما يزيد عن ثلاثة عشر مليار سنة.

اختلفت ردود الأفعال في المنطقة العربية. شهدت مواقع التواصل الاجتماعي نقاشًا جدليًا حول بعض المعلومات الفلكية المُتعارف عليها منذ فترة طويلة. استحوذت فكرة كروية الأرض على القدر الأكبر من النقاش الصاخب. شكك الكثيرون في الفكرة – الثابتة علميا- أصلا، وأكد البعض بأن الأرض مسطحة الشكل زاعمين أن القول بكروية الكوكب مخالف لصريح القرآن والسنة! وأن الأمر لا يعدو أن يكون إحدى حلقات نظرية المؤامرة التي فُرضت على الوعي الإسلامي منذ قرون!

غاب عن ذلك النقاش أن العشرات من العلماء المسلمين منذ قرون طويلة أكدوا مرارًا على كروية الأرض في مؤلفاتهم وكتبهم. نلقي الضوء في هذا المقال على أبرز الأعلام المسلمين الذين أيدوا تلك الفكرة، لنرى كيف ذهب هؤلاء العلماء إلى ذلك الاعتقاد. وكيف استعانوا في طرحهم بتأويلهم لآيات القرآن من جهة، وبالمنطق والمشاهدات الحسية من جهة أخرى.

  • ابن رستة

كان الرحالة الفارسي أبو علي أحمد بن عمر المشهور بابن رستة من أوائل الجغرافيين المسلمين الذين نبهوا الناس لكروية الأرض. عاش ابن رستة في القرن الثالث الهجري ومات في حدود سنة 300هـ. خرج من بلاد فارس للحج وصنف كتابه المُسمى بـ"الأعلاق النفيسة". ذكر في هذا الكتاب: "...الله عز وجل وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوارًا، والأرض مستديرة أيضًا كالكرة مصمتة في جوف الفلك قائمة في الهواء يحيط بها الفلك من جميع نواحيها بمقدار واحد من أسفلها وأعلاها، وجوانبها كلها فهي في وسطها كالمحة في البيضة... وكذلك أجمعت العلماء على أن الأرض أيضًا بجميع أجزائها من البر والبحر على مثال الكرة، والدليل على ذلك أن الشمس والقمر، وسائر الكواكب لا يوجد طلوعها، ولا غروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل يرى طلوعها على المواضع الشرقية من الأرض قبل طلوعها على المواضع المغربية، وغيبوبتها على المشرقية أيضًا قبل غيبوبتها عن المغربية…".

  • إخوان الصفا

عُرفت جماعة إخوان الصفا في القرن الثالث الهجري. كان قوام تلك الجماعة من العلماء والمفكرين من أهل البصرة. عمل هؤلاء على تقديم مزيج يجمع بين الفلسفة والمنطق والعلوم الإسلامية. يذهب الكثير من الباحثين لوجود تأثيرات متبادلة بين إخوان الصفا وطائفة الشيعة الإسماعيلية.

وضح إخوان الصفا رأيهم فيما يخص كروية الأرض في رسائلهم المعروفة باسم رسائل إخوان الصفا. ورد في بعض تلك الرسائل القول: "...والأرض جسم مدور مثل الكرة، وهي واقفة في الهواء بأن الله يجمع جبالها وبحارها وبراريها، وعماراتها وخرابها، والهواء يحيط بها من جميع جهاتها شرقيها وغربيها وجنوبها وشمالها ومن ذا الجانب، ومن ذلك الجانب، وبعد الأرض من السماء من جميع جهاتها متساو…".

  • المسعودي

يُعدّ علي بن الحسين المسعودي المتوفى 346هـ واحدًا من أوائل العلماء المسلمين الذين قالوا بكروية الأرض. كان المسعودي عالمًا موسوعيًا، تمكن من الإحاطة بالتاريخ والجغرافيا والأدب وغير ذلك من العلوم. ذكر المسعودي في كتابه المعروف بـ"مروج الذهب ومعادن الجوهر" أن الأرض كروية الشكل. استدل على ذلك بالاختلاف في أماكن الشروق والغروب. يقول: "الشمس إذا غابت أقصى الصين كان طلوعها على الجزائر العامة في الأقيانوس الغربي. وإذا غابت هذه الجزائر، كان طلوعها في أقصى الصين، وذلك نصف دائرة الأرض…".

  • ابن حزم

عاش العالم الأندلسي علي بن حزم القرطبي المتوفى 456هـ في القرن الخامس الهجري. كان ابن حزم من أكبر فقهاء الأندلس، وعُرف في الوقت ذاته بإسهاماته المتعددة في ميادين مقارنة الأديان والأنساب والتفسير وغير ذلك من العلوم الرائجة في زمنه.

تحدث ابن حزم في كتابه "الفِصل في الملل والأهواء والنحل" عن مسألة كروية الأرض، بل خصص لذلك فصلا أسماه "بيان كروية الأرض"، قال فيه إن الأغلبية الغالبة من العلماء أقروا بهذا الأمر. قال ابن حزم في هذا المعنى: "...وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا إِن الْبَرَاهِين قد صحت بِأَن الأَرْض كروية، والعامة تَقول غير ذَلِك. وجوابنا، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق، إِن أحدا من أَئِمَّة الْمُسلمين الْمُسْتَحقّين لاسم الْإِمَامَة بِالْعلمِ رَضِي الله عَنْهُم لم ينكروا تكوير الأَرْض، وَلَا يُحفظ لأحد مِنْهُم فِي دَفعه كلمة. بل الْبَرَاهِين من الْقُرْآن وَالسّنة قد جَاءَت بتكويرها. قَالَ الله عز وَجل {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل}. وَهَذَا أوضح بَيَان فِي تكوير بَعْضهَا على بعض، مَأْخُوذ من كور الْعِمَامَة وَهُوَ إدارتها. وَهَذَا نَص على تكوير الأَرْض ودوران الشَّمْس كَذَلِك".

  • ابن الجوزي

يُعدّ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى 597هـ واحدًا من أهم العلماء الموسوعيين في تاريخ الإسلام. صنف ابن الجوزي العديد من الكتب في التاريخ والمذاهب والزهد والرقائق والحديث. ذكر ابن الجوزي في مقدمة كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" رأيه في مسألة كروية الأرض عندما نقل "إجماع العلماء" على هذا الأمر واستدل على ذلك ببعض الأدلة الحسية. يقول: "وَكَذَلِكَ أجمعوا -أي العلماء- عَلَى أَن الأَرْض بجميع أجرامها من البرد مثل الكرة، ويدل عَلَيْهِ أَن الشمس والقمر والكواكب لا يوحد طلوعها وغروبها عَلَى جميع من فِي نواحي الأَرْض فِي وقت واحد، بَل عَلَى المشرق قبل المغرب، وكرة الأَرْض مثبتة فِي وسط كرة السماء كالنقطة من الدائرة. عَلَى ذَلِكَ أَن جرم كُل كوكب يرى فِي جميع نواحي السماء عَلَى قدر واحد، فيدل عَلَى ذَلِكَ أَن مَا بَيْنَ السماء وَالأَرْض من جميع الجهات بقدر واحد، كاضطرار أَن تكون الأَرْض وسط السماء...".

  • فخر الدين الرازي

يُعدّ فخر الدين الرازي المتوفى 606هـ واحدًا من أكابر المتكلمين الأشاعرة عبر القرون. اشتهر الرازي برأيه في مسألة كروية الأرض. قال في تفسيره المعروف بـ"مفاتيح الغيب" في سياق شرح الآية الثالثة من سورة "الرعد": "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"، إنه

"ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه؟". يبيّن هذا الأسلوب أن الاعتقاد بكروية الأرض كان أمرًا شائعًا ومعروفًا عند الأغلبية الغالبة من علماء هذا العصر، لدرجة أن التشكيك فيه كان يُعدّ نوعًا من أنواع المكابرة!

  • ابن تيمية

عُرف ابن تيمية المتوفى 728هـ بكونه واحدًا من كبار علماء أهل السنة والجماعة في القرنين السابع والثامن الهجريين. يرى الكثيرون أن ابن تيمية استمد شهرته بسبب فتاويه المتشددة. يظهر في كلام ابن تيمية عن كروية الأرض جزء من الجانب الخفي من شخصيته.

يذكر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" وجهة نظره في شكل الأرض. يقول: "لا أَعْلَمُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ -يقصد كروية الأرض-، إلا فِرْقَةٌ يَسِيرَةٌ مَنْ أَهْلِ الْجَدَلِ لَمَّا نَاظَرُوا الْمُنَجِّمِينَ فَأَفْسَدُوا عَلَيْهِمْ فَاسِدَ مَذْهَبِهِمْ فِي الأَحْوَالِ وَالتَّأْثِير.ِ خَلَطُوا الْكَلامَ مَعَهُمْ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي الْحِسَابِ، وَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَبَّعَةً أَوْ مُسَدَّسَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ; وَلَمْ يَنْفُوا أَنْ تَكُونَ مُسْتَدِيرَةً لَكِنْ جَوَّزُوا ضِدَّ ذَلِكَ... وَمَا عَلِمْتُ مَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مُسْتَدِيرَةٍ – وَجَزَمَ بِذَلِكَ – إلا مَنْ لا يُؤْبَهُ لَهُ مِنْ الْجُهَّالِ". يسوق ابن تيمية بعدها عددًا من "الأدلة القرآنية" لإثبات وجهة نظره. من أهم تلك الأدلة، الآية الثالثة والثلاثون من سورة "الأنبياء": "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ". يرى ابن تيمية أنه لمّا كان الفلك في اللغة هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ، فإن معنى ذلك أن الأرض كروية بحيث يتعاقب عليها كل من النهار والليل.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".