أُعيد افتتاح آيا صوفيا كمسجد في الرابع والعشرين من يوليو سنة 2020. أقيمت صلاة الجمعة في هذا المكان التاريخي للمرة الأولى منذ 86 سنة كاملة. نستعرض في هذا المقال تاريخ آيا صوفيا، لنعرف كيف تحول ذلك المكان المهم من معبد وثني إلى كنيسة مسيحية إلى مسجد إسلامي إلى متحف. ولنرى كيف أثار الإعلان عن إعادته لمسجد في 2020 عاصفة من الجدل بين المؤيدين والمعارضين.
كاتدرائية أرثوذكسية
أُسست مدينة بيزنطة القديمة في أواسط القرن السابع قبل الميلاد. اتخذ منها الإمبراطور قسطنطين الأول عاصمة للقسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية في سنة 335م وسماها بالقسطنطينية نسبةً إليه. كان هناك معبد وثني قديم ينتصب في تلك المدينة بالقرب من مضيق البسفور. حافظ الإمبراطور على هذا المعبد بعض الوقت قبل أن يحوله إلى كنيسة كبيرة عُرفت باسم آيا صوفيا.
عاشت صوفيا في مدينة البدرشين بمصر في عصر الإمبراطور دقلديانوس في القرن الثالث الميلادي. تذكر المصادر الدينية الأرثوذكسية أن صوفيا كانت تعبد الأوثان في بداية حياتها، ولكنها تحولت في شبابها إلى المسيحية ورفضت كل محاولات الوالي الروماني لرجوعها إلى الوثنية مرة أخرى. تم قطع رأسها في نهاية المطاف، وانتشرت بين الناس قصة المعجزات والكرامات التي أحاطت بجثمانها!
يتحدث المؤرخون أن الإمبراطور قسطنطين الأول وأمه القديسة هيلانة سمعا بالمعجزات المرتبطة بصوفيا. فأرسلا من أحضر جثمان القديسة من مصر، ودفناه في مكان المعبد القديم ببيزنطة. ثم أقاما كنيسة كبيرة في هذا المكان. وسُميت هذه الكنيسة باسم القديسة المصرية صاحبة المعجزات!
توفي قسطنطين الأول سنة 337م. وخلفه ابنه قنسطنس الذي قام ببعض أعمال التوسعة في كنيسة آيا صوفيا. تعرضت الكنيسة للتخريب أثناء نشوب بعض الحروب الأهلية في بدايات القرن الخامس الهجري. حاول الإمبراطور ثيودسيوس الثاني أن يعيد بناء الكنيسة سنة 415هـ.
ظلت الكنيسة على حالها حتى اندلعت الثورة الشعبية ضد الإمبراطور جيستنيان سنة 532م. تعرضت الكنيسة للحرق والتدمير فضلًا عن الكثير من أعمال النهب والسرقة. قضى جيستنيان على الثورة. وعزم على بناء كنيسة عظيمة فاستدعى كل من أنثيميوس من تراليس وإيزيدور المليطي وكلفهما ببناء هذا المعبد غير المسبوق. يذكر المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه الموسوعي "قصة الحضارة" أن عشرة آلاف عامل اشتركوا في بناء آيا صوفيا. وأن جيستنيان أنفق على البناء ما يزيد عن 300 ألف رطل من الذهب. يقول: "...وأمر حكام الولايات بأن يبعثوا إلى الكنيسة الجديدة بأجمل ما بقي من المخلفات القديمة، وجيء بعشرات الأنواع والألوان من الرخام من مختلف الأقطار وصبت في النقوش والزينات مقادير هائلة من الذهب، والفضة، والعاج، والأحجار الكريمة. واشترك جيستنيان نفسه اشتراكًا عمليًا في تخطيط البناء وإقامته... وتم بناء الصرح العظيم في خمس سنين وعشرة أشهر؛ وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر من عام 537م أقبل الإمبراطور والبطريق ميناس يتقدمان موكبًا مهيبًا لافتتاح الكنيسة المتلألئة الفخمة...".
تذكر الروايات التاريخية أن جيستنيان سمى الكنيسة الجديدة باسم آيا صوفيا. لا نعرف إذا كانت التسمية مأخوذة من اسم القديسة القبطية صوفيا أم أن الإمبراطور قصد أن يطلق عليها "الحكمة الإلهية"، وهي الترجمة الحرفية للاسم اليوناني آجيا صوفيا.
تؤكد المراجع التاريخية أن جيستنيان اندهش لمّا تجول داخل الكنيسة الجديدة. يحكي البعض أنه قال: "المجد لله الذي قدَّر أني جدير بإنجاز هذا العمل العظيم، لقد جاوزت فيه قُدرة سليمان وتفوقت عليه". كان الإمبراطور البيزنطي يقارن بين التحفة المعمارية التي شيدها وبين الهيكل المقدس الذي بناه الملك سليمان -وهو نفسه النبي سليمان عند المسلمين- في أورشليم منذ قرون!
حظيت كنيسة آيا صوفيا منذ ذلك الوقت بمكانة مهمة في الوجدان المسيحي الأرثوذكسي. اُعتبرت واحدة من أهم أماكن العبادة عند المسيحيين الشرقيين. ظهر ذلك سنة 628م، عندما استعاد الإمبراطور البيزنطي هرقل "الصليب المقدس" -وهو الصليب الذي صُلب عليه المسيح بحسب المعتقد المسيحي- من الفرس. ووضعه في كنيسة آيا صوفيا لفترة قبل أن يعيده مرة أخرى لأورشليم. كانت آيا صوفيا أيضًا مقرًا لبطريرك الروم الأرثوذكس لقرون طويلة.
تحدث الكثير من الرحالة والزائرين عن أهمية كنيسة آيا صوفيا في العصور الوسطى. على سبيل المثال، أورد ابن بطوطة المتوفى 779هـ في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" أخبار زيارته للقسطنطينية سنة 733ه. أسهب الرحالة المغربي في وصف الكنيسة العظيمة، فقال: "وهي تسمى عندهم آيا صوفيا... وهي من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف به فكأنها مدينة. وأبوابها ثلاثة عشر باباً، ولها حرم هو نحو ميل، عليه باب كبير، ولا يمنع أحد من دخوله... وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقيمون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها، ولا يدعون أحدًا بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة، مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع، وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها، حتى صارت صليباً. وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب، وحلقتاه من الذهب الخالص. وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف، وأن بعضهم من ذرية الحواريين. وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف. وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله. ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحًا إلى زيارة هذه الكنيسة، ويأتي إليها البابا مرة في السنة...".
تعرضت كنيسة آيا صوفيا لبعض أعمال التخريب والنهب سنة 1204م. كان زعماء الحملة الصليبية الرابعة الذين خرجوا من أوروبا لغزو مصر قد غيروا خطتهم وعزموا على الاستيلاء على القسطنطينية. نُهبت الكنيسة العظيمة من قِبل الغزاة. تحولت بعدها لكنيسة كاثوليكية تابعة لبابا الفاتيكان. عادت آيا صوفيا مرة أخرى لأحضان الأرثوذكسية سنة 1260م بعد أن تمكن الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثامن باليولوج من استعادة القسطنطينية.
مسجد إسلامي
تمكن السلطان العثماني محمد الثاني -والذي سيُعرف لاحقًا باسم محمد الفاتح- من الاستيلاء على مدينة القسطنطينية في التاسع والعشرين من مايو سنة 1453م. يذكر المؤرخ الإنجليزي فيليب مانسيل في كتابه "القسطنطينية، المدينة التي اشتهاها العالم" أن السلطان نادى في جيشه "لكم الأسرى والغنائم، أما بنايات المدينة فهي لي". توجه محمد الفاتح بعدها لآيا صوفيا "ترجل، وانحنى على الأرض وأخذ قبضة من التراب، ثم نثرها فوق عمامته، تعبيرًا عن التواضع لله".
قام المسلمون المنتصرون بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد. صلى العثمانيون صلاة الجمعة الأولى فيه خلف الشيخ آق شمس الدين بعدما بنوا منبرًا ومحرابًا ومئذنةً. عمل العثمانيون كذلك على وضع ستائر لتغطية الأيقونات والصور المسيحية الموجودة على الجدران.
قام السلطان محمد الفاتح فيما بعد ببناء مدرسة بجوار آيا صوفيا. واعتبرت تلك المدرسة نواة جامعة إسطنبول التي ستظهر بعد فترة. بُنيت مجموعة من المآذن، ونُقشت أسماء الله الحسنى وبعض آيات القرآن وأسماء النبي والصحابة على جدران وأسقف المسجد في عهود السلطان مراد الثالث والسلطان سليم الثاني والسلطان بايزيد الثاني. كان مسجد آيا صوفيا هو الجامع الرئيس في إسطنبول حتى قام السلطان أحمد الأول ببناء الجامع الأزرق في سنة 1616م.
قام الكثير من الشعراء المسلمين بتخليد لحظة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد. على سبيل المثال أنشد الشاعر المصري أحمد شوقي في بدايات القرن العشرين قصيدة طويلة جاء في مطلعها:
كَنيسَةٌ صارَت إِلى مَسجِدِ... هَدِيَّةُ السَيِّدِ لِلسَيِّدِ
كانَت لِعيسى حَرَماً فَاِنتَهَت...بِنُصرَةِ الروحِ إِلى أَحمَدِ
متحف
أُلغيت الخلافة العثمانية في الثالث من مارس سنة 1924م. تمكن مصطفى كمال أتاتورك من القضاء على قوة السلطنة العثمانية. وأعلن أن تركيا الجديدة ستقوم على مبادئ العلمانية البعيدة عن الدين. تماشيًا مع ذلك الإعلان قرر مجلس الوزراء التركي سنة 1934م تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف.
أثار هذا القرار الكثير من الجدل داخل الأوساط الإسلامية في تركيا. نادى الكثيرون بإعادة آيا صوفيا كمسجد تُقام فيه شعائر الدين الإسلامي. كان الشاعر التركي عثمان يوكسل سردنغتشي الذي أُعدم سنة 1983م واحدًا من هؤلاء. يتحدث سردنغتشي في إحدى قصائده عن آيا صوفيا، فيقول: "آيا صوفيا! أيها المعبد العظيم، لا تقلق سيحطم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحولونك إلى مسجد، ويتوضؤون بدموعهم ويخرون سجدًا بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا الفتح الثاني، وسيكتب الشعراء عنه الملاحم، وسيصدح الآذان من جديد وأصوات التكبير من تلك المآذن الصامتة اليتيمة، وستتوهج شرفات مآذنك بالأنوار تقديسًا لله وشرف نبيه، حتى أن الناس سيظنون أن الفاتح بعث من جديد. كل هذا سيحدث يا آيا صوفيا، والفتح الثاني سيكون بعثًا بعد موت، هذا أمر أكيد لا تقلق، وهذه الأيام باتت قريبة، ربما غدًا أو أقرب من غد".
مسجد مرة أخرى
ظلت آيا صوفيا متحفًا منذ 1934م إلى 2020م. عقدت المحكمة العليا في تركيا جلسة قضائية في الثاني من يوليو سنة 2020م، إثر رفع جمعية حماية البيئة والآثار دعوى ضد قرار مجلس الوزراء عام 1934 والذي قضى بتحويل آيا صوفيا إلى متحف. أصدرت المحكمة في العاشر من يوليو حكمًا بإلغاء قرار 1934م. وقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قرارًا بنقل تبعية آيا صوفيا من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية، وتحويلها للعبادة. وألقى بيانًا جاء فيه "...لقد قامت "المحكمة الإدارية العليا"، اليوم بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، والذي قضى بتحويل "آيا صوفيا" في مدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف. في الواقع لم يكن هذا القرار الذي تم اتخاذه خلال فترة الحزب الواحد عام 1934 خيانة للتاريخ فحسب، بل أيضا ضد القانون. لأن "آيا صوفيا" ليست ملكًا للدولة ولا أي مؤسسة فهي ملك لوقف السلطان محمد الفاتح. وبموجب القرار الصادر عن المحكمة عاد المكان ثانية إلى مسجد، نعم بعد 86 عامًا سيعود للخدمة كمسجد كما بُيّن في الوقف التابع للسلطان محمد الفاتح، ونأمل أن يجلب قرار إعادته إلى أصله، الخير للأمة الإسلامية والبشرية جمعاء".
أثار قرار المحكمة التركية عاصفة من الجدل. أيد الكثير من المسلمين القرار واعتبروه ردًا لحقهم المسلوب في الحقبة الكمالية العلمانية. دعمت السلطات التركية هذا الرأي عندما نشرت وثيقة تاريخية منسوبة إلى السلطان محمد الفاتح. أكدت تلك الوثيقة جامع آيا صوفيا وقف مملوكًا للسلطان محمد الفاتح وأنه لا يحق لأحد المساس به. ورد في الوثيقة المؤرخة بالأول من يونيو سنة 1453م "أي شخص قام بتغيير هذه الوقفية التي حولت آيا صوفيا إلى مسجد، أو قام بتبديل إحدى موادها، أو ألغاها أو حتى قام بتعديها، أو سعى لوقف العمل بحكم الوقف الخاص بالمسجد من خلال أي مؤامرة أو تأويل فاسق أو فاسد، أو غير أصله، واعترض على تفريعاته، أو ساعد وأرشد من يقومون بذلك، أو ساهم مع من قاموا بمثل هذه التصرفات بشكل غير قانوني، أو قام بإخراج آيا صوفيا من كونه مسجدًا، أو طالب بأشياء مثل حق الوصاية من خلال أوراق مزورة، أو سجله (المكان) في سجلاته عن طريق الباطل أو أضافه لحسابه كذبًا، أقول في حضوركم جميعًا أنه يكون فقد ارتكب أكبر أنواع الحرام واقترف إثمًا".
على الجهة المقابلة، قوبل قرار المحكمة التركية باستهجان وغضب الكثير من المؤسسات الدينية والثقافية حول العالم. أعرب بابا الفاتيكان، فرنسيس الثاني، عن خيبة أمله إزاء تلك الخطوة، قائلًا: "يتجه فكري إلى اسطنبول وأفكر في آيا صوفيا وأشعر بالألم البالغ". وأعلن الأمين العام لمجلس العالمي للكنائس -والذي يمثل 350 كنيسة مسيحية- أنه بعث برسالة للرئيس التركي يعبر فيها عن "الحزن والاستياء" إزاء قراره تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد. كذلك، أعربت منظمة اليونيسكو عن أسفها العميق لقرار تركيا بتغيير وضع متحف آيا صوفيا التاريخي.
جاء عدد من الردود الرافضة من جانب بعض المؤسسات الإسلامية أيضا. اعتبر مستشار مفتي مصر أن قرار الرئيس التركي "لعبة سياسية خطيرة"، وأوضح "أن توقيت وملابسات هذا الحدث تشير إلى أن هذا القرار يحمل فقط طابعًا سياسيًا ويمكن اعتباره محاولة من قِبل الرئيس التركي لعرض نفسه بطلًا يزعم أنه يحمي المقدسات الإسلامية ويحي عظمتها".