عرف المسلمون منصب الخليفة عقب وفاة النبي محمد في العام الحادي عشر من الهجرة. اندلعت العشرات من الحروب عبر القرون للوصول إلى هذا المنصب الرفيع. أريقت الدماء وأُزهقت الأنفس، وحكى المؤرخون الكثير من القصص الدامية عن المصائر المأسوية للخلفاء الذين فقدوا عروشهم.
بدأ الأمر مبكرا، في حقبة الخلافة الراشدة. قُتل ثلاثة من الخلفاء لأسباب مختلفة. قضى عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة الفارسي. وقُتل عثمان بن عفان على أيدي ثوار الأمصار الناقمين على سياساته المالية والإدارية. أما علي بن أبي طالب فاغتاله عبد الرحمن بن ملجم المرادي في صلاة الفجر.
نلقي الضوء في هذا المقال على النهايات المؤسفة التي تعرض لها الخلفاء المسلمون، لنرى كيف تحولت السلطة في بعض الأحيان إلى لعنة تهلك أصحابها.
• في الدولة الأموية
شهدت الدولة الأموية العديد من النهايات المأسوية للخلفاء. بدأ ذلك في عهد الخليفة مروان بن الحكم. يذكر الأديب الأندلسي ابن عبد ربه المتوفى 328هـ، في كتابه "العقد الفريد"، أن مروان سخر يومًا من ابن زوجته خالد بن يزيد. لم تفوت أم خالد ذلك الأمر. يقول ابن عبد ربه: "فلبث مروان بعدما قال لخالد ما قال أيامًا، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها فأمرت جواريها فطرحن عليه الوسائد ثم غطته حتى قتلته، ثم خرجن فصحن وشققن ثيابهن: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين!".
سقط عبد الله بن الزبير إلى الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه... ثم أمر الحجاج بجثته فصلبت.
عرف العصر الأموي نهاية دامية أخرى "للخليفة" عبد الله بن الزبير بن العوام. لم يكن ابن الزبير خليفة أمويًا، وإنما أعلن عن خلافته في مكة عقب وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في سنة 64هـ. يذكر ابن كثير المتوفى 774هـ في كتابه "البداية والنهاية" أن القوات الأموية التي قادها الحجاج بن يوسف الثقفي حاصرت ابن الزبير سنة 73هـ. يقول ابن كثير واصفًا مصير ابن الزبير وأصحابه القلائل الذين ثبتوا معه في أرض المعركة: "فحرضهم وحثهم على القتال والصبر، ثم نهض ثم حمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون، فجاءته آجرة -قطعة من الطوب- فأصابته في وجهه فارتعش لها، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه... سقط إلى الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه... ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت...".
اشتهرت أيضًا النهاية الدامية التي حاقت بمروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية. هُزم مروان أمام العباسيين في أكثر من معركة. هرب إلى مصر وتتبعه القائد العباسي صالح بن علي. يحكي ابن كثير عن مقتل مروان في ذي الحجة من سنة 132هـ، فيقول: "التقى -يقصد صالح بن علي- بخيل لمروان فهزمهم، ثم جعل كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمونهم حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان فدلهم عليه، وإذا به في كنيسة أبو صير فوافوه من آخر الليل، فانهزم من معه من الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسير معه فأحاطوا به حتى قتلوه، طعنه رجل من أهل البصرة يقال له: معوذ، ولا يعرفه حتى قال رجل: صرع أمير المؤمنين. فابتدره رجل من أهل الكوفة...فاحتز رأسه...".
• في الدولة العباسية
قامت الدولة العباسية في سنة 132هـ، وتمكن خلفاؤها من السيطرة على مساحات واسعة من العالم الإسلامي لسنين طويلة. تغير هذا الوضع في الفترة الأخيرة من حكم الخليفة المتوكل على الله، والذي حكم بين سنتي 232 و247ه.
تمكن المقاتلون الأتراك في تلك المرحلة من فرض سيطرتهم على الدولة، وبدأوا في الإعلان عن أنفسهم بوصفهم أحد أهم مراكز القوى في الدولة. يتحدث المؤرخ شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" عن ارتكاب الأتراك لجريمة مروعة بحق الخليفة العباسي، وذلك عندما تحالفوا مع ابنه محمد المنتصر بالله، واتفقوا على قتله. ينقل الذهبي عن أحد الرجال الذين شهدوا مقتل المتوكل "... وَسَكِرَ المُتَوَكِّلُ سُكْراً شَدِيْداً. وَمَضَى مِنَ اللَّيْلِ إِذْ أَقْبَلَ بَاغِرُ -أحد أمراء الأتراك- فِي عَشْرَةِ مُتَلَثِمِيْنَ تَبْرُقُ أَسْيَافُهُم، فَهَجَمُوا عَلَيْنَا، وَقَصَدُوا المُتَوَكِّلَ، وَصَعِدَ بَاغِرُ وَآخَرُ إِلَى السَّرِيْرِ... فَسَمِعْتُ صَيْحَةَ المُتَوَكِّلِ إِذْ ضَرَبَهُ بَاغِرُ بِالسَّيْفِ المَذْكُوْرِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَدَّهُ إِلَى خَاصِرَتِهِ...".
سيتكرر الأمر نفسه فيما بعد في عهود الكثير من الخلفاء العباسيين. يذكر الذهبي خبر الانقلاب الذي تعرض له الخليفة العباسي المهتدي بالله في 256هـ. كان المهتدي بالله حسن السيرة، وكان الناس يشبهونه في عدله وزهده بالخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. رفض المهتدي بالله أن يعطي الأموال للأتراك، وشهر سيفه ونزل لقتالهم في الشوارع، وتجمع العامة للدفاع عنه "...وحمي الوطيس، وتفلل جمع المهتدي واستحر بهم القتل. فولى والسيف في يده يقول: أيها الناس، قاتلوا عن خليفتكم، ثم دخل دار صالح بن محمد بن يزداد، ورمى السلاح، ولبس البياض ليهرب من السطح... فرماه واحد بسهم، ونفحه بالسيف، ثم حمل إلى الحاجب، فأركبوه بغلًا وخلفه سائس، وضربوه وهم يقولون: أين الذهب؟ فأقر لهم بستمائة ألف دينار مودعة ببغداد، فأخذوا خطه بها. وعصر تركي على أنثييه فمات".
انقلب الجند الأتراك على القاهر بالله بعد انقضاء ثلاث سنوات من خلافته، فامتنع من الخلع، فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه.
وقع الأمر ذاته للخليفة العباسي القاهر بالله في 322هـ. يذكر جلال الدين السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء" أن الجند الأتراك انقلبوا على القاهر بالله بعد انقضاء ثلاث سنوات من خلافته "...فامتنع من الخلع، فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه". بقي القاهر بعد أن أُبعد عن السلطة منزويًا في أحد البيوت حتى توفي في سنة 339ه.
سار البويهيون -وهم الأمراء الذين قدموا من بلاد فارس وتمكنوا من فرض سيطرتهم على بغداد بعد أن تخلصوا من الأتراك- على الدرب نفسه. كان الخليفة بالنسبة لهم مجرد ألعوبة يحركونها كيفما شاءوا. يتحدث ابن كثير في "البداية والنهاية" عن الانقلاب الذي قام به معز الدولة البويهي ضد الخليفة المستكفي بالله في سنة 334هـ. يقول ابن كثير: "لما كان اليوم الثاني والعشرون من جمادى الآخرة حضر معز الدولة إلى الحضرة، فجلس على سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم -من الفرس البويهيين- فمدا أيديهما إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة... وسيق الخليفة ماشيًا إلى دار معز الدولة فاعتقل بها... وسملت عينا المستكفي وأودع السجن، فلم يزل به مسجونًا حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة...".
• في الدولة الأيوبية
تمكن صلاح الدين الأيوبي من القضاء على الحكم الفاطمي في مصر في سنة 567هـ. وأسس بعدها الدولة الأيوبية في مصر والشام. لعب سلاطين هذه الدولة أدوارًا مهمة في التصدي للحملات الصليبية، لكن هذا لم يمنع من وقوع بعض الانقلابات العسكرية داخل البيت الأيوبي.
كان الانقلاب الأبرز الذي شهدته الدولة الأيوبية هو ذاك الذي وقع في مصر سنة 637هـ. قام الصالح نجم الدين أيوب في هذا العام بالانقلاب على أخيه العادل أبي بكر بن الكامل، والذي كان يحكم مصر في تلك الفترة.
حبس الصالح نجم الدين أيوب أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين.
يحكي عبد الرحمن ابن خلدون المتوفى 808هـ في تاريخه عن تفاصيل ذلك الانقلاب فيقول إن الصالح نجم الدين خرج من الشام قاصدًا مصر بعدما راسله بعض أعوانه واستدعوه ليتولى الحكم. وفي هذا الوقت "وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه. وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء... فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في ملكه... واستوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم أيبك الأسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين...".
• في الدولة المملوكية
اشتهرت الدولة المملوكية بكثرة ما وقع فيها من انقلابات عسكرية. كان أول تلك الانقلابات ما حدث في 648هـ عندما قام المماليك بقتل الملك المعظم توران شاه، آخر ملوك الدولة الأيوبية. يحكي المؤرخ تقي الدين المقريزي المتوفى 845هـ في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" قصة ذلك الانقلاب الشهير. يذكر المقريزي أن توران شاه أُصيب بالفخر والغرور والتعالي بعد أن تمكن جيشه من الانتصار على الملك الفرنسي لويس التاسع في معركة المنصورة. تسبب ذلك في أن توران شاه "أعرض عن مماليك أبيه الذين كانوا عنده لمهماته، وأطرح الأمراء والأكابر أهل الحل والعقد، وأبعد غلمان أبيه... وأساء السلطان إلى المماليك وتوعدهم، وصار إذا سكر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع، وضرب رءوسها بالسيف حتى تتقطع، ويقول: هكذا أفعل بالبحرية -كانت المماليك في هذا الوقت تُعرف بالمماليك البحرية-، ويسمى كل واحد منهم باسمه...".
ويضيف المقريزي أن المماليك كرهوا توران شاه. يقول "فنفرت قلوب البحرية منه، واتفقوا على قتله، وما هو إلا أن مد السماط بعد نزوله بفارسكور -مدينة بجوار المنصورة-، وجلس السلطان على عادته، تقدم إليه واحد من البحرية - وهو بيبرس البندقداري وضربه بالسيف: فتلقاه المعظم بيده فبانت أصابعه، والتجأ إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور... فقال البحرية بعضهم لبعض: تمموه وإلا أبادكم، فدخلوا عليه بالسيوف. ففر المعظم إلى أعلى البرج وأغلق بابه، والدم يسيل من يده، فأضرموا النار في البرج، ورموه بالنشاب فألقى نفسه من البرج... وفر المعظم هاربًا إلى البحر... وسبحوا خلفه في الماء، وقطعوه بالسيوف قطعًا، حتى مات جريحًا حريقًا غريقًا...".
فر الملك المعظم هاربًا إلى البحر، فسبحوا خلفه في الماء، وقطعوه بالسيوف قطعًا، حتى مات جريحًا حريقًا غريقًا.
ستشهد الدولة المملوكية انقلابا جديدا بعد بضع سنوات. يذكر أبو الفداء المتوفى 732هـ في كتابه "المختصر في أخبار البشر" أن نائب السلطنة سيف الدين قطز سينقلب على الملك المنصور نور الدين ابن الملك المعز عز الدين أيبك. يقول أبو الفداء: "وفي أواخر هذه السنة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة في أوائل ذي الحجة قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك وخلعه من السلطنة... واستقر قطز في ملك الديار: المصرية وتلقـب بالملـك المظفـر...". يمكن القول إن هذا الانقلاب لم يشهد إراقة للدماء كسابقه. ويقال إن الشيخ العز بن عبد السلام أفتى بشرعية ما فعله قطز، لأن الملك المنصور لم يكن إلا طفلًا صغيرًا، ولم يكن بوسعه أن يقوم بأعباء الحكم والسلطنة. كان قطز هو الأجدر بقيادة الجيش وإدارة الدولة للتصدي لخطر المغول الذين اجتاحوا سوريا واستعدوا لغزو مصر.
سيلقى قطز المصير نفسه بعد انتصاره على المغول في سنة 658هـ. تتحدث المصادر التاريخية أن بطل عين جالوت سيتعرض للاغتيال من قِبل بعض أمراء المماليك الذين دبروا انقلابًا عسكريًا ضده في سوريا. سيعتلي ركن الدين بيبرس البندقداري عرش مصر عقب مقتل قطز معتمدًا على القاعدة التي تمنح الحكم لمن يقتل السلطان السابق.
• في الدولة العثمانية
عرفت الدولة العثمانية الكثير من وقائع الانقلابات العسكرية عبر تاريخها. اعتاد الأمراء العثمانيون على انتهاز كل فرصة ممكنة للوصول للعرش، واستعانوا على ذلك بفيالقهم المدربة المعروفة باسم الإنكشارية.
وقع التمرد العسكري الأشهر في تاريخ الدولة العثمانية في بدايات القرن الحادي عشر الهجري. ارتقى السلطان عثمان الثاني لكرسي السلطنة في تلك الفترة بعد عزل عمه السلطان مصطفى الأول. عزم السلطان الجديد على اجتياح الأراضي البولندية، وقاد جيوشه لقتال البولنديين، ولكن المعركة انتهت بتوقيع الصلح بين الطرفين.
أعدم الإنكشارية السلطان عثمان الثاني، واستقدموا السلطان مصطفى الأول ليعتلي العرش ويصبح ألعوبة يحركونها كيفما أرادوا.
يتحدث محمد فريد في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية" عن الظروف التي مهدت للانقلاب العسكري على عثمان الثاني، فيقول: "...فحنق السلطان على الإنكشارية من طلبهم الراحة وخلودهم إلى الكسل وإلزامه على الصلح مع بولونيا بدون تتميم قصده؛ أي ضمها إلى أملاكه، وعزم على إبطالها وإفنائها -يقصد فرقة الإنكشارية- عن آخرها. ولأجل التأهب لتنفيذ هذا الأمر الخطير أمر بحشد جيوش جديدة في ولايات آسيا وتنظيمها وتدريبها على القتال حتى إذا كملت عدة وعددًا استعان بها على إبادة هذه الفئة الباغية. وشرع فعلًا في نفاذ هذا المشروع، لكن أحسَّ الإنكشارية بذلك فهاجوا وماجوا وتذمَّروا، واتفقوا على عزل السلطان... ولم يكتفوا بعزله، بل هجموا عليه في سرايه وانتهكوا حرمتها، وقبضوا عليه بين جواريه وزوجاته وقادوه قهرًا إلى ثكناتهم موسعيه سبًّا وشتمًا وإهانة مما لم يسبق له مثيل في تاريخ دولتنا العلية". أكمل قادة الإنكشارية انقلابهم في 1031ه، عندما قاموا بإعدام السلطان عثمان الثاني، واستقدموا بعدها السلطان المعزول مصطفى الأول ليعتلي العرش، وليصبح ألعوبة يحركونها كيفما أرادوا.